جلست في المقعد الأمامي مسترخيا خلف مقاعد رجال الأعمال وأنا عائد من رحلة الاستكشاف أو قد أسميها رحلة البحث عن إجابه لسؤال لطالما راودني منذ الصغر عندما كنت أقدم فنجان القهوة لضيوف أبي وهو يقضي الساعات والساعات ليحكي لهم عن ستة وعشرين سنة قضاها في الأراضي الأفريقية يتنعم بجمالها كما يصفها هو.
ومما لا يفارق ذاكرتي ذلك الزائر الذي جلس يستمع إلى حكايات أبي من أول الصباح وحتى قرابة أذان الظهر وأبي يكاد يتفجر من السرور الذي تنهال على وجهة وهو يذكر مواقف حياته و خيرات الديار الافريقية.
وهذا ما كان يدفعني في كثير من الأحيان لأراقب وجوه الزائرين هل يقاسموه من كأس المتعة أم أنهم قد غرقوا في بحر الملل والمجاملات التي إن فعلوها فقد يشكرون عليها لرجل طاف الثمانين من العمر.
وكم كان إستغرابي وأنا أرى وجوههم مغطاة بمتعة الاستماع وبشوق الاستمرار ولكن لماذا أتعجب وأنا نفس الشخص الذي إستمعت لنفس القصص عشرات المرات إن لم يكن المئات في بعضها وما زلت أنصت إليها.
كم كنت أسأل نفسي لماذا أحب أبي الأراضي الافريقية أو قد أكون أصدق في قولي عندما أقول لماذا ولع العمانيون في حب افريقيا؟ في الحقيقة لم يكن أبي فقط المفتقد لها فبعد وفاه أبي زرت أحد أصدقائه فلم أجده إلا الأشد في حبه بحيث سمعت منه ما لم أسمعه من أبي عندما قال لي لولا ما حدث من الوقائع لما فكرت في العودة إلى هنا أبدا ومما حكاه لي يؤكد هذه الفرضية فقد قال لي في كثير من الأحيان كان أبي الفقير يرسل لي الرسائل ويطلب مني العودة إلى عمان حتى لم أجد العذر إلا أن أقول له بأني لا أجد المال الكافي للعوده.
مما دفع أبي إلي مضاعفة العمل وإدخار المال حتى يرسله إلي لأعود إلى عمان وأنا الغني هناك ـ لم تخلو عينا الرجل من الدموع عندما حكى لي هذا الواقعة ويبدو أنه ندم على ما فعل ـ في ذلك الزمان وأنا أستمع إلى هذه القصص لم أجد الجواب الذي أستطيع أن أعادل به هذا الحب.
فكل الإجابات كانت تتعارض مع الواقع الافريقي. فإذا ذكرت افريقيا فهذا يعني أنك بدأت في سرد حكايات الفقر والجوع والقتل والعصابات وقد يستطرد الحديث إلى القبائل التي ما زالت لا تعلم عن وجود أناس غيرها في هذا العالم. وكثيرا ما كنت أسأل نفسي إذا كانت الأرض الأفريقية ذات خير كثير فما الذي يمنعها من أن تكون في هذا الزمان مخلصة في عطائها كما كانت في سابق عهدها.
هذا كله زرع في قلبي التخطيط لرحلة البحث عن الإجابة في الأراضي الافريقية لأني لم أجدها في عمان بكامل صورتها. ولكني لم أكن بعزيمة العمانين الأوائل ولا من بأسهم وشجاعتهم التي تدفعهم إلى المخاطرة في الإبحار لمدة ثلاثة أشهر في عرض البحر بقارب يكاد يمتلئ حتى لا تجد لك مكان لتتمدد علية عند نومك والجوع لا يفارقك إلا ليوم أو يومين. فقد حدثني أبي ذات مره أنهم كانوا في عرض البحر ولم يجدوا شيء يأكلونه حتى صيد السمك لم تفلح شباكهم في اصطياده وبينما هم على هذا الحال من الجوع والضعف إذ أرسل الله لهم سحابة من الجراد فإصطدم بشراع السفينة فتساقط عليهم الجراد كتساقط قطرات المطر على الزرع فنزل عليهم الخير واستمروا يأكلون من خير هذا الجراد لأيام.
مرت السنوات حتى أتتني الفرصة التي أضمن فيها ما يخفف خوفي فكل تخيلاتي كانت تخبرني عن الذهاب إلى المجهول. ومع الأيام عملت مع أحد الأخوة الذي كان له أصول افريقية ومن من كان يقوم برحلات صيد متكررة في افريقيا. فهو من المولعين بالصيد وكانت أفريقيا تروي هذا الولع فلم أتردد في إظهار ولعي بصيد الغزلان وأنني من من يتعطشون لصيد حتى أحسست بأن البندقية لم تفارقني أبدا رغم أني لا أذكر في حياتي بأنني ضغطت على زناد البندقية غير مرة واحدة ولا أعلم إلى أي إتجاه اتجهت تلك الرصاصة اليتيمة ـ لم يفتقر الرجل للفطنة التي مكنتة من معرفة حالي في الصيد فقد عرفت ذلك من عدد الفرص التي أتاحها لي قبل أن يؤمن كمية اللحم التي يريدها ـ ولكن كان هو الذي أثق فيه فكثرت رحلات صيده ولغته السواحلية المتقنة كانت كافية على أن تخبرني أنني في أمان.
كما أنني نجحت في إقناعه في حبي للصيد بما يضمن لي مرافقته في أحد رحلاته وتم لي ما أردت وتم الاتفاق على أحد الأيام وبالفعل حجزنا تذاكر الطيران فكانت الرحلة تستغرق قرابة السبع ساعات في السفر المباشر والتي كانت تستغرق الثلاثة أشهر على ظهر سفينة شراعية.
ما أن خطت قدماي في الأراضي الافريقية ـ وأنا صادق في حديثي ـ حتى بدأت غيوم التساؤلات أراها تتلاشىء وتظهر لي اجاباتها كعين الشمس عندما أنظر إليها من قريتي الصغيرة في عمان.
الغريب في الأمر انه ما أن رأيت الأرض الافريقية وطبيعتها إلا وعادت بي خواطري إلى عمان. فقد تذكرت أبي قبيل وفاته بأربعة أشهر وهو يقضي الصباح كله في حراثة الأرض مع عمر ناهز الثماني والثمانين سنة. هنا قلت في نفسي ليس العماني فقط من أحب الأراضي الافريقية بل أيضا هي أحبت الرجل العماني الذي أحبها. انه كان التقاء العاشقين.. لقد وجدت منه الجهد والصبر ووجد منها العطاء والخير. الآن أستطيع أن أعرف لماذا لم تستمر في عطائها للإنسان كما كان أبي يصورها لنا. إنها تفتقد الرجل العماني الذي أحبها فخجلت منه فأعطته كما يريد.

وليد بن سيف العميري
[email protected]