إن الإنسان ليس له قيمة كبيرة من ناحية الزمان، وليس له قيمة كبيرة من ناحية المكان، وليس له قيمة كبيرة من ناحية المادة، التي يتكون منه جسمه، فالإنسان زمانيًا لا يشكل شيئًا يذكر من عمر الحياة الدنيا، مهما عاش، ومهما امتد به العمر، وطالت به السنون، فعمره قصير جدًا سرعان ما يتقضى ويزول، فالإنسان كما عرفه الحسن البصري بضعة أيام، إذا انقضى يوم انقضى بضع منه، على أن هناك مخلوقات أطول من الإنسان عمرًا.
والإنسان مكانيًا لا يشكل شيئًا يذكر من مساحة الكون، مهما عظم بدنه، وزاد وزنه، وتضخمت بنيته، فهو صغير يشغل حيزًا من فراغ لا يكاد يذكر، ويشغل مساحة لا تكاد أن تظهر، على أن هناك مخلوقات أضخم من الإنسان حجمًا، وأكبر منه جسمًا، وأثقل منه وزنًا.
والإنسان ماديًا جسمه مكون من تراب؛ إذ يتألف من مجموعة العناصر التي يتكون منها التراب، فكل عنصر في تراب موجود في بدن الإنسان؛ بحيث لو حُلل جسم الإنسان لوجد مجموعة من العناصر التي يتكون منها التراب؛ بعضها من الحديد، وبعضها من اليود، وبعضها من المغنيسيوم، وبعضها من الفسفور، وبعضها من الكالسيوم وزن هذه العناصر نحو 500 جرام.
يقول الله تعالى:{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران ـ 59)، ويقول الله تعالى:{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب} (الحج 5).
إن حقيقة الإنسان، ورسالته في الحياة لا يكمنان في جسمه المكون من عظم، ولحم، وشحم، وعصب، ودم، وأنسجة، وأجهزة وخلايا وأمعاء وغيرها، وإنما يكمنان في روحه التي تسري بين جنبيه، يقول الله تعالى: { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} (ص 71 ـ 74).
ولا ريب أن الروح سر من أسرار الله تعالى، يقول تعالى:{يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} (الإسراء ـ 85).
وصدق من قال:آمن بالله المؤمن ولم يره، وجحده الكافر، ووجوده دال على وجوده، فكيف يخفى والشمس بعض آياته، أم كيف يدرك والروح بعض أسراره.
وهكذا يتضح أن الإنسان بروحه فإذا ما خرجت روحه من بدنه، وفارقت جسمه، أسدل الستار على قضية حياته، وتحول إلى جثة هامدة لا حراك لها سرعان ما تتحلل وتعود إلى أصلها التراب، يقول الله تعالى:{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه ـ 55).
فالسعيد من عاد إلى ربه وقد تزود من الدنيا بزاد التقوى؛ فمن أراد أن يكون محبوبًا عند الله تعالى عليه أن يتقي الله، عليه أن يطيع الله، عليه أن يكون مع الله في كل أحواله، فمن كان مع الله كان الله معه، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى:{إن الله مع الذين واتقوا والذين هم محسنون} (النحل ـ 128)، ويقول تعالى:{واعلموا أن الله مع الصابرين}(البقرة 194)، ويقول تعالى: { إن الله مع المتقين}(البقرة ـ 153)،ويقول سبحانه وتعالى:{وإن الله لمع المحسنين} (العنكبوت ـ 69)،فمن يتصف بهذه الصفات العظيمة الجليلة التقوى، والإحسان، والصبر يكن الله معه، ومن كان الله معه، فمن عليه؟!.
ومن أراد أن يكون محبوبًا عند الناس عليه أن يكون معهم بأخلاقه الكريمة، عليه أن يعاملهم كما يحب أن يعاملوه؛ فإن كانوا أكبر منه سنًا فليعاملهم معاملة الوالدين، وإن كانوا في سنه فليعاملهم معاملة الإخوة، وإن كانوا أصغر منه سنًا فليعاملهم معاملة الأولاد، فمعاملة الإنسان للناس هي زرعه، ومعاملة الناس له هي حصاد زرعه، والحصاد إنما يكون من جنس الزرع، فمن وجد أن الناس معه في السراء والضراء، وفي الأفراح والأتراح، وفي الشدة وفي الرخاء، فهو بخير، وفي خير؛ فهذا علامة على محبة الله تعالى له، ودليل على رضا الله عنه؛ فليشكر الله عزَّ وجلَّ، وليستمر على نهجه القويم، وليحرص على مزيد من الإحسان، والخير، والبر؛ فميدان ذلك واسع فسيح، ومضماره الرحب شاسع {وفي ذلك فليتنافسِ المتنافسون} (المطففين ـ 26)، ومن وجد أن الناس معه بخلاف ذلك؛ فلا يلوم إلا نفسه، وعليه أن يتدارك الأمر، ويحسن معاملة الناس، ويتلطف بهم.

د/ يوسف بن ابراهيم السرحني