[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]يلاحظ أن محاولة بعض الدول النأي بالنفس أو الابتعاد وتغيير السمات والسياسات الموجهة لسياستها الخارجية نحو مبادئ أو قيم أو سلوكيات وتعاملات ذات طابع أخلاقي بعيدا عن ممارسات الهيمنة وصراع المصالح الجيوسياسية والتحالفات الإقليمية والدولية الفضفاضة التي يعج بها المشهد السياسي الراهن, كما هو حال السياسة الخارجية لسلطنة عمان في الفترة من 1972- 2018م.تعد السياسة الخارجية لسلطنة عمان من أكثر الأمثلة التاريخية الحديثة على تطبيقات المثالية الإيجابية أو القوة الناعمة في السياسة الخارجية على رقعة الشطرنج الشرق أوسطية. والتي يقصد بها: (القدرة على ممارسة السياسية الأخلاقية والتأثير في الآخرين دون استخدام لأدوات القوة الصلبة, وهي كذلك القدرة على الجذب والضم دون إكراه. أو استخدام لقوة المنطق السياسي والدبلوماسي كوسيلة للإقناع, وعند جوزيف .س.ناي مؤسس هذا المفهوم, يقصد بها: قدرة الدولة على خلق وضع يفرض على الدول الأخرى أن تحدد تفضيلاتها ومصالحها بشكل يتفق مع هذا الإطار الذي تم وضعه أو بمعنى آخر أن تقوم هي بوضع أولويات الأجندة الداخلية لغيرها من الدول) (1)ويلاحظ أنه وبالرغم من صعوبة المحافظة على طيف ثابت ومستقر من القيم والأسس الأخلاقية العابرة للحدود الوطنية في عصر الفوضى وسيطرة المادية السياسية وزيادة تناقضات بيئة المصالح السياسية والجيوسياسية في البيئة الدولية, في عالم لا شك أن التمسك فيه بهذا النوع من موجهات السياسية الخارجية الأخلاقية يزيد من التحديات والضغوط السياسية لأي دولة في بيئة تزداد فيها الفوضى والصراعات القائمة على تناقض واختلاف المصالح الجيوسياسية والتدخلات الذرائعية وتقلب العداوات والصداقات بشكل كبير وسريع جدا. الأمر الذي جعل الكثير من التصرفات وسلوكيات الدول تمتزج بأشكال كثيرة ومتعددة من الموجهات السياسية المتناقضة أحيانا وغير المستقرة أحيانا أخرى, ما كون مزيجا مختلطا من التناقضات السياسية والعلاقات الدولية ذات الطابع المضطرب وغير المستقر, والتي ميزت هياكل وبناء السياسة العالمية في القرن الـ21. إلا أن السياسة الخارجية العمانية تمكنت إلى حد بعيد من صناعة تلك المقاربة والموائمة الصعبة بين المثاليات والماديات السياسية.قد يقول قائل: إن مثل هذه التناقضات في السياسة والعلاقات الدولية هي الأصل الغالب على طبيعتها منذ القدم, وقد حفلت بها العديد من العصور السياسية الماضية, وبالتالي هي ليست حكرا على طبيعة السياسة الدولية المعاصرة, وهو أمر صحيح إلى حد بعيد. إلا أن الفارق ما بين تلك الحقب السياسية التي حفلت بها على سبيل المثال طبيعة النظام الدولي في فترة القرون الـ16 ـ 20 ومتناقضات السياسية الدولية للقرن الـ21, أن هناك مدخلات جديدة ومتطورة برزت على مسرح المؤثرات في هياكل البناء الجيوسياسي الراهنة, كالتطورات التي حدثت في مجال الثورة الاتصالاتية وتكنولوجيا المعلومات والعولمة العابرة للقارات, ما قلص من حجم البيئة الدولية بشكل كبير, وجعل من تصرف أي دولة بغض النظر عن حجمها الجغرافي يؤثر بشكل أكبر اتساعا وأشد قوة في بقية الدول الأخرى من ذي قبل, فيما يسمى في المفهوم السياسي بمبدأ الاعتمادية, والذي يعني أن ما تفعله دولة ما سلبا أو إيجابا يؤثر في باقي الدول في النظام ذاته.لذا يلاحظ أن محاولة بعض الدول النأي بالنفس أو الابتعاد وتغيير السمات والسياسات الموجهة لسياستها الخارجية نحو مبادئ أو قيم أو سلوكيات وتعاملات ذات طابع أخلاقي بعيدا عن ممارسات الهيمنة وصراع المصالح الجيوسياسية والتحالفات الإقليمية والدولية الفضفاضة التي يعج بها المشهد السياسي الراهن, كما هو حال السياسة الخارجية لسلطنة عمان في الفترة من 1972- 2018م. قد ينظر إليه من هذا القبيل, أي, أنها فعل سلبي التأثير في سياسات وتوجهات بعض الأطراف الإقليمية أو الدولية الأخرى, الأمر الذي سيتبعه بطبيعة الحال تدفق سيل من الاتهامات والشكوك وربما بداية نوع من العداوات المبطنة لها مع الوقت. وتنشأ هذه التناقضات غالب الأحيان في التوجهات السياسية الخارجية للدول خصوصا كنتيجة طبيعية لاختلاف المصالح السياسية والجيوسياسية ومحاولات التكيف مع طبيعة القوة والسياسة في القرن الـ21 انطلاقا من مبدأ الاعتمادية سالف الذكر.إلا أن ذلك لم يحل دون نجاح التوجهات السياسية لسلطنة عمان إلى حد بعيد حتى الآن على أقل تقدير, واستمرارها في المحافظة على تلك المعادلة الصعبة والمواءمة التاريخية لأكثر من أربعة عقود ونصف العقود بين مصالحها الوطنية من جهة, والاختلافات الطبيعية لمصالح وتوجهات العديد من الدول الإقليمية والدولية فيما يطلق عليه بتطبيقات النظرة الواقعية في السياسة الدولية من جهة أخرى. خصوصا أنها تقع في بقعة جغرافية مضطربة "الشرق الأوسط", وبين قوى إقليمية ذات توجهات ومصالح غير متجانسة بشكل كبير جدا. أقل ما يقال عنها أي هذه البيئة السياسية بأنها محفزة للاندفاع نحو استخدام القوة الصلبة والصراعات العابرة للحدود الوطنية في التأثير على العلاقات والسياسات الدولية. كما تمكنت بطريقة هادئة وعقلانية كذلك من إذابة مفاهيم واقعية النظرة السياسية التي تحركها المصالح البحتة في العلاقات الدولية في أطر أخلاقية باتجاه مثالية إيجابية قادرة على تحقيق مصالح عالمية كحقوق الإنسان والديمقراطية وصناعة توازن لمصالح القوى الإقليمية.وتعد هذه القيم والمقاصد الأخلاقية والنظرة إلى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بين الدول من خلال تبني مبادئ ونظريات قائمة على المثالية الإيجابية وموائمة بين الأخلاق السياسية والمصالح الوطنية جزءا لا يتجزأ من أسس وموجهات السياسة الخارجية العمانية التي رسم خطوطها العريضة مؤسس الدولة العمانية الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ منذ العام 1972م.وفي النهاية لا بد من وعي مسألة مهمة في هذا السياق, ألا وهي أن الأفكار والمعتقدات السياسية ذات التوجهات المثالية والقيم الأخلاقية وإن حرصت بعض الدول على تبنيها والمحافظة عليها, كونها تمثل الجانب الأخلاقي والشق الإنساني في حياتها. لا يجب أن تصل بها إلى مرحلة المثالية السلبية من جهة. أما من جهة أخرى فإنه يجب أن تأخذ في الحسبان مراعاة مصالح الدول الأخرى في صناعة تلك المعادلة الصعبة ما دامت قد اختارت أن تتبنى هذا الجانب من السياسات, بحيث من الضرورة أن تقف بمقربة ومسافة واحدة يتم فيها مراعاة مصالح مختلف أطراف المنظومة الدولية عند حساب المصالح المادية والمثاليات الأخلاقية.بحيث يجب أن (ينطوي التصرف الأخلاقي على وعي مصالح الآخرين والتحلي بالحساسية إزاءها ـ غير أن نكران الذات ليس إلزاميا. فثمة ظروف قد يشعر فيها الأفراد بأنهم مدفوعون إلى التضحية بالذات, غير أن مثل هذا السلوك يبقى بنظر أكثر الشرائع الأخلاقية "نافلا" أي شيئا يحسن فعله. ولكن الامتناع عنه ليس خطأ, وسيبقى الشيء الذي يصح عمله في الغالب, وربما في العادة منطويا على عدم السعي وراء المصالح الذاتية إلى الحدود القصوى, ولكنه لن ينطوي إلا في أكثر الظروف استثنائية على تجاهل تلك المصالح كليا ما لم تكن مخترعة بوضوح لهذا الغرض)(2)وقد اختصر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وجهة نظره حيال النظرية الواقعية في السياسة الدولية. وبين من خلال فلسفته السياسية فكرة التوازن بين المادية السياسية التي تنطوي على الإرادة والتصميم في عدم التدخل في الشأن الداخلي العماني بأي شكل من الأشكال, وكذلك في السعي وراء المصالح الوطنية. والمثالية السياسية التي تحمل في طياتها المبادئ الفاضلة والقيم الإنسانية الحميدة والأخلاق الفاضلة وروح السياسة بقوله حيال واقع السياسة الخارجية العمانية (أما عن سياستنا الخارجية فقد أعلناها كثيرا في مناسبات مختلفة وفي مؤتمرات دولية، وسنظل نعلنها أننا جزء من الأمة العربية، وسياساتنا تنبع من منطلق مصلحتنا العليا ....موقفنا من أي دولة يتحدد على ضوء موقفها من قضايانا الوطنية واحترام سيادتنا التي لا نسمح بأي تدخل في شؤوننا, ورفض أي محاولة للتأثير على سياستنا أو توجيهها مهما كان مصدرها... إننا نؤدي دورنا في المجتمع الدولي ومحافله بإيجابية وفعالية, ونشارك في حل القضايا العادلة، ونحن كأمة إسلامية نضع نصب أعيننا القيم النبيلة والأفكار السامية والتمسك بمبادئ ديننا الحنيف, انطلاقا من التفهم لدورنا حيال منطقتنا بوجه خاص, والمنطقة العربية بوجه عام) (3)• نقلا عن كتاب غير منشور حول السياسة الخارجية العمانية وانعكاسات أبرز التوجهات الدولية الكبرى على النظام العالمي, وأثرها على المبادئ الأمنية الموجه للسياسة الخارجية العمانية.