أقف على شاطيء استاندرا، ميمما وجهي شطر المحيط، استمع لـ أمواج البحر الضاج بحكايا البحارة العُمانيين الذين رست سفنهم على الساحل، وأنزلوا الصواري في الميناء، ثم انطلقوا يذرعون البلاد، ويخطون صفحات مليئة بالعز والفخر.
كانت مراكب السفر ملقاة على الميناء.. وسفن الرحالة بدت متهاوية بتقادم الزمن عليها، واشخاص تائهون، ينظرون جهة البحر ـ مثلي ـ علّ سفينة تأتي من البعيد، أو بحارة يضعون مرساتهم على الشاطيء، وينزلون في الجزيرة.
كانت أغنية قديمة، تتردد على مسامعي، وأنا اصافح وجه الريح، واتنسم عبق الذكريات التي يضج بها المكان.. قبل أن أجد نفسي وسط رقصة شعبية، وأغاني فرح تؤدى على مدخل البرلمان القمري.. احتفاء بالمؤتمر الدولي المقام هناك "علاقات عُمان بدول القرن الأفريقي".

كانت ملابس العُمانيين والقمريين تتمازج وتتداخل بألوانها وهيئتها وكأنها لباس واحد يكسو الممرات الواصلة إلى قاعة إقامة مؤتمر علاقات عُمان بدول القرن الأفريقي.. كان الجميع في حراك ونشاط بانتظار وصول كبار الشخصيات، والمدعويين من الوزراء والسفراء ورجال الثقافة والإعلام.. وقبل كل هؤلاء في انتظار وصول الرئيس غزالي عثمان رئيس جمهورية جزر القمر المتحدة.
في القاعة المقابلة، كان الأصدقاء أحمد الصباحي وهارون الزدجالي وزاهر الإسماعيلي في قسم المعارض بهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، يتأهبون هم الأخرون لافتتاح المعرض، واستقبال الجمهور العريض الذي ينتظر أن يزور هذا المعرض، بكل ما يحمله من وثائق وصور ومخطوطات تؤرخ للعلاقات والصلات القديمة بين السلطنة ودول شرق أفريقيا بصفة عامة، وجمهورية جزر القمر بصفة خاصة.
أما في الغرفة الصغيرة، الواقعة على الممر الجانبي للبرلمان، والتي وضع على بابها ورقة صغيرة حملت عنوان "المركز الإعلامي"، فقد كان خميس الجرادي وأحمد الروشيدي، يجهزان عدسات التصوير لتوثيق الحفل.. فيما يجلس جيفر الصلتي على شاشة الحاسوب وهو يعد التقرير الأخباري عن يوم المؤتمر الأول، ويتنقل وليد العدوي بين قاعة المؤتمر والمركز الإعلامي لمتابعة أمور الباحثين.
كنت وعاصم الشيدي وبقية الرفاق من الصحفيين نتوزع في ارجاء "المركز الإعلامي" بين من يناظر شاشة الحاسوب، أو شاشة الهاتف، وبين من يتحدث في مواضيع شتى، ويشرب فنجان قهوة، مطمئنا إلى حال العالم خارج باب الغرفة، وأن كل شيء يسير وفق ما خطط له.
بدت عايدة الزدجالي في ركن من الغرفة أو المركز الإعلامي مشغولة باستكمال كتابة مقدمة حفل افتتاح المؤتمر الذي ستقدمه بعد لحظات، واختيار العبارات المناسبة لكلمة التقديم.
كان الكل متوترا.. ومزحوما بالأعمال التي عليه أن يقوم بها، فبين من ينسق لفقرة إذاعية ستبث على الهواء من هذا المكان، ويستلزم أن يكون ضيف الفقرة حاضرا، والأسئلة الموجهة إليه جاهزة، وبين من يتواصل لحجز مساحة مناسبة للحدث في لصحيفته، ومن يسأل عن جاهزية بعض الكلمات التي ستلقى خلال الاحتفال، غير أنني في زحمة كل ذلك كنت هادئا، ومنسجما مع ثمار الليتشي التي احضر خميس الجرادي كمية كبيرة منها، "لزوم عمل اليوم الأول" وهو اليوم الذي وصفه الجرادي بأنه "اليوم الأهم".. فالحضور الرسمي، وحجم البرنامج والفعاليات المقامة، تجعل المرء في ربكة شديدة، وبالكاد يتذكر ما عليه القيام به، في ظل تزاحم الأعمال.
وحين دنت لحظة الإفتتاح.. كنا جميعا ـ من كان المعرض أو المركز الإعلامي ـ في قاعة المؤتمر، نستمع إلى فقرات الاحتفال والكلمات التي تضيء أهمية المؤتمر، والعلاقة بين السلطنة وجمهورية جزر القمر في مختلف المجالات، كانت كلمة فخامة الرئيس عثمان غزالي رئيس جمهورية القمر المتحدة، مؤثرة من جهة تناولها للعلاقات بين السلطنة وبلاده، والتواصل القديم بين الشعبين الشقيقين..
استوقفني قول الرئيس: نحن ورثة لثقافة شعبين تملكان تاريخا غنيا مشتركا منحوتا في احجار قصورنا الملكية وعلى أسوار مدننا التي ترجع إلى القرون الوسطى كشعبين غارقين في تاريخ مشترك مليء بالأساطير والأبطال المشتركة من بداية التاريخ المؤثر لنبي الله أيوب عليه السلام والى القصة الجميلة لملكة سبأ إلى البحار سندباد وإلى مركو بولو.
ولا أخفي حينذاك مشاعر الفخر والأ¬عتزاز التي انتابتني وأنا استمع لكلمة الرئيس القمري ولأوراق المؤتمر بعدئذ، والحديث عن أمجاد عُمان، واتصالها القديم بالقرن الأفريقي نتيجة للعديد من الهجرات الطوعية التي حدثت على مر العصور.
كان ثمة من يقول، أن وجود العُمانيين في الساحل الأفريقي كان منذ القرن الأول للميلادي، أو أن ذلك يعود إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بقرون موغلة. إذ روي أن هجرات عربية بدأت تفد إلى جزر القمر منذ عهد نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، وقد ذكر المسعودي أن أهل المراكب من العُمانيين يقطعون الخليج إلى جزيرة قنبلو في بحر الزنجي، التي رجح بعض المؤرخين أن جزيرة قنبلو هي جزيرة أنجوان بجزر القمر.
وكما شاهدت من الأثار الباقية في أرجاء الجزيرة، فقد ساهم العُمانيون مساهمة كبيرة في نقل الحضارة العربية الإسلامية ليس كتجار فقط وإنما كدعاة وحملة رسالة سلام وتعايش، فقد كانوا يتحلون بخلق حسن وعشرة طيبة ومعاملة سمحة لم يألفها الأفارقة من قبل من الوافدين الأجانب، لذلك تمكن العُمانيون من الاندماج مع السكان وكونوا طبقة اجتماعية من التجار ساعدت كثيرا على ازدهار التجارة في شرق افريقيا وهذا ما أكدته جل المصادر الفرنسية بعد احتلال فرنسا للمنطقة.
في جزر القمر استوطن العُمانيون مع سكان منطقة الخليج العربي وبالتحديد اليمنيين وبعض التجار الفارسيين خلال العصور الوسطى، لذلك استطاعوا تكوين ممالك في بعض الجزر القمرية منها جزيرة أنجوان واستحوذوا على جلّ الموانئ وتزوجوا من سكان هذه الجزر حتى أصبحت العديد من الشركات الأجنبية تعتمد عليهم هناك وعليه استطاعوا تشكيل قوة اقتصادية كبيرة وكانوا وراء بناء العديد من المساجد على الطراز العُماني وأثروا على كل مناحي الحياة الاقتصادية منها والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية.
كانت القواسم المشتركة، والانصهار العُماني في المجتمع القمري.. والتشابه الكبير بين بعض العادات والتقاليد والطقوس والممارسات الحياتية اليومية، تؤكد أن العلاقة والتواصل الذي كان بين عُمان وأرخبيل جزر القمر كانت علاقة وثيقة، وتواصل مستمر، فلم يأت العُمانيون إلى هذه البلاد كغزاة أو فاتحين، أو سعيا لتوسيع حدود الإمبراطورية العُمانية، فحسب.. بل كان الهدف أسمى من كل ذلك، وهو ما يتضح من الإسهام الفعال في بناء حضارت هذه الدول وتنميتها وازدهارها, ونشر الإسلام وسماحته.
في المعرض الوثائقي.. رحت أعيد قراءة المخطوطات والوثائق كما لم أقرأها من قبل، كنت أقف أمام كل وثيقة، واتمعن في تفاصيل الصورة، وما بين السطور، ولذلك لم أتوان لحظة في شرح بعض المعروضات من الوثائق القديمة والمراسلات القائمة بين سلاطين عُمان وأفريقيا وبعض الشخصيات الأجنبية، وقد شرحت ـ مثلا ـ للدكتورة بدرية الشعبيية قوة عُمان وضعفها من خلال مراسلات السلطان فيصل بن تركي، والمعاهدات التجارية التي أبرمها مع بريطانيا، وكيف أن لغة خطاب هذه الرسالة، أو بنود هذه المعاهدة توضح مدى قوة عُمان أو ضعفها.
كانت أيام المؤتمر الثلاث تمر عليّ، وكأني رهين مبنى البرلمان، وحبيس قاعاته الثلاث أتنقل فيها كل صباح ومساء.. ولذلك كان الخروج من هذا المكان، ولو عبر المسير إلى الفندق، أو اكتشاف المنطقة المحيطة، متعة كبيرة، أجد نفسي تحلق في العوالم من حولي.. في الناس الذين يعبرون الشارع، أو الذين يفترشون الطريق، أو الذين أتصادف معهم، فيعجبون من لباسي المشابه للباسهم..
لم يكن الفتى العُماني، وهو في أرض عربية غريب الوجه واللسان، فقد كان هناك من يفهم بعض الكلمات والجمل العربية التي أنطق بها، ولو بصورة مكسرة، حتى يفهمها محدثي.
كنت حين أقول لبعضهم أنني من عُمان.. أرى صمتا في وجهه، وكأن ذاكرة تشتعل في رأسه، وتبحر به إلى سواحل الخليج، حيث الصواري تهبط على مراسيء صور ومسقط.. وكان البعض يحكي عن قريب له من أصول عُمانية، أو يحكي أنه يتمنى زيارة عُمان، هذا البلاد التي يتردد اسمها كثيرا في ذاكرته.
لم تكن جزر القمر بعيدة عن عُمان، وأن بدت جغرافيا كذلك، فقد كانت حبال الوصل ممتدة بين البقعتين، والرحلات بين البلدين لم تتوقف، حتى لو أنزلت السفن اشرعتها، وتكسرت مجاديف المراكب، وبدت البواخر منسية في موانيء موروني والجزر من حولها، فقد كانت الطائرات تمد اشرعتها، وتنفث محركاتها للوصول إلى هذه البلاد من محطات شتى.. والأمل الذي يحدونا هو أن تزيد عدد الرحلات.
وفي الفندق.. وآبان عودتنا المسائية، كانت روائح القهوة العربية تعبق في المكان، كنت أعرف مصدر هذه الرائحة، واتتبعه حتى الوصول إلى مركزه.. كانت غرفة خميس الجرادي بمثابة مطبخ القهوة العربية برائحتها الزكية، وكان الأصدقاء من موظفي هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية يلتقون عند الشاطيء الواصل بحديقة الفندق الخلفية.. هناك يتسامرون ويتجاذبون اطراف الحديث على قرقعة فناجين القهوة.
كانت حكايا كثيرة تنبثق من رحم المكان، تنبيء عن الذين وصلوا هذه البلاد قبل سنوات طويلة واستقروا فيها، ولم يجد أبناؤهم في زمن مضى باعثا للرحيل عنها، حتى إذا اتضحت ملامح عُمان في عيونهم، وأشتعل الشوق في صدورهم، يمموا جهتها، وأبحروا ناحيتها، وعاد بعضهم إلى وطنه بعد غربة طويلة، بينما رأى البعض الأخر أن الجزر البعيدة صارت له موطنا، وأناسها صاروا أهلا له، ولذلك أستقر هناك.. وواصل حياته.
كان بعض العُمانيون المشاركون في المؤتمر يسترجعون ذكرياتهم في الشرق الأفريقي، ويستعيدون حكاياتهم هنا، رأيت في عيون بعضهم دموع الشوق، كما هو الشوق والحنين الذي وجدته عند بعض القمريين، كان بعضهم يأتي إلينا ليقص الأخبار التي يعرفها، ويحكي لنا عن وجوده في البلاد، أو سفره منها وهو صغير، كانوا يفتشون عن من يسمع لهم، وينقل حكاياتهم، وقد وجدوا الأذان الصاغية التي تستمع إليهم.
كان عبدالله ودعان واحد من القمريين ذو الأصول العُمانية، وقد تصادفنا معه كثيرا، حد أنه قدم دعوة للوفد العُماني المشارك في المؤتمر للإحتفاء بهم بعد ختام الفعاليات، ورغم أنه أستقر في جزر القمر استقرارا دائما، وكون مشاريعه التجارية، إلا أنه لم ينس البلاد التي جاء منها، ولا الديار التي عاش فيها ردحا من الزمن، وهو يتباهى أن نصفه قمري ونصفه الأخر عُماني، فجده وصل من مدينة صور العُمانية، وتزوج من هذه البلاد، وأنجب بنتا تزوجت من شخص من أصول يمينة، وأنجبت مجموعة من الأبناء، كان عبدالله واحدا منهم.
وفي أتون الحكاية.. يلتقي عبدالله بأحد أخوله العُمانيين ويدعوه وأهله لزيارتهم في مدينة صور.. ويبدأ حبل الوصل بين فرعي العائلة في جزر القمر وعُمان، حيث سافر عبدالله مع والدته للقاء أخوانها، لقاء سيختلط فيه البكاء بالفرح والسرور، وترى أم عبدالله في أحدى أخواتها نسخة منها طبق الأصل في الشكل والأسم، وبعدها تتوالى الزيارات، بين العائلتين، حد أن عبدالله يتمنى أن يلتقي كل القمريين من أصول عُمانية بأهلهم في السلطنة، وتكون الزيارات واللقاءات بينهم مستمرة.
كانت "أيامنا في القمر"، ـ وبالمناسبة فأن الكتاب الذي حمل هذا العنوان، والذي اصطحبته معي في سفري هذا، بقي مغلقا بعد الوصول إلى جزر القمر ـ كانت أيامنا تمضي سراعا، والمؤتمر طوى آخر صفحاته، وفي أخر أيامه ارسلت من المركز الإعلامي رسالتي الإخبارية الأخيرة، قبل أن أغلق جهاز الحاسوب وأحذف جميع الملفات التي به.. وأعود إلى الفندق وقد وضعت عن كاهلي حملا ثقيلا، متأهبا للسياحة والتجوال في الجزيرة فيما تبقى لي من زمن هنا.
في الفندق أكتشفت أن البريد الإلكتروني ذهب بدون مرفقات، وأن علي أن اعيد ارسال الرسالة من جديد بالمرفقات، خاصة التغطية الإخبارية.. كنت قد اجتهدت في كتابة مقدمة الخبر، وتناول جلسات المؤتمر، ومحتويات المعرض الوثائقي، ولذلك هرعت شارد الذهن من مكاني، واتجهت سريعا على غير هدى إلى مبنى البرلمان، حيث المركز الإعلامي، وحيث الأصدقاء خميس الجرادي ووليد العبري وجيفر الصلتي يحزمون أمتعتهم من هناك، ويعيدون ترتيب المكان إلى سالف عهده قبل المؤتمر.
دخلت عليهم وأنا ألهث.. باحثا عن جهاز الحاسوب الذي ارسلت منه تغطيتي الصحفية، وحين وجدته.. كان فارغا من كل شيء، بعدما قمت بحذف كل ما عليه، حتى من سلة المهملات..
لم تنجح كل الوسائل والمحاولات في استرجاع الملفات المحذوفة، وكان أن أعدت كتابة التغطية والعناوين الخاصة بها من جديد، بقدر ما استطعت، معيدا كتابة بعض الفقرات بكيفية أخرى، ثم بعد ذلك ضغطت زر الإرسال على البريد الإلكتروني، بعدما احتفظت هذه المرة بنسخة خاصة لي.
جرت أيامنا في جزر القمر سريعا.. وجدتني في اليوم التالي أركب الحافلة مع الفوج الأول الذي سيغادر البلاد القمرية.. كان أخر عهدي من ذلك حبات الليتشي التي أخذتها من طالب الخضوري، واستمتعت بها.. وأنا أنظر نحو الدرب الواصلة إلى المطار.. حيث سيكون علينا الإنتظار هناك أكثر من خمس ساعات قبل إقلاع الطائرة إلى نيروبي، مع ما سيتمخض عن سفر العودة من مفاجأت ومواقف لم تكن في الحسبان حينما نكتشف أن على مجموعة منا أن تبقى في نيروبي، حتى طائرة اليوم الثاني.. لكننا في نهاية المطاف، كنا جميعا على متن الطائرة المتجهة إلى مسقط.
كانت السماء حينئذ تمتليء بالطائرات..
وكذلك خليج عُمان.. كانت البواخر تشق عباب البحر.
وبين البحر والسماء كان مسافرون عائدون من الجزر القمرية، فيما أخرون يتأهبون للرحيل إليها.

تجوال: خلفان الزيدي
Twitter: @khalfan74