سالم بن نجيم بن محمد البادي:
عواشة طهر الماء والغمام, ألقٌ وحضور طاغٍ ، سحابة ماطرة،فراشة ترتشف رحيق الحياة تحاول أن تهب فرحاً مستديما رغم طغيان الاحزان ، شدو يمامة وقت الضحى، سرب طيور يحط على شجرة غاف معمرة، صباحات الشتاء الندى والضباب الذي يكسو قمم الجبال، عواشة ملاك يجوب القرية ذات اليمين وذات الشمال غبطة وسرور وحزن مكتوم اثر موت والدتها وهي تلدها، عواشة طفلة لا شبيه لها هنا في هذه القرية النائية الموغلة في احضان الجبال، المطلة على ضفاف الوادي الذي تجري المياه فيه معظم أيام السنة وحجارة ضخمة تحرس جانبيه واشجار الحبن المزهرة، غابة السمر والغاف والسدر والسلم ، بيوت من الحجارة مغطاة بأغصان الاشجار اليابسة وبيوت من طين واخرى من خيام الشعر، ليل الشتاء قمر يمر سريعا خلف السحاب المتناثر في السماء وسكون وهيبة الجبال الصامتة والظلام المطبق صوت ذكر الاغنام في موسم تزاوجها أغنام داخل جدران من الحجارة ورياح شمالية باردة تزمجر.. بكاء طفل وصراخ امرأة يقولون ان الجن يسكنها، موقد نار وبرد، رائحة القهوة وقروص الخبز، عاشقان صغيران حمد وعواشه وحب ينمو في قلبيهما على استحياء أحلام العمر الطري، يلعبان معا تحت سدرة الوادي
الماء المنساب تحت جذعها الضخم وظلها الوارف يركضان خلف حبات النبق التي يحملها الماء بعيدا ضحك ولعب وبراءة، وقت الظهيرة سراب الاماني ومخاض حكاية حب تذهب عواشة الى المقبرة في سفح الجبل تخبر أمها عن كل شي عن والدها وشقيقها عبدالله وحمد تعود مسرعة بعد أن تكون ذرفت دموعا تمسحها حتى لا يراها أحد، في أيام الصيف تهب رياح ساخنة من جهة الشرق في انتظار ظهور المزن الامطار الموسمية النادرة، سهر تحت ضوء القمر الباهر، مقاومة البعوض الشرس يلح في امتصاص دم من الجسد الغض، هوام الليل وكلاب تحرس تخوم القرية بعدما رموا لها بقية من عشائهم
عواشة تهوى الوحدة وتمضي شطرا من الليل تتأمل السماء تصغي الى اصوات المخلوقات الليلية في اطراف القرية صوت ثعلب يحث اولاده الهجوم على القرية جمال مربوطة هنا وهناك جمل يصدر نداء للاناث، ديك يصيح مبشرا بقرب بزوغ الفجر، حمد وعواشة وخطوات نحو العشق صغيران يجهلان اجتياز متاهاته، عواشه تتلو تراتيل الغياب وتسير من غير قصد نحو فيافي شاسعة من الوجد وتتمنى ان لا تعود منها ابدا، حمد وعواشة انجذاب واعجاب وتشابه في الطباع، ماتت أم عواشة وهي تلدها كانت ذاهبة لترعى الغنم حين أحست ألم المخاض وعادت نحو القرية كانوا قد بذلوا جهودا كبيرة حتى تتيسر الولادة تعويذات,وتمائم,وماء قد قرأ عليه المطوع، شرب ماء غسلت به أرجل رجال كانوا قد ركبوا البحر في الماضي، ماتت في اليوم التالي وعواشة تعشق الليل وتتبتل في محراب الالم واليتم وفقد الاب الراحل رفقة جماله الى المدينة يحمل أمتعة الاخرين لقاء أجر زهيد، عواشة لا ذنب لها في موت امها غير انها لا تتوقف عن لوم نفسها بكاء ودموع وحدها تمسحها حين تمتد الايادي الحانيه لتمسح دموع أقرانها الصغار
حين كبرت عواشة تمثلت قول (روسو) في كتابه اعترافات (ان مجيئي الى الحياة كلف أمي حياتها وكان ذلك بداية ما سأعرفه من ماسي) ، وحمد سيبكي كثيرا من بكائها وعواشة تنهض من كبوتها وتنفض ركام الحزن حين تقرر التخصص في أمراض النساء والولادة تجتهد حد الاحتراق سهر طويل وبحث مستمر كانت الفتاه الاولى من قريتها تذهب الى الجامعة والقرى المجاورة والاولى على دفعتها بعد التخرج، تبهر الجميع عندما اصبحت استشارية في وقت وجيز، نجاح متواصل، تنشر ابحاثا في مجلات عالمية متخصصة, تحضر المؤتمرات والمحاضرات وتقدم اوراق عمل. تسافر تتحدى الوحدة والغربة واوجاع الفراق والفقد تحارب مجتمعا ينكر على الفتاة كل هذا، لا تلقي بالا للأقاويل والشائعات والحسد والغيرة تنهار احيانا لكنها تصمد وتقاوم تقابل الضجيج والصخب بالهدوء والسكينة تخفي ورائها الهم الثقيل ومرارة رحيل أمها وهي تلدها، عزيمة هائلة تتركهم يتعاركون وتذهب بعيدا مع التفاته خاطفه تعني التحدي واثقة تذهب واثقة تعود أميرة قد لبست تاجا من النجاح.
تتوقف قليلا وتعود الى همها الاول تسأل والدها عن شكل أمها عن جمالها وطباعها والحب الذي كان بينهم عن لون عيني امها عن ملابسها وما تحب وتكره وفي كل مرة تتبع هذه الاسئلة بدموع اليتم المبكر وهي تلوم نفسها وتركض هاربة خلف النجاح كأنها آلة وحمد يهرول خلفها لكنه عاجز عن اللحاق بها وهي منشغله بوالدها ترعاه تمازحه تشاكسه تنثر السعادة حوله وتغدق عليه حب لا حدود له تتخذه صديقا تشكو له همومها تخبره اسرارها وتسوق له بشرى تفوقها تريد أن تكون مصدر فخره واعتزازه وهي التي منعته من الزواج مرة اخرى كانت اذا ذكر والدها امر الزواج تبدأ بالعويل والتوسل حتى ينفطر قلبه تلثم قدميه ترجوه بهستيريا مرعبة وانفعال شديد حتى وهي نائمة تهذي وتذكر امها وترجوه الا يتزوج تخشى ان تفقده او أن تستحوذ عليه امراة غريبه تشعر بندم مضاعف و والدها يتقدم به العمر وحيدا وشقيقها عبدالله الذي يكبرها قليلا التحق باحدى سفارات بلاده في الخارج وكان هذا فراق اخر والم جديد كانت تحب عبدالله كثيرا وعليها الان ان تقاوم صعوبات الحياه وحيده والمحاربون لها عند كل طريق تسلكه ترمي الى حمد سهام رسائلها وتخبره بكل تفاصيل حياتها تبعث له بالابحاث التي تنجزها قبل ان تنشرها تفعل ذلك بفرحة طفلة اشترت لعبتها الاثيره, هو يرى السعادة بين سطور رسائلها والحزن والضحك والبكاء والجد والمزاح معا يحبها وقد شغلت عنه يريد وصالها ولا يقدر، يرغب في فراقها ولايفعل وهو يحاول ذلك دوما كل ما يقوم به من تصرفات يريد جذب اهتمامها نوع ملابسه احذيته قصة شعره طعامه وادق تفاصيل حياته درس في ثلاث جامعات وتخرج منها بتفوق لا لشي الا ليثبت لها انه ناحج امضى وقته تائها بين المدن لا هدف له الا رضاها وخيالها حاضرا معه يتصرف وكأنها قريبه منة وهي بعيدة ممسكا بيدها مسافران معا وهما لا حقيقة شجن واحزان واحلام مؤجله وحقيبة كبيرة يحتفظ فيها برسائلها للذكرى,هي يلح عليها شعور بالذنب موت امها ومنع والدها من الزواج,حمد وهي الضياع وسنوات الهروب وتوق الى النسيان أمل ضبابي بعيد المنال قيود عاجز عن كسرها هم الفراق لا مطر ولا عشب,ونسيم القرية اضحى رياحا ساخنه شديدة السرعة تثير غبارا يحجب الرؤية, يصرخ حمد في يأس: فلتذهب الى الجحيم وللتتزوج عملها وتبقى عازبة في كنف والدها رهينة عقدة وفاة امها وعدم زواج والدها مالي ولها اريد التحرر من عبودية حبها يقول حمد لكن سرعان ما يعود اليه الامل يقول حتما سياتي اليوم الذي تمل فيه حياتها هذه وتحن الى الاستقرار ولن تجد ذلك الا معي
كان ذلك غرورا مني وتقديرا مبالغا فيه لنفسي أعلم ذلك جيدا يضيف حمد وتقول له: صمتك هذا ابكاني وحين يتمادى في التجاهل ترسل اليه، هروبك يقتلني وتقسم بالله انها حتى لا تعرف كيف تمارس عملها في أيام هجرانه لها لا رغبه لها في فعل اي شي تطلب اجازه تمكث في البيت وتعتقد انه الفراق الاخير
وهو لا يصبر عنها يزورها في مقر عملها يحمل الهدايا لمرضى لا يعرفهم يراقبها عن بعد بصمت ويذهب وتقول له: كف عن هذه الحركات وهي لا تعني ما تقول هي تفرح بزيارته واذا غلبه الشوق اليها عاد الى ذكريات الطفولة والحقيبة المتخمة برسائلها، عواشه وحمد وقصص الجدات والعمات حول موقد النار كبار العائله يتبادلون الاحاديث واحداث اليوم الذي مر ، الليل واطفال ينامون مبكرا حول موقد النار حكايا امم بائده واساطير الجن والعفاريت والحيات وقطاع الطرق اللذين يقتلون من اجل السلب والنهب وقد فعلوا ذلك ببعض أهل القرية، تفاخر ببطولات الاسلاف ، جمال يحتفى بها تعلف بالتمر والقت واوراق اللوبيا والشوع وانتظار موعد أن تلد صغارا ويشرب من حليبها بعد المغرب وفي الصباح.
المشاكسه والجدال على وضع الحطب في موقد النار صنع القهوة في الدلة العريقة تسابق على تقليب اقراص الخبز فوق الجمر ويلعبون لعبة (سرى الليل) والعاب آخرى تحت ضوء القمر
وعواشة في زحمة المدن والاسفار الكثيرة تذكر ولعها بالاغنام وصغارها معها تقتنص لحظات من الفرح والنسيان تبحث لصغار الغنم عن اسماء كما اطفال البشر تستيقض باكرا ترعاهن ترتدي ملابسها المختارة بعناية تميزها عن قريناتها الصغيرات، حناءها كل ما بهت طلبت من قريباتها تجديده,عطرها دهن العود والمسك والعنبر ، زعفران وورس وياس بخور اللبان، ذهبها الذي ورثته عن امها واسورة من فضه
عواشة حركة دؤوب جذلى,مرحه,مزهوة بجمالها ورشاقتها وشعرها الفاحم الطويل ترسل اغنام والدها الى المرعى، تعزل صغار الغنم حتى لا ترافق القطيع وهي لا تقوى على قطع المسافات الطويله تربط الاغنام التي من المحتمل ان تلد قريبا تحت ظل الشجر وتقضي سائر يومها تتردد عليها لرؤية المواليد الجدد والوانها وذكر أم انثى تطعم الامهات وتسقيها تذهب خارج القرية قليلا في انتظار قدوم القطيع تحلبها قبل ان تصل الى البيت لوجبة العشاء تخلط الحليب مع خبز البر وقليل من السمن والسكر والباقي يحول الى لبن يستخرج منه السمن والكامي، (صغيرين نرعى البهم يا ليت اننا الى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم)
ولا يرغب حمد في اجترار هذه الذكريات وقد سمعها مرارا وهو الذي كان شاهدا عليها في القرية لكنها تستمر في كتابتها وارسالها اليه تحكي عن الكلبة التي كانت تلد جراءا كثيره يقوم الاهل بالتخلص منها وعواشه تشفق على الام المكلومه تتولى اطعامها ومؤانستها وعن الدجاج التي ترقد على البيض وعواشه تنتظر خروج الفراخ الصغيرة من البيض لتلعب معها وتكلمها وتخبرها ان امها ماتت والفراخ لها أم
طفولة خارقه عواشة تسرح شعر الصغيرات في القرية تجعله ضفائر كثيرة وتكحلهن وترعى العجائز تطهو الطعام لهن تغسل ملابسهن تعلمت الخبز على (الطوبج) مبكرا وقد تذهب بالاغنام الى المرعى نيابة عن راعيات الاغنام اذا مرضت احداهن، هي تثير الاعجاب وتتعلق بها الفتيات وتغار منها بعض قريناتها وهي ملء السمع والبصر، تتوحد مع الطبيعة الرياح، السحاب، المطر، والرعد والبرق والشجر والعشب والطيور والحيوانات الاليفة والجبال والاودية والشعاب والاماكن والذئاب صوتها ليلا يعزف لحنا غريبا يوحي بالقوة والرهبة للذئاب هيبة في هذه القرية حتى انه يمنع ذكر الذئب في الليل وله قصص مؤلمة مع افتراس الاغنام حين غادرت عواشة الى المدينة لبست القرية ثوب الحداد، عواشة قمر القرية المضيء اختفى, القرية سكون ورتابة وكثيرات هن اللاتي شعرن بالحزن العميق وفقدان العزيزة الغالية عواشة
وعواشة كانت تملأ قلوبهن بالبهجة والانس تقدم لهن خدمات جليلة كانت بنتا لمن لا بنت لها واما لليتامى وأختا لمن لا أخت لها كانت خادمة للجميع، عواشه مشغولة مشغولة وتحاول صد رياح العشق الهوجاء وتحارب على جبهات كثيرة ، لا شك أنها تحب حمد تهتم به كثيرا تود لو تخفيه في عينيها تراقبه لا ترفع بصرها عنه في وجوده تردد كلماته تحب سماع صوته تبتسم حين تراه مقبلا تسأل عنه تفتقده تظل واقفة حينما يذهب حتى يتوارى عنها،تودعه باشارة من يدها البضة,الشوق ولهفة انتظار العودة، تعطيه خلسة من الاشياء النادره التي يحضرها والدها من المدينة، لعبة على هيئة بندقية صغيرة, فتاك, شاكليت, حلويات, تفاحه,برتقالة,أشرطة فيها شعر نبطي وأغاني شعبية, تقطف له ازهارا برية، ورد وياسمين تجلبه النساء الحضريات خلال زيارتهن للقرية من البلدات المجاورة تخبئ له جزء من لحم الماعز الذي يعد عادة للضيوف الغرباء وفي الصيف تترك له شيئا من الرطب والتين والعنب والمانجو والزيتون والفرصاد
تنهض عواشة باكرا في الصيف لاستقبال نسمات الصباح الاولى التي تحمل رائحه ازهار اشجار السمر, تبحث عن اعشاش الحمام وترفض ان تفرق بين صغار الحمام وامهاتها كما يفعل اطفال القرية يحضرون الحمامات الصغيرات ويطعمونها الحب عنوة ويقومون بنتف ريشها حتى لا تستطيع الطيران و تتحول الى طيور اليفة لا تغادر البيت، تربي ظبية جلبتها لها الراعية العجوز من الجبال تحثها عواشة على اللحاق بأمها لكن الظبية الفت عواشة وتعود اليها قبيل المغرب كل يوم، عواشة تستخرج الماء من البئر بواسطة الدلو والرشا تملأ حوض صغير بني من الحجر والطين, حتى ترتوي كل الاغنام، تحمل على رأسها (صفرية) الماء الى البيت تضع شي منه في القربة المصنوعه من جلد الماعز وتترك بعضه لطهي الطعام
وتسرد قصة ما عاد حمد يذكرها ويتساءل اذا كان ذلك حدث في الواقع كان يمر قريبا من البئر وقد انقطع الحبل وسقط الدلو في البئر تقول عواشة انه نزل الى البئر واستخرج الدلو، بطلا كان أمام ناظريها وحمد الآن يعرف أنه جبان وان حبال حبها ماانقطعت ودلو ودها مملؤ حتى الثمالة عاجزا عن افراغه مما علق به منذ ذلك الزمن ، كانا يركبان سيارة الجيب المتهالكه ذهابا وعودة الى المدرسه المبنية من الزنك والخشب، وحب عواشة يكبر ويزداد رسوخا وكان حمد يأمل أن ينساها لكن حبها يستوطن قلبه الى الابد
ويزهد في اي شي سواها يختار الطرق المظلمة والمسافات النائيه يزور البلدان التي تلقى تعليمه فيها يحب ان يجلس وحيدا في مقاهي لا يعرفه فيها احد وهي معه دوما خيالا وشبحا يطارده
يزور المكتبات يقلب اوراق الكتب عسى ان تمنحه بعض السلوى والنسيان يدس وجهه بين صفحات كتاب حتى يشار اليه ان الوقت انتهى يختار الافلام التي تعرض آخر الليل في السينما يسير في شوارع المدينه الخاوية بعد ان ينام اهلها يعود الى القرية يقتات بذكريات الطفولة مع عواشة
يهجر عواشة مرغما لعلها تهجره ولا طاقه له في هجرانها تهيمن على حياته ويضبط ايقاع ايامه على عشقها في صحوه ونومه وحله وترحاله يرجو ان تكون قريبة منه ويعيش مآساة بعدها وهي مستمره في مطاردته ورسائلها تنوب عن حضورها ويصرخ حمد: اقتربي لتشاهدي ما حل بي من بعدك أنا بريء من جنون حبك ومن هروبك المتواصل والواقع انه لا دخل لي بعقدك النفسية يا امرأة من نار وماء,حر وصقيع,صيف وشتاء قرب وبعد,شمال وجنوب، الان اخبريني عن المشعوذين والمطاوعه وقارئات الكهف والفنجان والسحر الذي يجعلني لا استطيع الخلاص من حبك، أمعن في الهروب وانا مطارد من طيفك الذي يلازمني ، قال حمد: مازحا حقا انت ساحرة ترافقني مثل ظلي وتتجسس على وتعرف مكاني ، قالت عواشه: بل تلك روحي ترفرف حولك اين ما كنت، عواشه وحمد لا لقاء ولا فراق امل, واشواق لا ينطفئ جمرها مع طول السنوات تطارده ويطاردها ولا يلتقيان ، يتسلل كل ما عاد من سفره الى مقر عملها تبتسم وتهز رأسها وترسل نظرات تشده اليها وتمنعه من هجرها تقول له عبر رسالة مقتضبة:شكرا لك على زيارتك سعدت جدا اليوم برؤيتك ويقول لها: حاولت أن ازورك عشرات المرات لكني لم استطع تدبر حيلة في خضم انشغالك ولا اخفي غيرتي من المحيطين بك تتجاهل ذلك وترسل له وجه مبتسم خجول، عواشة رسامة بارعة تبعث اليه بلوحات ترسمها في وقت فراغها زهرة وحيده تنبت في صخرة صماء تحيط بها الجبال والاشجار والشعاب وطفل بائس يتيم,ووجه امراة جميلة حزينة وواجمة,حيوانتات اليفه,وبيوت ووجوه من القرية ترسل اليه الهدايا، عطور يحبها,دشاديش,وغتر,ونعلان تعرف مقاساتها عبر مراحل عمره كتب جديده تعرف انه يحب قرأتها وهويحتفظ بهذه الاشياء لا يستعملها، خشية ان تبلى، تقول له: بعدك يوجعني وتعود لتطلب منه ان يتصرف وكأنها غير موجودة عش حياتك كما تشاء افرض انني مت، سافرت، هجرتك، اغرمت برجل آخر ثم تندم وتقول له: لو فكرت مجرد تفكير في ما قلته لك سوف اهجرك الى الابد
وعواشه تبدع في عملها وتحصد الجوائز والشهادات والاشادة وتترقى في مجال وظيفتها وحمد يواصل هروبه ويتصرف بتهور وطيش وحماقه ويجلب لنفسه المشكلات ويضيق ذرعا بالحياة يذهب الى المراقص والحانات واماكن اللهو والمسارح وحفلات الغناء وامسيات الشعر، جرب وظائف كثيرة سرعان ما يتركها الى وظيفة واخرى واخرى ويقول لذاته مواسيا حين تأتي عواشة سوف اجد عملا واختار بلدا استقر فيه معها ودوما يعود الى حقيبة رسائل عواشة وكومة من الهدايا وينتظر عواشة وهي مشغولة ومسافرة تحضر المؤتمرات وتزور شقيقها عبدالله تحب اولاده وترتاح اياما بينهم وتعود لتلعب لعبتها تلك مع حمد رسائل دون انقطاع وحمد لا يزال سائرا في طريق الانكسارات والخيبات وسوء الطالع انتظار طويل غموض في الرؤيا وطريق تحفه الاشواك وعواشة في طريق النور الساطع حفظت القرآن وهي طفلة، تواظب على الصلوات في اوقاتها والنوافل,وصيام رمضان,وصيام التطوع الاثنين والخميس والايام البيض,وعمرة تلو الاخرى مع والدها,والحج المتكرر,خصصت جزءا ثابتا من راتبها للصدقة، حفرت آبارا في افريقيا وبنجلاديش صدقة جارية عن امها,بنت مساجد في اليمن,كفلت ايتاما,وتبرعت للجمعيات الخيريه التي ترعاها الدولة، وحمد يراقبها عن بعد ويشعر بالوجع والحسرة والخذلان والغرق في مستنقع الانتظار المر وعواشة عقدتها امها التي ماتت عند ولادتها ووالدها الذي منعته من الزواج، وحمد عالق بينهما يرغب في ان تهجره فلا تفعل وحين يوشك على النسيان تمنحه املا وكرما لا حدود له تسأل عن احواله ودموع وتوسل ينعقد لسانه وتضيع الكلمات وتهرب الحروف اذا اراد مصارحتها في امر الزواج والايام تمضي وهو يشعر بالندم لانه اضاع فرصا كثيرة وقرر مئات المرات هجرها ووعد نفسه وعدا قاطعا واخيرا لا رجعة فيه لكنه في كل مره ينكث بوعده لنفسه ويعود الى عواشه يذهب لزيارتها في مقر عملها دون كلام ابتسامتها المعتادة ونظرات حانيه تغرقه بطوفان الحب ووعد بالتعويض عن سنوات الحرمان، ضمآن يرى الماء البارد لكنه لا يستطيع الوصول اليه لسبب لا يعرفه تزداد خفقات قلبه ويتعرق جسده لا يقوى على المشي يتصرف تصرفات غربيه ومضحكة حتى يختفي عنها، يحقد عليها ويلعن ضعفه ويقرر انه آن الاوان لهجرها ويتمنى ان تكون آخر زياره لها وحين تفتقده تقول له هجرك يغتالني وتتوسل اليه: رد علي قل شيئا وكما في كل مرة يعود تجره الاشواق قهرا وسنوات الخراب والصبرغير الجميل يكتب رسائها الهاتفيه على الورق ويعلل عدم زواجهما انها لا تريد ان تفعل شيئا حرمت منه والدها، ناجحة هي ومشهورة في وسطها ومع ذلك تلوم نفسها على الدوام حزن اتسعت رقعته من الايام وهي لا تخالط احدا على كثرة المعجبين من حولها وطالبي القرب منها والتودد اليها لها صداقات نادره مع زميلاتها في العمل نذرت حياتها لاعمال البر والتطوع والعنايه بوالدها والاهتمام بأقربائه واقرباء والدتها ولا تنسى القرية التي امضت فيها طفولتها وشيئا من شبابها، في الاعياد والمناسبات والمواسم توزع حقائب مليئه بالهدايا ، واكياس الرز والطحين والسكر والقهوة والزيت والتمر الفاخر ، اوصلت المياه عبر الانابيب الى بيوت القرية من ذات البئر التي كانت تستخرج منه الماء بالدلو، وتتسابق نساء القرية للترحيب بها واظهار مشاعر الحب لها حتى باتت تلقب بالغالية وهي لا تهتم بذلك تصغي اليهن بتواضع تسأل عن احوالهن وتفاصيل حياتهن عن اولادهن ولا تجيب عن سؤال يتكرر دائما لماذا لم تتزوج حتى الان؟ تعابير وجهها وحدها تجيب مسحة من الاسى ربما هي لا تعرف الاجابة او لا تريد ان تصارح نفسها بالسبب النفسي الكامن في اعماقها ، وحمد ينتظر وينتظر وسؤالا يسبب له وجعا مستمرا إلى متى الانتظار.