تُعد الفانتازيا نوعاً أدبياً يعتمد على السحر وغيره من الأشياء الخارقة للطبيعة كعنصر أساسي للحبكة الروائية، والفكرة الرئيسية , وهناك اختلاف بين ادب الفنتازيا والخيال العلمي والرعب , فأدب الفانتازيا يغلب عليه الخيال حيث يتمحور الفيلم الفانتازي حول شخصيات حية تعيش في اماكن متخيلة او تخوض حالات تتجاوز قواعد العالم الطبيعي , وهناك العديد من افلام الفانتازيا في تاريخ السينما العالمية , ويلجأ البعض من المخرجين الى ذلك القالب كونه يطلب من الجمهور أن يؤمنوا بالسحر والخيال ويأملوا ان تصبح الامنيات حقيقة .
فندق بودابست الكبير (The Grand Budapest Hotel) : هو فيلم فانتازيا وكوميديا سوداء من انتاج بريطاني – الماني مشترك , من اخراج الاميركي " ويس أندرسون "وهو كاتب قصة الفيلم بمشاركة " هيوغو غينس" ، وواضع السيناريو نفسه . ومن المعروف ان اندرسون لا يكتفي بإعداد الأفلام ، بل يبتكر عوالم، وهذا ما يميزه عن الكثير من كبار صنّاع الأفلام الأميركيين العاملين اليوم.
حيث تدور أحداث جميع أفلامه في عالم خاص به، سواء كان مدرسة تكساس الابتدائية في فيلم " Rushmore " أو قطار يعبر الهند في The Darjeeling Limited" " أو مخبأة على جزيرة لمراهقين عاشقين في " "Moonrise Kingdom. كما يعد المخرج الاميركي واحدا من أكثر المخرجين ابداعا، وذلك بفضل اسلوبه المتفرد الذي يعتمد على مزيج متقن وفعال لمجموعة من ادوات سينمائية رافقته في مجمل افلامه التي تتميز بدقة ترتيب البصريات وحركات الممثلين في كل مشهد. فكل لقطة في افلام أندرسون تشبه تحفة فنية حقيقية , ورغم تقديم أندرسون افلاما عديدة لاقت قبولا كبيرا واشادات كبيرة ونجاحا تجاريا مثل فيلم ممكلة بزوغ القمر "Moonrise Kingdom " الذي رشح لجائزة اوسكار العام المنصرم , إلا أن النقاد شعروا في هذا الفيلم بنكهة خاصة .
يذكر ان أندرسون ترشح لأول مرة للأوسكار عن فيلم "The Royal Tenenbaums" عام 2002 لأفضل سيناريو ، وعام 2009 لأفضل فيلم كرتوني. أفلام أندرسون لكل من يشاهدها لأول مرة سيلاحظ الفن في الديكور والألوان والموسيقي التى يختارها بنفسه، كما سيلاحظ بأفلامه الشخصيات الكوميدية والجافة أحيانا ، الأحداث غير جدية لكن بالمنطق ستجدها واقعية .
وكشف اندرسون ان قصة صديقه اللبناني ألهمته لصنع فيلم اليوم ويقول " انها قصة صديق عزيز علي من لبنان وما حدث لأبيه. فأنا اعرفه منذ ان تعرفت على زوجتي، وهي من بيروت، واصبح جزءا من عائلتي، لهذا اردت ان اقوم بعمل يربطني معه ولبنان، عاطفيا وحضاريا" . الجدير بالذكر أن اندرسون تعرف على زوجته اللبنانية، الممثلة والكاتبة جمان معلوف في نيويورك.
الفيلم من بطولة الممثل البريطاني " رالف فاينس" الذي عرفناه في أفلامٍ دراميّة مميزة منها قائمة شندلر " Schindler's List " و المريض الإنجليزي " The English Patient " , ويقوم رالف بدور رئيسي يجسد فيه " غوستاف " عامل الاستقبال والعاشق لمدام " سي ديوت " والتي تجسدها الممثلة " تيلدا سوينتون " وابنها " ديمتري" والذي يجسده الممثل " أدريان برودي" واخيرا وليس اخرا الممثل الشاب " طوني ريفولوري " في دور ثانوي مهم يجسد فيه دور فتى الردهة والصديق الوفي لغوستاف " زيرو مصطفى "
اداء استثنائي لأبطال الفيلم , واخراج فاق الخيال , تنقّلت فيه الكاميرا بأناقة رشيقة على خلفية ديكورٍ مبهر في تنويعات بصرية آسرة بين الفندق الفخم والقصر المهيب والسجن والقطارات لتجسد أجواء الحقبة التي يعرّفها الأوروبيون بـ" الأيام الجميلة التي مضت " .
الطريف أن فيلم فندق بودابست الكبير لا يدور في بودابست عاصمة المجر، ولكن في دولة اوروبية متخيلة تدعى " جمهورية زوبروفكا " ، وقد صور في برلين وفي بلدة على الحدود بين بولندا وألمانيا .
تمتع بودابست الكبير بنجاح باهر في صالات السينما حيث تجاوزت إيراداته عالميا أكثر من 140 مليون دولار اميركي حتى الآن . واتوقع ان يكون له نصيب في جوائز السينما هذا العام .
قصة الفيلم واحداثه
يحكي الفيلم قصة " جوستاف اتش" عامل الاستقبال الاسطوري بفندق بودابست الشهير , حيث تجمعه علاقة وطيدة وحميمة مع صبي عربي يدعى " زيرو مصطفى" الهارب من موطنه في الشرق الاوسط بعد ان أعدمت عائلته في الحرب. حيث تبدأ رحلة مغامراتهما معا .
يبدأ الكاتب والروائي " ويلكنسون " بسرد أحداث رحلته الاستجمامية خلال شهر اغسطس عام 1968 الى فندق بودابست الشهير ، الذي يقع في جمهورية زوبروفكا العظيمة بالقرب من الحدود الشرقية لقارة اوروبا ، حيث يصطحبنا الى واجهة الفندق الوردي اللون ، ويدخل بنا عبر ابوابه الضخمة لتستقر اعيننا على ردهته الكبيرة الفارغة , و نزلائه الموسميين القليلين ومنهم مالك الفندق العجوز " زيرو مصطفى " والذي كان في فترة ما , أغنى رجل في زوبروفكا .
وخلال الاستمتاع بماء الياسمين في احد حمامات الفندق العربية ، يفاجأ ويلكنسون بمالك الفندق يخبره بمدى اعجابه بكتاباته ويدعوه لتناول العشاء معه ليحكي معه عن تلك التساؤلات التى دارت بينه وبين عامل الاستقبال ، حول امتلاكه للفندق ولماذا يطلب دائما عند قدومه ، اعداد غرفة الخادم ليقيم بها .
العودة لــ1932
يعود بنا زيرو مصطفى الى ما بعد الحرب العالمية الاولى وقبل اندلاع نظيرتها الثانية ، حيث الاعوام المضطربة وازمة البطالة في اوروبا ، ليطلب الالتحاق بطاقم اكبر وافخم الفنادق الاوروبية انذاك ، ليحصل على وظيفة فتى الردهة بعد حديث مطول واسئلة كثيرة من عامل الاستقبال المحبوب غوستاف اتش الذي يتصف بالدقة الشديدة والنظام الصارم . والذي عرف عنه ايضا مرافقة النزيلات المسنات والاهتمام بهن وتلبية رغباتهن ونزواتهن , حيث تقع احداهن اسيرة لسحره وتدعى مدام " دي ".
يكمل مصطفى حديثه بهوية صاحب الفندق المجهولة انذاك ، وان طاقم الفندق بأكمله لم يتمكن من معرفة شخصه ، باستثناء انه يرسل نائبه لتحصيل الاموال ومراجعة دفاتره مع غوستاف والمدير التنفيذي بالفندق . ومع مرور الوقت , يأخذ غوستاف مصطفى تحت جناحه لتنشأ بينهما علاقة ولاءٍ وصداقة حميمة لا رغبة لدى أيٍّ منهما بالفكاك منها .
وفي احد الايام يفاجأ مصطفى خلال احضاره للصحف بخبر وفاة الكونتيسة الارملة دي في قصرها بلوتز , فيخبر سيده غوستاف الذي يقرر سفرهما لحضور جنازتها وتوديعها .
الفتى مع التفاحة
ووسط حضور كبير من اقارب العجوز دي الذين جاءوا لأجل اقتسام إرثها الضخم , يفاجأ غوستاف بنصيب له من الإرث في وصيتها وهو عبارة عن لوحة " الفتى مع التفاحة " خالية من الضرائب ، ما يدفع ابنها " ديمتري " الى الهجوم وتوجيه التهم عليه. وفي النهاية يتمكن غوستاف ومصطفى من سرقة اللوحة بمساعدة " سيرج" خادم القصر وصديقه ، والعودة بها الى الفندق ، حيث يفاجأوا ببلاغ مقدم ضد غوستاف يتهم فيه بقتل مدام دي ، ويتم القبض عليه والزج به الى داخل السجن .
يذهب مصطفى لزيارة غوستاف وخلالها يخبره بشهادة عائلة دي وصديقه سيرج الذي اختفى بعد شهادته ولم يتمكن احد من الوصول اليه . يصل غوستاف ورفاقه في الزنزانة الى خطة للهروب من السجن ولكنها تتوقف لحين الحصول على الادوات والمعدات اللازمة .
آغاثا
هي الفتاة التى تعد المخبوزات والحلويات التى تقدم في الفندق ، والتى يقع في حبها مصطفى ويقوم بالزواج منها ، ولكنها تساهم بدور كبير في نجاح خطة هروب غوستاف من السجن , حيث وضعت ادوات صغيرة حادة للحفر داخل احدى الحلويات والتى بدورها استقرت داخل زنزانة غوستاف ورفاقه دون ان تلاحظها السلطات، ولأن مصطفى على علم بالموعد المفترض لهروب غوستاف من السجن ، يقرر ان يودع آغاثا ويحدد لها مكانا للاختباء خارج المدينة . خوفا من ان يلاحقها احد من عائلة دي .
وبعد مرور 3 ايام من الحفر يتمكن غوستاف من الهرب ، ليجد صديقه مصطفى في انتظاره ، ويبدءا طريق العودة . وفي الغضون ، يتصل غوستاف بعدد من اصدقائه عاملى الاستقبال حيث يتمكن احدهم من العثور على سيرج مختبئا في احدى الكنائس ويتم ترتيب لقاء بينهم لمعرفة حقيقة شهادته ضد غوستاف , حيث يعترف له سيرج بأن عائلة دي هددوه وقتلوا عائلته وهو ما ادى الى اعترافه بالقوة . وفي الوقت الذي يطلعه فيه بالوصية الثانية لمدام دي في حالة موتها مقتولة ، يتخلص قاتل العائلة " جوبلينج " منه ويرديه قتيلا ، وعن طريق الصدفة يسقطه مصطفى من اعالى سفح الجبل بعد ملاحقته .
إرث
يتحول الفندق الى ثكنة عسكرية مع اندلاع الحرب العالمية الثانية ، ونكتشف وجود عامل استقبال جديد بدلا عن غوستاف الذي عمل بعد عودته ومصطفى في متجر المخبوزات التى تعمل به اغاثا ، وبطريقة ما تتمكن الاخيرة من دخول الفندق واحضار لوحة غوستاف ، ولكنها تفاجأ بمداهمة ديمتري لها ، ما يستدعى دخول غوستاف ومصطفى متنكرين لإنقاذها . تكتشف بعدها اغاثا ، وجود الوصية الثانية لمدام دي خلف اللوحة والتى بمقتضاها يتم تحويل كامل ارثها من قصرها بلوتز ومصانع للأسلحة والادوية والمنسوجات ، بالاضافة الى فندق بودابست الى عشيقها غوستاف ، الذي يعين مصطفى خليفة له بالفندق .
وفي نهاية حديثه لويلكنسون ، يخبرنا مصطفى بلهجة حزينة متقطعة ، عن وفاة صديقه ومعلمه الحميم غوستاف خلال احدى رحلاتهم الى لوتز ، حيث يشتبك مع الجنود بسبب تعديهم على مصطفى كونه لاجئأ وليس من حقه حرية التنقل ، فيصيبوه باحدى طلقاتهم ، وفي النهاية تنتقل كافة املاك غوستاف بما فيها بودابست العظيم الى زيرو مصطفى ، كما يطلعنا الاخير على وفاة زوجته اغاثا وطفلهما الرضيع بعد اصابتهما بنوع من الحمى ، وذلك بعد سنتين فقط من زواجهما .
وبرغم ان تحولت ممتلكات كثيرة مثل بودابست الكبير الى ملكية عامة ، الا ان مصطفى قام بالتفاوض مع الحكومة على ابقاء الفندق له وبادله بثروة كبيرة ، حتى انه ظل محتفظا به ، بعد ان اصبح مفقرا ومعدما وغير مربح ، وذلك لأنه يحمل له ذكريات خاصة .
فندق بودابست الكبير، فيلم رائع , ممتع ، وأحد افضل افلام هذا العام ، وبرغم ان احداثه تجري في فترة تاريخية كانت حافلة بالصراعات السياسية والحروب الدموية ، إلا انه لم يتطرق لتلك الشؤون وطرح عالما فانتازيا لديه منطق خاص به ، معبأ بالمرح والسخرية ، وفي محوره الصداقة اللامشروطة والمحبة الابدية بين الأوروبي والعربي . إنها ببساطة فانتازيا عن الصداقة والوفاء والجريمة والطمع والانتقام والخطط القاتمة، وحكاياتٌ مسلّية تشعل فينا حنينا الى زمنٍ ولّى إلى غير رجعة.

رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]