د/ جمال عبد العزيز أحمد:
هذه بعض آية من كتاب الله عز وجل في سورة طه تقول:(قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ).
هنا وقفات وتأملات يجب استعمالها، واستحضارها في كل مواقف المحن، والابتلاءات، واقتطاع حظ الإنسان ونصيبه، ودخوله في طريق الاختبار، فهؤلاء السحرة كانوا قد قالوا سلفا عن اقتدار:(بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) وأخذوا منه وعدا بالقرب منه، حيث قال لهم:(وإنكم إذا لمن المقربين)، ولكن لما أدركوا الحقيقة، ووقفوا على جلال الحق، وصواب الطريقة ـ سلموا الأمر لله، وسجدوا قائلين:(آمنا برب العالمين رب موسى وهارون)، وبدأت أبجديات العقيدة السليمة ترشح على ألسنتهم، وأعطوا فرعون دروساً رائعة في سلامة الاعتقاد، والخشوع لرب العباد، وأطلقوها حكمة، ودرساً مستمراً:(والله خير وأبقى)، الله خير من كلِّ ما كنت ستعطينا إياه من المال ومن القرب والعطاء منك ، وأبقى لنا ، فالحياة مهما طالت لا تمثل شيئا في موازين الآخرة، هؤلاء السحرة تعرضوا لأبشع أنواع العذاب، وألوان والتنكيل التي لا يتصورها عقل حيث قال:(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ)، هدَّد وتوعَّد، وأزبد وأرغد، ونكَّل وعذَّب، ولكن تبقى في حنايا القلب معية الله، وكلامه:(والله خير وأبقى)، فإذا ما تعرض واحد منا لابتلاء مَّا، كأنْ يمتحن في ماله، فيذهب ماله كله في عملية تجارية مَّا، أو يكون قد تعرَّض لأحد نصب عليه، وخدعه واستولى على كل ما لديه، وراح يقلِّب كفيْه، لكنْ لا ينسى أبداً:(والله خير وأبقى)، ولو أن إنساناً مزارعا قام على حقله، واعتنى به، وجاء له بكل أنواع السماد، وقام عليه اهتماما منه؛ حرثا، وصيانة، وريًّا، ثم أصابته جائحة من السماء، أو أصابته آفة من الأرض، فجاءت عليه، وأطاحت بكل المحصول، فعليه أن يرضى بالقضاء، بعد أن يبحث في أسبابه، ويتذكر:(والله خير وأبقى)، وإذا كان هناك مريض حار في علاجه الأطباءُ، وكلما انتهوا من عملية جراحية دخلوا في غيرها، ولا تنجح، ويئس منه الأطباءُ، فلا ييأس هو، ويكرر على قلبه وحسه ووعيه ولسانه، وكل كيانه:(والله خير وأبقى)، وإذا كانت فتاة فاتها قطارُ الزواج، ولم يتقدم لها مَنْ يعفها، وهي طيبة عفيفة، وليست على قدر من الجمال يجعل الخُطَّاب يتسابقون إليها، وكَبِرتْ سِنُّها، واشتاقت لكلمة (ماما)، وتمنَّت الحمل والرضاع، وأن تتذوق طعم الأمومة الجميل، فتتذكر قول ربها:(والله خير وأبقى)، وتعلم أن لذلك حكمة، فربما تزوجت، وكفَّرها زوجها، وعذَّبها، وأراها الويل وأصنافه أو أنجبت أولادا أتعبوها في حياتها، حتى انتحرت أو احتجزت في مشفى للمجانين أو عاشت كسيحة شليلة، لا تعرف كلاماً، ولا تعي بياناً، فعليها أن تذكر حكمة ربها قبالة عينيها، وترتكن إلى جلاله، وتتذكر كمال قوله:(والله خير وأبقى)، وإذا كان هناك شابٌّ ملتزم، صالح، جاءه سنُّ الزواج، وتمنى على الله أن يُعِفَّهُ بفتاة مسلمة، ولكن لا يجد معه ما يستعفُّ به، بل لا يجد قوت يومه، ويكاد يمر يومُه بأعجوبة، ونفسُه تلح عليه في الزواج، ويبكي لله بليل، ويجأر لجلاله بنهار، ويصوم، ويغض بصره، ويتلو القرآن ويسبح، ولا يعرف الناس فقره وحاجته لعفته، وعدم سؤاله، كما قال القرآن الكريم:(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) فعليه أن يلجأ إلى ربه ويذكر قوله تعالى، ويتوقف كثيراً أمامه متأملاً:(والله خير وأبقى).
هذه العبارة (والله خير وأبقى) هي جملة اسمية من مبتدأ وخبر، أي هي جملة مؤكدة، وهي من أنواع المؤكدات في اللغة العربية، وكلمة:(خير) هي أفعل تفضيل، أي أكثر خيراً، وأوسع عطاء، وأوفى أجراً، وحذفت همزة أفعل، إذ الأصل:(أخير) لكثرة الاستعمال، وكذا (أبقى) أي أكثر بقاء، وأمضى زمنا، فلا زمن يحدُّه، ولا وقت يعُدُّه، والمتأمل فيها، المستعظم لمعانيها، المدرك لمراميها، المحصل لمعانيها يرتاح قلبه، ويطمئن فؤاده، ويعود إليه رشده، عندما يحدث له ابتلاء، ويحوطه اختبار، وتشمله نائبة، فسرعان ما يتذكر هذا القول الإلهي الكريم، وكذلك عندما يُساوَم على شيء في دين الله، كأنْ يترك مكانا تُحتَسى فيه الخمر أو تُمارَس فيه المعاصي مقابلَ مال يحصِّله شهرياً، فلا يقبل، وعليه أن يبلِّغ السلطات، وفي نفسه قول ربه سبحانه:(والله خير وأبقى) أو كأنْ تتصل به جهاتٌ مشبوهة؛ ليبين لها أسرار بلده، أو يخون من خلالهم وطنه جراءَ أموال كثيرة ،فيقول: لا، والله لا أخون بلدي، ولا أفرط أبدا في وطني، ويتذكر:(والله خير وأبقى)، أو أن يترك صفقاتٍ فيها شبهة حُرمة، ومن ورائها سيأتي مالٌ كثير، لكنه محفوف بعدم الحلال، ووجود الربا فيه، ونحو ذلك من معاصٍ، فيمتنع رغم حاجته إليه، واعتماده في حياته عليه، يمتنع، وفي باله قول ربه:(والله خير وأبقى)، أو تدعوه امرأة ذاتُ منصب وجمال إلى الترخص معها، وتوفر له كل سبل العيش الرغيد، فيتذكر ربه وخشيته، وما أعده له في الآخرة من حور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، ويتذكر سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ عندما صمد في وجه المعصية، وقال:(رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، وقال:(إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .. نعم ، الله خير وأبقى، إنها قاعدة إيمانية كبيرة وأصيلة في شريعتنا الغراء، يجب استحضارها بشكل دائم، أمام ناظريْ الإنسان ، اللهم اجعلها في قلوبنا، وجوارحنا، وترشح لله في سلوكنا وأفعالنا، وكن يا ربي دوما لنا خيرا وأبقى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]