يعتبر مسح التراث العمراني أول الخطوات المهمة التي تستتبعها عمليات أخرى مثل تقديم النصائح والتوصيات من أجل صيانة وترميم المباني التقليدية. ولذلك فلدى عملية المسح وما بعدها يحتاج الخبير أن يعتمد منهجا يعكس فهما جيدا للمبنى وطريقة بنائه والغاية من إنشاءه أصلا. وفي الغالب، كثيرا ما تتم اتخاذ قرارات تعكس عدم فهم لطبيعة المباني التراثية، وبدلا من ذلك تعتمد على منهجيات ترميم أو حفاظ تناسب المباني المعاصرة وليس التقليدية.

تهدف عملية المسح لمنع تدمير المباني والمنشآت التقليدية، خطأ ودون قصد، اعتمادا على معلومات ومنهجيات وأساليب خاطئة تعمل بطريقة عكسية لدى إغفال ما هو مهم في عملية المسح والتوثيق. وهذه المنهجيات التي تتبع في بريطانيا مطلوبة للحد من مساوئ عمليات المسح والتوثيق الحالية والتي تسهم أحيانا وبشكل كبير في فقدان وتسارع عمليات تدهور حالات المباني التقليدية وهي غالبا لا يمكن تعويضها وتشكل مصدرا مهما وسجلا تراثيا لا يمكن استرداده. وبالإضافة لذلك هي منهجيات تساعد الخبراء على وضع تجاربهم ومؤهلاتهم في خدمة ترميم المباني التراثية مهما كانت الموارد المتاحة ضئيلة بما يسهم بشكل فعال في عملية الحفاظ وتطوير مفاهيم الإستدامة.

ويلاحظ في تجربة الحفاظ التقليدية في بريطانيا أن حوالي ربع المباني في بريطانيا هي منشآت بطرق تقليدية. ومعنى ذلك أنها مباني تم إنشاؤها اعتمادا على طرق الإنشاء القديمة – حيث تسود الجدران الحاملة المصمتة ذات السماكات الكبيرة، وليس الجدران المجوفة أو الرقيقة. وهذه الملاحظة الأولية والأساسية، المهمة، بين المباني التقليدية والحديثة، قد لا تؤخذ أحيانا بعين الإعتبار حين توثيق ومسح المباني التراثية بما ينعكس سلبا على التوصيات اللاحقة. وتبعا لذلك، يتم التعامل مع المباني التقليدية بنفس الطريقة التي يتم التعامل بها مع المباني المعاصرة حين عملية الحفاظ والترميم. وهذه تكون خامة جيدة لكارثة كبيرة فيما يتعلق بعمليات الحفاظ والترميم، حيث أنها تؤدي إلى نصائح أو توصيات غير ملائمة لطبيعة أو نمط أو أسلوب المبنى الإنشائي والتي تقرر حالة الكثير من المباني التقليدية وقدرتها على التحمل الإنشائي والتواصل الزمني وضمن المحيط في البيئة العمرانية ككل.

ويلاحظ المهتمون بعمليات الحفاظ في بريطانيا، أن الممارسات الحالية في عمليات الحفاظ لا تحقق شروط الإستدامة؛ فهي لا تحقق متطلبات الحاضر كما أنها تتجاهل المتغيرات التي تستشرف المستقبل. ويقدر بعض المنظرين في الحفاظ والمسح وتوثيق المباني أن أسباب هذه الحالة إنما هي معقدة ولا يمكن مناقشتها بسهولة، وقد تكون معالجتها تتسم ببعض الصعوبة، ومع ذلك، فإن فداحة النتائج وكبر عواقبها تعني أن السكوت وعدم عمل أي شيء، ليس حلا مفروضا ولا يمكن أن يؤخذ على أنه أحد البدائل المطروحة. ومن أهم ما تقدمه النظريات في هذا المجال هو أن فهم طبيعة عمل المباني التقليدية المراد الحفاظ عليها يمكن أن يسهم مساهمة فعالة من أجل عملية الإستدامة بنسبة لا يستهان بها من المباني القائمة المصنفة ضمن المنشآت التراثية.

ويعتبر المسح أول الخطوات العملية والمهمة لتحديد خصائص ومشكلات المباني التقليدية. وقد تراكمت في بريطانيا على مدى العشرين سنة الماضية مجموعة من الخبرات المهمة في مجال الحفاظ والترميم ومسح وتوثيق المباني التراثية والتي تشكل نهجا ومنهجية يمكن الإستفادة بشكل كبير من دروسها نظريا وعمليا على حد سواء. ومن أجل أن يصبح هذا المنهج شائعا وقابلا للحياة ومؤثرا وفاعلا يجب ان يسود تيار واتجاه آخر في عملية الحفاظ – اتجاه يبتعد عن مجرد التقييم بناء على اعتبارات معمارية أو الأهمية التاريخية فحسب، ليشمل كل الإعتبارات الأخرى الممكنة، كما يمكن تطبيقه على أكبر قدر ممكن من أنماط المباني وتصنيفاتها تبعا للوظيفة والغاية والتركيبة الإنشائية. وبرغم أهمية البعدين المعماري والقيمة التاريخية للمباني التراثية، إلا أن جوانب مهمة أخرى يجب أن تولى أهمية مماثلة مثل حالة المباني وقدرتها على العمل، او وظيفتها التشغيلية. فمثلا فللحفاظ بشكل مناسب على مبنى تراثي يجب مراعاة حالة الجدران وطبيعتها كما تم التعامل معها حين بناء المبنى، بالسماح للرطوبة بالتبخر، سواء أكان ذلك مدرجا على لائحة أعمال الحفاظ أم لا. وهذه المبادئ الأساسية هي مما يجب أن يتم مراعاته بشكل ابتدائي وأساسي لدى عملية المسح والتوثيق، وبخلاف ذلك تبدأ المشكلات بالظهور. وقد يكون من المناسب القول أن عمليات الحفاظ بشكل عام تخدم بشكل إيجابي تطوير البيئة المبنية والحد من التدهور البيئي، وهذا يتطلب الإستخدام الأمثل للموارد وكيفية التعامل معها وإدارتها، وهذا يمكن العمل على تطبيقه بتنمية منهجيات تدعم مبادئ وأسس الإستدامة من خلال منهجيات شمولية ومطورة.

تأثير المسح على الحفاظ
تؤثر نتائج المسوحات التمهيدية التي تسبق عمليات الحفاظ بصورة كبيرة ومباشرة في مدى وطبيعة التغييرات التي يمكن إجراؤها على المباني التقليدية، فضلا عن تأثيرها على الموارد المتاحة لعمليات الحفاظ وكيفية التصرف بها والتحكم فيها وتقنينها. وهي مرحلة حرجة وحساسة جدا تقرر آلية إدارة عملية الحفاظ وتستشرف ضمانات سلامة العملية برمتها إن تمت بشكل صحيح. وعملية المسح توفر الحلقة المباشرة بين الكيفية التي ندير فيها ليس فقط المباني التقليدية ولكن أيضا متطلبات التحكم بالمصادر الطبيعية والموارد المتوفرة لهذه الغاية. في بريطانيا ثمة حالات دراسة تبين كيف أن عملية المسح قد أثّرت سلبا على حالة المباني القائمة، وبخاصة حين تغيب الحساسية في إدراك الفرق بين المباني التاريخية والتراثية وبين المباني المعاصرة أو الحديثة بما أثر بشكل كبير على عملية الحفاظ لاحقا.

من اللافت أن الممارسين لعملية الحفاظ يقومون بتقديم خلاصات نتائج دراساتهم والنصائح للترميم بناء على خبراتهم الشخصية ومعلوماتهم وكذلك سوف يقومون بسبب تعليمهم الأكاديمي والتدريب الذي تلقوه بتطبيق الأساليب الحديثة للإنشاء ومبادئ الترميم والصيانة التي تلائم المباني الحديثة – بسبب طبيعة إلمامهم بها. وبناء على ذلك، فمن المحتمل جدا أن يكون الممارس والخبير الحفاظي عرضة لأن يخفق في إدراك أن مجموعة الأساليب والوسائل الحديثة وكذلك المواد هي غير متناسبة مع طبيعة أداء وتركيبة المباني التقليدية. وإن أي مسح ورصد وما يستتبعه من توصيات وملاحظات تسبق عملية الحفاظ والترميم والتي تستند لهذا الإدراك المحدود ستقود حتما وبالضرورة لمشاكل ولسوء تشخيص لحالة المباني. ولهذا فإن تأثير وأهمية عملية المسح لا يمكن بحال التقليل منها. فالمسح هو بمثابة النقطة المرجعية الأساسية والطبيعية التي يقف عندها جميع المهتمين بالحفاظ للنقاش والتداول قبل أي خطوة تالية. وهي بالتالي النقطة المثالية لمحاولة قلب أو عكس التداعيات السلبية على الممارسات القائمة، وحيث يمكن وضع المنهج الذي يستند إلى إدراك وفهم المباني قبل ترميمها أثناء دراستها وفحصها موضع التنفيذ الإيجابي.

فلسفة المسح والتوثيق
إن ادراك اهمية المباني التقليدية يخلق حالة صحيحة لنظرية فلسفية تساعد في طبيعة اتخاذ القرارات اللاحقة. ولا تتمثل النظرية الفلسفية في عمليات الحفاظ وما يسبقها أو يتبعها في مجموعة من القوانين والأفكار "الصامتة" غير الفاعلة في الواقع العملي، لكنها رؤية واضحة لفهم ما يجب على عملية الحفاط تحقيقه في كل حالة على حده. فالعلم بنظريات الحفاظ وما يستتبعها لا يمكن لها بحد ذاتها أن تشير للطريق، بل على الخبير أن يطور لنفسه منهجا نقديا وإطارا ذاتيا للنقد يوجه ذهنيته الخاصة يؤهله للعمل ضمن الحقائق من خلال معطيات عملية ومنطقية للوصول إلى نتائج حتمية تتسم بقدرتها على الدفاع وتبرير المنطق القائمة عليه. ولذلك يتعين على الخبير الحفاظي أن يفهم ويدرك مجموعة من المبادئ الأساسية في عمليات الحفاظ والتوثيق للمباني التاريخية، بالإضافة للقدرة على التطبيق في الواقع العملي.

ومن المهم ادراكه هو أن القوانين التي تعنى بالحفاظ تتغير بمرور الأجيال والزمن، ولولا عناية الإجيال السابقة ببعض مظاهر التراث العمراني، لما وصل الكثير من التراث العمراني للحاضر اليوم. ومن هنا فقد تكون لبعض المباني في الحاضر قيمة أقل من غيرها، لكن ينبغي على الممارس والخبير ومن يهتم بعمليات المسح والتوثيق مراعاة أن هذه القيمة قد وسوف تتغير بمرور الوقت، وأن هذا الممارس بمثابة الراعي والقيّم على هذه الودائع الوطنية التي سلمت له.

والتراث العمراني قد يتعرض للإزالة لأسباب عديدة منها طبيعي ومنها قسري، بما يعرض جزءا كبيرا من ذاكرة الوطن للفقدان، لكن يتوجب على الخبراء إدراك أنه يتوجب المبادرة لاتخاذ اقصى درجات الرعاية والعناية بأدق التفاصيل لدى إجراء عمليات المسح والتوثيق، فالأذواق والطرز تتغير بمرور الوقت، ولذا يتوجب الحفاظ عليها ليس فقط لقيمتها المعمارية أو التاريخية فحسب ولكن وهو الأهم لأنها جزء من مصدر طبيعي وموارد لم تعد متوفرة في الحاضر في الكثير من الأحيان.

ومن أهم مبادئ المحافظة والفلسفة الأساسية خلف العمليات القائمة اليوم في بريطانيا للحفاظ على التراث العمراني هي تحقيق صيانة المباني التقليدية بطرق ملائمة ومدروسة بعناية. وقد يبدو ذلك سهل القول نظريا لكنه صعب في واقع الحال وعلى أرض الواقع. وذلك لحقيقة أن المباني الأقدم والأهم تتطلب عدم وجود قوانين لحظية أو محددات عامة نموذجية، فكل مبنى له احتياجاته ومتطلباته وحالته الخاصة التي تستدعي التعامل معها بتفرد وخصوصية. فوضع القوانين الصارمة وذات النظرة قصيرة الأمد يعني في الكثير من الأحيان انه قد تعيق في حال عدم القدرة على تطبيقها في الحالات الفردية أكثر مما يمكنها أن تساعد. فتطبيق بعض القوانين البراغماتية التي تخص بعض المباني التقليدية وحدها والتي تراعي خصوصيتها والميزات التي تتمتع بها وما يجعلها محل اهتمام خاص يسهم في انتاج عملية ناجحة في المسح والتوثيق لهذه المباني على اسس تفردها ومعاملة كل منها كحالة فريدة لا بنظرة واحدة عمومية. فعلى الحفاظي والخبير والمساح والموثق أن يجترح حلولا لكل معضلة كلا بمفردها، وأن يتجنب الإعتماد على الحلول المعلبة والجاهزة أو تقديم حلول لمصلحة خاصة ولغايات محدودة. وهذا المبدأ، وللمفارقة، منصوص عليه في النظام الأساسي البريطاني رقم (BS 7913) وينص على أن القوانين البريطانية والمواصفات والمقاييس وممارسة الحفاظ لا يجب تطبيقها بشكل أوتوماتيكي دون تفكير في إطار عملية الحفاظ التراثي والمسح والتوثيق. وحيثما يتوجب تطبيق التعليمات والقوانين والأسس المنصوص عليها، تظل هناك حالات ينبغي تطبيق معايير الحكمة المهنية والخبرة الشخصية التراكمية على أسس تحقيق المنفعة القصوى وبضمان تراكم المعلومات والخبرات وبالإستناد على المنطق.

إن المعنى العملي لوضع "قيمة" على المباني التاريخية والتقليدية يعني أن عمليات الحفاظ والتوثيق تتضمن عدم تغيير الواقع الفيزيائي للمباني وبالحد الأدنى. وهي الفلسفة الأساسية للحفاظ والمحافظة التاريخية وهدف عملية المسح والتوثيق وما يستتبعها من توصيات أساسا. وهذا يعني أن الصيانة مقدمة على الإحلال والإستبدال لعناصر ضمن منظومة المبنى التقليدي الاصلية وبخاصة حين يكون هناك خطر في أن سلسلة الإستبدال ستؤدي بمرور الوقت إلى تبدل في قيمة وحالة المواد الأساسية بالمبنى التراثي.

ولهذا يكون من المنطقي والأساسي الإفتراض بأن كل عناصر المبنى التقليدي هي قيمة بحد ذاتها بما يمنع استبدالها كخطوة منطقية وأساسية، وهذا يوفر الأرضية المنطقية والفلسفية لعملية المسح والتوثيق. وهنا تبدو عملية الصيانة على أنها عملية تطويع الجزء الجديد ليناسب حالة القديم وليس العكس. ومن الأمثلة المهمة في المباني التقليدية هي الأخشاب نظرا لتداعيها بمرور الوقت. والقاعدة المهمة والأساسية في عمليات الصيانة هي أن الإستبدال في حال اعتماده ينبغي أن يكون على مبدأ (واحد مقابل واحد) بمعنى استبدال الجزء مقابل الجزء فقط وليس استبدال الكل. وبرغم ما قد تحتويه عملية الاستبدال من حساسية وقدرات كبيرة على محاكاة القديم إلا ان الأجزاء القديمة تظل لها قيمة وربما خصائص أفضل من الجديدة في مقاومة عوامل الزمن وهو ما يجب أن يدركه المساح والخبير والحفاظي ومن يعني بالتوثيق.

بعض مراجع المقال :

Bowyer، Jack، (1980)، ‘Vernacular building conservation’، Architectural Press، London

(Unknown)، ‘Guide to Building Services for Historic Buildings’، CIBSE، London، 2002

Earl، J.، (2003)، ‘Building Conservation Philosophy’، 3rd Edition، Donhead، England.

Smith، John F.، (1978)، ‘A Critical Bibliography of Building Conservation، Historic Towns، Buildings، their Furnishings and Fittings’، compiled at the Institute of advanced architectural studies، University of York، with a grant from Radcliffe Trust، UK PP64-65

د. وليد أحمد السيد
مستشار تطوير التراث العمراني
[email protected]