د/ جمال عبد العزيز أحمد:
ذكرنا في مقالات سابقة مفهوم المسؤولية المجتمعية وحدودها، وعرضنا نموذجا من القرآن الكريم يوضح ماهيتها وطبيعتها، وكل ما يتعلق بها، ونعرض هنا لنموذج آخر، ونبين أنه إذا لم تمكَّن مسؤولية المجتمع، وتأخذ دورها، وأنها إن لم تعمل كانت خبالاً ووبالاً على كل مَنْ في المجتمع، وإذا قام أناس بدورهم، وأدوا رسالتهم، وعرفوا الهدف من وجودهم، وهو الأخذ بأيدي الخلق إلى رحاب الحق، نجاهم الله، وجعلهم بمنأى عن الابتلاء، أما إذا أمروا وأمروا، ثم سكتوا واستمرؤوا السكوت، وعاشوا، وكأن شيئا لم يكن، عمهم الله بعذاب من عنده، ثم لم يستثنِ أحداً:(واتقوا فتنة لا تُصِيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة)، وفى سورة المائدة يقول الله تعالى مبيناً عقوبة من لا يرعوي، ولا يجد مَنْ يصده عن غيِّه فيأخذ الجميع ممن لا يتناهون عن أعمال المنكر، ويقترفون المعاصي دون رادع، ومن ليس فيهم رجل رشيد:(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان دَاوُودَ وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكراً فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون، ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم فيها خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فَاسِقُون)، وقال منبهاً على أن من سبل بقاء الحضارات، وانتشار الخيرات، واستمرار الفيوضات، وطاعة رب الأرض والسموات، وأن رهن بقاء الخير في الأرض، كل ذلك منوط بعبادة الحق، والسير في طريق الله ورسوله، والاقتداء بسيرته، وأنه إذا أدبر الناس عن ربهم أدبرت عنهم النعم، وأحاطتهم النقم، وبرحت بهم الابتلاءات، حتى افترشوا الأرض والتحفوا السموات، قال تعالى:(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفّرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون).
وكثيرة هي نماذج القرآن الكاشفة والموضحة لعاقبة الكفر، ومآل الشكر، وما يترتب على آثار كل من المعاصي، وعواقب الطاعات، والقارئ للقرآن الكريم ليعجب من جهل البشر بهذا القرآن، وما نزل فيه من شرائح المجتمعات، وأصناف الخلق، سواء أطاعوا أم عصوا، اقتربوا أم ابتعدوا، شكروا أم كفروا.
وأما النماذج من السنة المطهرة فكثيرة هي تلك الأمثلة التي توضح هذه المسؤولية المجتمعية، وخطورة ترك الواجب الدعوي، فأشهر ما يكون هنا، وما يستدعيه السياق هو حديث السفينة المشهور، الذي يتخذه الدعاة طريقًا لبيان واجب المسؤولية الفردية والجماعية، إذا اقترفت المعصية، واستشرت بين الناس، فيقوم المخلصون الفاهمون المدركون لطبيعة رسالتهم، والواعون بشرف وظيفتهم، والفرض من وجودهم بأمر الله تعالى ومطلوب السماء، حيث يروي النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) ـ رواه البخاري.
في هذا الحديث الذي هو أساس في قضية المسؤولية المجتمعية وقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشبِّه الرسول المجتمع (بأفراده وشرائحه المختلفة) بأناس ركبوا سفينة، فاقتسموا الأمكنة والمواضع فيها، فكان نصيب أحدهم أعلاها، ونصيب آخرين أسفلها، فالسفينة مثل المجتمع أو القرية أو البلدة أو المحافظة أو الدولة أو الأمة، والناس فيها قسمان تجاه أوامر الله ونواهيه، فالقسم الأول: هم أناس واعون فاهمون مدركون قائمون على منع المنكر، والتصدي له وعظة الناس ألا يرتكبوه، ومنعه ومنعهم من ارتكابه، وإزالته برويَّة ومعالجة، وتطهير الحياة، والمجتمع منه، والقسم الآخر: هم أناس واقعون في محارم الله ومعاصيه منغمسون فيها فمن تركهم وما يفعلون وما يعصون، ورضي بفعلهم، فهو مداهن راضٍ بانتشار المعاصي والرذائل والمنكرات، ولا يقوم بواجبه الشرعي المنوط به حيالها، وهو ساكت على هؤلاء الفاعلين الآثمين، غير المدركين لعواقب ما يفعلون، ومآلات ما يقترفون، فلا يغير منكراً، ولا يطهر مجتمعاً، وإنما هو سارٍ مع السارين، الذين هم في غيهم يعمهون، ومثل هذه السفينة:(التي هي المجتمع بأسره) لن تصل إلى بر الأمان، ولن تكون بمنأى عن النجاة إلا بالضرب على أيدي هؤلاء المجرمين، ومنعهم بالقوة من نقرها، وثقبها، وتخريبها وتعطيل السير فيها، فالمجتمع لن يحافظ عليه، ولن يستقر إلا بالتصدي لهم، ولا بد هنا من تشجيع المصلحين، والوقوف معهم، والأخذ بشدة على أيدي المفسدين المخربين، ودعاة الفسق والفجور فيها.
وهذا حديث شريف نستنبط منه كذلك طريقة مفيدة للتعلم والتربية من خلال ضرب الأمثال بشيء واقع محسوس ملموس مشاهد وذلك لفهم وتقريب المعقول، وبالمثال يتضح المقال.
هؤلاء الذين يسكنون في أسفلها نيتهم حسنة، وأنهم يريدون السقاية، ولا يريدون أن يؤذوا جيرانهم، ولكن فهمهم هذا سقيم ، وعقلهم هنا معوجٌّ، وفكرهم مَهين لأن خرق السفينة (الذي هو بمثابة دمار المجتمع، وإشاعة الفواحش والمنكرات فيه) عملٌ مؤثّم شرعاً ووضعاً، ويغرق كلَّ من في السفينة، فلا بد من وجود من يتصدى، ويوضِّح لهم مغبة خرقها، وعاقبة فتح خروق فيها، هذا تماما هو ما يفعله المجرمون، ويعصون في المجتمع، ويظهرون سوأته بالزنا، والسرقة، وشرب المحرمات، والمسكرات، والقتل، ونحوها من مدمِّرات الشعوب، ومزيلات النعم، فلو لم يقم أهل الحل والعقد، ورجالات القوم من الدعاة والمصلحين وتركوهم، وما يفعلون، فلن يسلموا هم أنفسهم من الدمار، وسوف يروحون مع الرائحين، ويذهبون إلى جهنم مع الذاهبين بسبب سكوتهم وصمتهم، وعدم التقدم بنصح أو عظة، أو كلمة لله رب العالمين (بما وهبوا من علم وبصيرة وسلامة فهم)، فمن يأخذ الجميع إذا سكتوا لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأنه لابد من كلمة تقال لله، ينصلح بها حال المجتمع، وتعتدل بها دفة الأمور فيه، ويقوَّم معوجه، ويستقيم مائله، ويد الله مع الجماعة، وبارك الله في مجتمع يسوده الحق، والأمر بالمعروف بضوابطه، والنهي عن المنكر بخصائصه وثوابته وآلياته الشرعية المعروفة .. فاللهم ارزقنا حب الدعوة إليك، وطريق معرفتك، وألهمنا شدنا وبصرنا جميعا بواجباتنا، واكتب لنا السير على رضاك، والعمل بهداك، وأنزل علينا رحماك، وكامل رضاك، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد له رب العالمين.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]