منذ سنوات عديدة، لم يرد في خاطري هذا المصطلح "الأدب الإسلامي" ، ولم أقرأ عنه شيئا ، وبدا أن الحديث عن هذا "النوع" من الأدب في عالمنا العربي قد ندر، إلى أن فوجئت بأحد المواقع يتطرق إلى الأدب الإسلامي، ندوة نظمتها مؤخرا جمعية النقاد الأردنيين بالتعاون مع المركز الثقافي العربي بعنوان "الأدب الإسلامي، المفاهيم والتطلعات" بالعاصمة الأردنية، وأدارها الدكتور بلال كمال رشيد.كان آخر عهد لي بهذا الجدل منذ عشر سنوات في ندوة بالقاهرة، حول رواية للكاتبة نادية كيلاني، قلت إن الكاتبة صاغت روايتها بلغة مصرية حميمية، وفوجئت بأحدهم ينفض واقفا ليصيح : يا أستاذ لا توجد لغة مصرية، بل لغة عربية، وما كان مقصدي الأبجدية التي كتبت بها الرواية ، بل النفس، المزاج، طريقة صياغة الآنساق اللغوية، والتي تجسد نهج الشارع المصري في حواراته اليومية وانتبهت أن الجهة التي تنظم الندوة هي رابطة الأدب الإسلامي ، حاولت أن أشرح وجهة نظري ، دون جدوى ، كلما قلت شيئا ، يأتيني نفس الرد: يا أستاذ ، لا توجد سوى لغة واحدة هي الفصحى لغة القرآن.وهذا ما أشعرني بالخوف لحظتها ، أكثر من رواية لي كنت أفاجأ وأنا أعيد قراءتها بهدف التجويد أنها انبثقت هكذا من داخلي بالعامية المصرية ، فهل أنا بذلك ارتكبت إثما ؟ و فرسان الشعر الشعبي هل يرتكبون الخطيئة لأنهم يعصون الفصحى ويكتبون بغيرها ؟وطبقا لما قرأت عن تفاصيل ندوة عمّان فهذه واحدة من القضايا التي أثيرت في الندوة ، حيث أبدى بعض الحضور مخاوفهم من أن ينطوي الأدب الإسلامي على شبهة تكفير ، فالناقد الذي يضع نصب عينيه على ما يراه قيما دينية قد يتهم كاتبا ما بالخروج عن حظيرة الدين لأنه لم يلتزم بالتعاليم الإسلامية في روايته أو قصيدته !ويرد الناقد الدكتور عبد الله الخطيب على ذلك بأن الأدب والنقد الإسلاميين لا يتعرضان للكاتب لكنهما يتناولان النص والحكم النقدي على الكلام وليس المتكلم، وقال : نبحث في الثالوث "السياسة والدين والجنس" وفق التصور الإسلامي واحترامه.ويمكن تأطير مفهوم الأدب الإسلامي في كونه تعبيرا فنيا جميلا و مؤثرا ، نابعا عن ذات مؤمنة ، يترجم عن الحياة والإنسان والكون وفق الأسس العقائدية للمسلم، وباعث للمتعة والمنفعة، ومحرك للوجدان والفكر، ومحفز لاتخاذ موقف والقيام بنشاط ما ، وهو بهذا المعنى قريب إلى حد ما مما دعا إليه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر من أهمية الالتزام في الفن، وكان سارتر أول من بلور مصطلح الالتزام للدلالة على مسؤولية الأديب، وتأكيد أن الكلام الأدبي ليس مجرد ترويح عن النفس أو تعبير جمالي وإنما موقف يستتبع المسؤولية.لكن سارتر نظر إلى الفن على أنه انبثاق إنساني بشكل عام ، على النقيض من الأدب الإسلامي، فالمتحمسون له يحصرونه في إنبثاقات الذات المؤمنة، وهذا يعني أن ما كتبه شاعر ألمانيا الكبير جوته مثلا عن عظمة النبي محمد والإسلام واستشهاداته المتعددة بآيات من القرآن الكريم في كتابه "الديوان الشرقي لمؤلفه الغربي" قد لا ينتمي إلى الأدب الإسلامي لأن مبدعه ليس مؤمنا !وهذا ما يبينه الباحث الدكتور عبد الباسط بدر في مقاله "عالمية الأدب الإسلامي – مجلة الأدب الإسلامي ، السنة الثانية، العدد الخامس، حين يقول" فالأديب المسلم التركي أو الفارسي أو الهندي أو الأندونيسي .. إلخ، عندما يكون مؤمناً ملتزماً بإسلامه، عقيدة وفكراً ومنهج حياة، يتعامل مع أحداث مجتمعه من خلال إسلامه، وتتجه عواطفه وفق المؤشرات الإيمانية، وتحمل تجربته الأدبية انفعالاته الإيمانية بتلك الأحداث، وتصوغها في عمل أدبي إسلامي، يتذوقه ويتأثر به كل متذوق مسلم يطلع عليه ويفهمه، وهذه حقيقة واقعة في آداب الشعوب الإسلامية غير العربية كلها، ففي كل أدب من تلك الآداب أعمال أدبية ذات صبغة إسلامية واضحة، أبدعها أدباء مسلمون ملتزمون بإسلامهم يتفاعلون مع الأحداث من زاوية إيمانية، وإذا انتقلت هذه الأعمال إلينا بالترجمة – أو بلغتها الأم إذا كنا نعرف تلك اللغة – أحسسنا بأن التجارب التي تحملها جزء من تجاربنا، والانفعالات التي تموج بها تلامس أعماق قلوبنا، والقضايا التي تعرضها هي بعض اهتماماتنا.وإذا كان فريق من الباحثين في تطور الأدب العربي يعلون من شأن الأدب الجاهلي ومعلقاته ، فالمتحمسون للأدب الإسلامي يرون أن إبداعات الأدباء المسلمين بعد ظهور الإسلام كانت أكثر جمالية ورقيا من الأدب الجاهلي ، وهم يستشهدون في ذلك بما قاله ابن خلدون عن تأثير القرآن والأحاديث النبوية الشريفة على صنعة الأدب الإسلامي ، حيث يقول في مقدمته : "إن كلام الإسلاميين من العرب أعلي طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهليين في منثورهم ومنظومهم، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا لطبقة عالية من الكلام في القرآن والحديث، والذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما، فنهضت طباعهم وارتقت مكانتهم في البلاغة، علي ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة أو نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ومنثورهم احسن ديباجه، واصفى رونقا من أولئك، وارصف مبني، واعدل تثقيفا، بما استفادوه من الكلام العالي". وحين جاء النص الإلهي والخطاب القرآني باللغة العربية نالت من الشرف والقدر ما لم تنله لغة أخرى، وجعل الأدباء يتبارون في صيانتها "وثمة خشية من أن يكون الاستشهاد برؤية ابن خلدون بهدف تفرد واستحواذ الأدب الإسلامي بمفاتيح المشهد الثقافي ، بحيث يتم إقصاء أي إبداع سواه ، حتى الأدب الجاهلي الذي خلد في ذاكرتنا الجمعية بفضل ما يفيض به من جماليات ، لكن على أي حال يعاني المتحمسون للأدب الإسلامي من إشكالية مزمنة ، فرغم مرور أربعة عقود على التأسيس لمشروعهم عبر واجهة رابطة الأدب الإسلامي التي أنشئت عام 1984 إلا أنهم لم يحققوا الكثير من النجاح في طرح نظرية نقدية تتعلق بالأدب الإسلامي ، وقد تطرق لهذا الأمر الباحث السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك حيث يرى أن محاولاتهم هذه قد تكلل بالنجاح حين يتمكنون من وضع نظرية الأدب الأخلاقي أو الديني ، وقد تكتمل أركان النظرية الأخلاقية أو الدينية في الأدب شكلاً ، لكنهم لن يجدوها مضمونا ولن يجدوا نصوصا تملأ أركان هذه النظرية ، ولن يستطيع الإبداع الملتزم التجاوب والتسارع المطلوب لتحقيق الجانب الأهم في الديناميكية الأدبية ، وسيكون الفارق كبيراً بين إحكام النظرية النقدية وتخلف النصوص الإبداعية عن ملء الجانب التطبيقي الذي أعدت له فلسفة الإبداع وتصوره .يقول الباحث في بحثه "إشكاليات الأدب الإسلامي" : إن بناء هيكل شامخ لنظريتهم الملتزمة ممكن على كل حال ، ولكن سيكون هذا الهيكل مجسما جميلا للنظر بالأعين والتقرِّي بالأيدي ، ولكن الحياة والروح وجلبة الحركة ستكون هادئة ساكنة جامدة فيه إلى أن يشاء الله .لكن ثمة نقطة مهمة ، فهؤلاء الذين تحمسوا أو حتى تسامحوا مع مصطلح الأدب الماركسي أو مصطلح الأدب الوجودي ، لا ينبغي لهم مهاجمة مصطلح " الأدب الإسلامي " ، هم قبلوا بل وسعوا إلى زنزنة الأدب في أيديولوجيات وفلسفات بعينها ، وبالتالي من حق آخرين أصحاب أي عقيدة أن يتحدثوا عن أدب إسلامي أو أدب مسيحي أو أدب يهودي.لكن هل هذا مقبول ؟ هذا هو السؤال ، إن انبثاقات الفن بكافة أشكاله ، تندفع من تلك المنطقة اللامرئية للمبدع الإنسان ، لذا من المهم أولا وأخيرا أن يكون لدينا أدب إنساني ، يغوص في قرار الإنسان ، بحثا عن همومه وأحلامه ، والتباساته وتقديمها في صورة فنية تخصب وجداننا بجمالياتها ، لأن القول بأدب إسلامي قد يدفع إلى شيوع حالة التشظي التي قد تكون بمثابة ضربة موجعة للأدب بشكل عام . محمد القصبي