فيما يؤكد أن المشكلة لا تكمن في حداثة الشعر بل في حداثة المجتمعات
الاهتمام بالأدب الصوفي الإسلامي ورموزه في الأدب العربي المعاصر لا يزيد عن كونه "موضة ثقافية" عابرة

الرواية لا تنافس الشعر ولا يمكنها ذلك * قصيدة النثر تعاني من الاستسهال الشديد في كتابتها

اجرى اللقاء ـ وحيد تاجا :
اكد الناقد والباحث الدكتور إبراهيم أبو هشهش ان مفهوم الحداثة مفهوم إشكالي غامض ومعقد يجري تداوله منذ مئتي عام تقريبا. وأضاف في حوار مع "أشرعة" ان المشكلة لا تكمن في حداثة الشعر بل في حداثة المجتمعات. وحول منافسة الرواية للشعر. وقال رئيس دائرة اللغة العربية وآدابها في جامعة بير زيت الرواية لا تنافس الشعر ولا يمكنها ذلك، ولا يمكن لشيء أن يحل محل الشعر حتى لو قل جمهوره عن السابق .. اما عن توجه بعض الروائيين العرب لإحياء التراث الصوفي واستخدامه في السرد فرأى أن الاهتمام بالأدب الصوفي الإسلامي ورموزه في الأدب العربي المعاصر لا يزيد عن كونه "موضة ثقافية" عابرة لن تستمر طويلا. وتوقف عند قصيدة النثر مؤكدا ان الذين يكتبون قصيدة نثر متفوقة لا يزالون محدودين في عددهم. وأنها " قصيدة النثر" تعاني من الاستسهال الشديد في كتابتها، والدكتور إبراهيم أبو هشهش رئيس دائرة اللغة العربية وآدابها في جامعة بير زيت. وحاصل على دكتوراة في الأدب العربي (1992) من جامعة برلين في ألمانيا. نشر عدداً من الدراسات في الأدب الحديث والأدب المقارن، وصدرت له عدة كتب مترجمة عن الألمانية في الفكر والأدب وكتب الأطفال.

* ـ كيف ترى المشهد الشعري الفلسطيني اليوم في (أراضي ألـ 48 و الضفة والقطاع) ..أو في الشتات.. ؟
**المشهد الشعري لا يصنعه الشعراء الأحياء فقط، ولا يتوقف عن الفاعلية بموت الشعراء، فلا يزال درويش، في فلسطين على الأقل، هو الشاعر الأول الأشد حضورا والأكثر مقروئية بين الشعراء العرب المحدثين الأحياء والموتى.
ومع ذلك فهناك أسماء شعرية فلسطينية فرضت حضورها النسبي في فلسطين وخارجها، وأظن أن بعض الشعراء المنحدرين من أصل فلسطيني في الأردن خاصة صار لهم حضور نوعي في المشهد الشعري العربي – وهم يشكلون حالة بارزة في الشعر العربي المعاصر عموما، حتى لو كانوا أقل شهرة من أسماء عربية أخرى، فالشهرة في نهاية المطاف ليست معيارا نقديا أو جماليا، وبعض هؤلاء وصل بقصيدة التفعيلة آفاقا جمالية غير مسبوقة. أما هنا في فلسطين فغسان زقطان وزكريا محمد هما الأكثر حضورا. وأعتقد أن زكريا محمد يشكل حالة خاصة فريدة بلغت تخوما مدهشة لم يبلغها كثيرون في قصيدة النثر العربية عموما. وإلى جانب هؤلاء هناك بعض الأسماء الشابة التي يمكن أن تلفت الانتباه، ولكن الأمر لا يزال رهنا باستمرارها وترسخها في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي. وهنا ربما كان الأكثر دقة أن نتحدث عن شعراء فلسطينيين لا عن شعر فلسطيني، لأن شعر الموضوعة الفلسطينية انحسر انحسارا واضحا في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق ربما يكون عز الدين المناصرة هو آخر شعراء القضية الفلسطينية الكبار.

* ـ تتهم معظم القصائد الفلسطينية بأنها كانت تكتب في مرآة السياسة، ولهذا لم تستطع أن تقدم مقترحات جمالية تلامس التراجيديا الفلسطينية. ما رأيك. وهل ينطبق هذا الاتهام على القصيدة المعاصرة. ولاسيما بعد أوسلو...؟
**. لم تعد السياسة بشكلها المباشر ذات حضور في القصيدة العربية المعاصرة. وأظن أن ذلك انتهى في القصيدة الفلسطينية بانتهاء حالة الحماسة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، أي بعد الخروج من بيروت وبداية مسيرة أوسلو...إلخ. وحتى قبل ذلك كانت القصيدة الفلسطينية بوصفها جزءا من المشهد الشعري العربي خاضعة لكل الشروط الجمالية بعواملها ومؤثراتها المختلفة والمتنوعة التي وصل إليها الشعر العربي الحديث في كل بيئاته. أما الآن فقد غابت السياسة تماما أو تكاد عن القصيدة، أو ظلت في العمق وتراجعت إلى الخلفية بوصفها أحد المكونات الحياتية الفاعلة على نحو مباشر أو غير مباشر في الوجدان الجمعي.

* ـ بالتالي ما الذي تبقى من الشعر المقاوم. وما هو مفهومنا للالتزام في ظل اتجاه الشاعر نحو الذات أكثر فأكثر. ؟
**. لا أظن أن أحدا يتحدث اليوم عن الالتزام مثلما كان الحال في الستينات والسبعينات؛ فقد تحول العالم تحولات عميقة بالغة التأثير وكأنها حدثت على مستوى الصفيحة التكتونية للكرة الأرضية، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهذه التحولات سبقها، على صعيد الممارسة الأدبية، خفوت النبرة الحماسية، وتسيد مناهج نقدية ومقاربات جمالية جديدة، حلت بشكل كلي تقريبا محل المقاربات الواقعية والاجتماعية" الملتزمة". الالتزام يتكرس الآن ليكون التزاما جماليا، وهذا يحتوي ضمناً على الالتزام بالمعنى الإنساني العام، لأن الإنسان وخيره هما المقصد النهائي لكل الفنون.

* ـ وأين ترى موقع أدب السجون في فلسطين. وكيف تقيم ما كتب من شعر في إطار هذا الأدب. لا سيما ونحن نعيش تجربة متميزة للنضال الفلسطيني في السجون الإسرائيلية هذه الأيام ...؟
**. الأدب الذي يكتبه مناضلون فلسطينيون في معتقلات الاحتلال يزداد حضورا يوما بعد يوم على المستوى الكمي، ولكنه لم يفرض نفسه بعد على المستوى النوعي أو الجمالي. إنه يمثل حرارة تجربة الاعتقال والمواجهة وصدقها، وغالبا ما يكتبه مناضلون ومناضلات لأنهم في المعتقل، بمعنى أنهم ليسوا من سلالة الأدب والأدباء، ولكنهم أرادوا تسجيل هذه التجارب الإنسانية الفريدة، بدون أن يمتلكوا بالضرورة الأدوات الفنية واللغوية الكافية لذلك.وأغلبهم يجد الآن في الرواية السيرية الشكل الملائم للتعبير عن هذه التجربة.

*ـ ما مدى صحة القول بان صعود الرواية يأتي على حساب الشعر. لاسيما وان العديد من الشعراء اخذوا ينحون باتجاه كتابة الرواية...؟
**. الرواية لا تنافس الشعر ولا يمكنها ذلك، فهما جنسان مختلفان تماما، مع أن عدد قرائها الآن أكبر بكثير من قراء أي جنس أدبي آخر. ومع ذلك فلا يمكن لشيء أن يحل محل الشعر حتى لو قل جمهوره عن السابق. ما يمكن أن ينافس الشعر إلى حد ما، في رأيي، هو الأغنية ذات الحضور الطاغي في وسائل الإعلام، بصرف النظر عن مستوياتها الفنية. الأغنية والقصيدة هما من طبيعة واحدة تقريبا، خاصة أن أغلب شعرنا هو غنائي يعبر مباشرة عن الذات، ولذلك يمكن للأغنية أن تشبع عند كثيرين النزعات الوجدانية نفسها التي تتوجه إليها القصيدة، كما يمكن للقصيدة أن تتحول إلى أغنية. ولكن الطيف المعنوي للشعر العربي والموضوعات التي يعبر عنها أوسع بكثير من الموضوعات المحدودة التي يجري تناولها بتسطيح شديد في الأغنية العربية، وهذا لا يزال لصالح الشعر، ولكن هذا الأمر نفسه لا ينطبق بالضرورة على الشعر والغناء في العالم، ولا ننسى أن جائزة نوبل الأدبية الأخيرة قد منحت لشاعر ومغن. الإنسان عموما لا يمكنه الاستغناء عن الشعر، وسوف يحظى الشعر دائما بجمهوره، وإنْ كان أقلّ من السابق، كما ينبغي القول أيضا إن هناك تحولات تحدث على طبيعة تلقي الشعر، أقصد النزعة إلى التأمل التي حلت محل النزعة الطربية الحماسية المرتفعة النبرة، علما أن هذه الأخيرة لم تنتهي تماما من المشهد، بل ربما تعززت عند جمهور عريض من متابعي برامج إعلامية مثل شاعر المليون، أو من جمهور شعراء برزوا في مثل هذه البرامج التي عززت صورة الشاعر المنبري لدى عامة الناس.

*ـ على صعيد شكل القصيدة. كيف ترى واقع قصيدة النثر الان. وهل نستطيع القول إن النقاش والجدل قد حسما لصالحها. ؟
**. نعم، قصيدة النثر حاضرة بقوة في المشهد الشعري الآن، وهناك إنجازات هامة جدا في هذا المجال في الوطن العربي وفي فلسطين، ليس لأن قصيدة النثر حسمت الأمور لصالحها، ولكن أيضا لأن هناك جملة عوامل إعلامية وثقافية أدت إلى هذه النتيجة. ومع ذلك فالذين يكتبون قصيدة نثر متفوقة لا يزالون محدودين في عددهم. قصيدة النثر تعاني من الاستسهال الشديد في كتابتها، وكثير من كتابها لم يصلوا إليها بوصفها خيارا جماليا ثقافيا جاء بعد تشبع بالتجربة الشعرية العربية والعالمية في كل عصورها، بل لأنها شكل متاح وقابل للتجريب وسهل مثلما قد ينصرف الوهم، وهذا، بشكل عام، هو جوهر أزمة كثير من القصائد التي يكتبها الشباب الآن، فهي قصائد فقيرة في لغتها، متمركزة حول ذات متضخمة تضخما لا يتناسب مع ضحالة تجربتها الإنسانية، ومحدودية ثقافتها الأدبية، وربما كان هذا أحد أسباب انصراف الجيل الجديد عن تلقي الشعر عموما.

*ـ هل صحيح أن اليوت وبيرس وغيرهما هم الآباء الشرعيون للقصيدة العربية الحديثة وأن مدارس النقد الجديدة في أوروبا هي التي تتحكم عبر قنوات معروفة في القاموس الشعري العربي الحديث، أم أن المتنبي والبحتري والشريف الرضي وغيرهم ما زالوا يتنفسون في القصيدة العربية الحديثة...؟
**. إليوت خصوصا كان له تأثير واضح على رواد الشعر الحديث ولا سيما السياب وصلاح عبد الصبور، ولكن أظن أن السياب تأثر بالشاعرة أديث سيتويل أكثر من تأثره بإليوت. وعلى أي حال فتجربة هؤلاء الرواد كانت استمرارا وتتويجا لمحاولات تجديد طويلة شهدتها القصيدة العربية في كل عصورها، وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وهي تجربة تنطلق أساسا من معرفة حميمة بالتراث الشعري والأدبي العربي في كل عصوره، وانفتاح على الشعر الغربي، وخاصة الإنجلوسكسوني.

*ـ الحديث هنا يجرنا إلى السؤال إن كان المثقف العربي استطاع أن يستوعب مفهوم الحداثة فعلاً وينتهي من إشكالياتها. وبالتالي عن سبب عدم حسم موضوع الحداثة في الشعر أو في الأدب عمومًا حتى الآن. ؟
**. مفهوم الحداثة مفهوم إشكالي غامض ومعقد يجري تداوله منذ مئتي عام تقريبا. المشكلة لا تكمن في حداثة الشعر بل في حداثة المجتمعات. المجتمعات العربية وصلت إلى حالة الحداثة الموهومة مدفوعة برياح العولمة العاتية، وقبل ذلك بمؤثرات خارجية عنيفة أحيانا، مثل الاستعمار الغربي، وهذا ترك في أعماقها جيوبا وتجويفات تتربص فيها العصور القديمة والوسطى بقيمها ومواضعاتها المنافية للحداثة، مما جعل قيما تنتمي لعصور مختلفة تتزامن في عصر واحد، وهذا لا يستقيم، ولا بد له من أن يؤدي إلى صراعات عنيفة نشهد الآن جانبها الدموي المخيف كل يوم في البلاد العربية. وفي هذا كله يبقى الشعر والأدب حالة متعالية قليلة التأثير، لأنها نخبوية جدا.يجب أولا أن تدفع هذه المجتمعات استحقاقات الحداثة، مثلما فعلت الشعوب الأخرى التي استحقت حداثتها بجدارة ووصلت إليها بتدرج حضاري ومعرفي متصاعد، وتجاوزت ما نحن فيه الآن منذ مئات السنين.

*ـ هناك حديث كثير حول الأدب النسائي .. ما مفهومك لهذا الأدب، وهل أنت مع هذه المقولة؟
**. هناك إسهام متزايد للمرأة في البلد العربية على صعيد الرواية خاصة، ثم القصة القصيرة وقصيدة النثر على نحو أقل. وهذه الإسهامات مكتوبة من وجهة نظر هؤلاء الكاتبات وتجاربهن الشخصية والاجتماعية والإنسانية، وهي بالضرورة تجارب تختلف بهذه الدرجة أو تلك عن تجارب الرجل وطريقة رؤيته للأمور، ولكن لا يمكن وصف ذلك بأنه أدب نسوي، فهو غالبا لا يحمل أيديولوجيا فمنستية، سواء كانت معادية للرجل مثلما رأينا في بعض أعمال نوال السعداوي، أو ملامح أدبية ما بعد نسوية، كما هو الحال في الأدب النسوي الغربي المعاصر عموما.

*ـ يلحظ لجوء الشعراء الفلسطينيين إلى استخدام الأسطورة في قصائدهم. أو إلى استلهام الشخصيات التراثية واستنطاقها بشكل أقرب للمبالغة. لماذا برأيك ...؟
**. توظيف الأساطير المختلفة، وخاصة أساطير الخضرة والانبعاث، كان أمرا شائعا في قصيدة الستينات والسبعينات، وقد بدأه الشعراء التموزيون منذ الخمسينات، وخاصة بعد أن ترجم جبرا إبراهيم جبرا جزءا من كتاب "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر، بالإضافة طبعا إلى تأثير " الأرض اليباب" لإليوت. ولكن كل هذا انحسر كثيرا الآن، وإن استمر الإلماح إلى هذه الأساطير ودلالتها بوصف بعضها أنماطا عليا، مثلما فعل درويش على سبيل المثال، لا إعادة سردها، مثلما فعل السياب وشعراء آخرون في البداية.

*ـ كنا لاحظنا توجه معظم الشعراء العرب إلى الشعر الصوفي، لاسيما بعد محاولة ادونيس إحياء التراث الصوفي واستخدام مفرداته في القصيدة، .ولكن الملفت الان هو توجه بعض الروائيين العرب لإحياء التراث الصوفي واستخدامه في السرد..ما رأيك بهذه الظاهرة وكيف نفهمها..؟
**. أخشى أن الاهتمام بالأدب الصوفي الإسلامي ورموزه في الأدب العربي المعاصر لا يزيد عن كونه "موضة ثقافية" عابرة، أثارتها بعض الكتابات التي حققت شهرة هائلة لا تتناسب كثيرا مع قيمتها الأدبية الفعلية، وأقصد هنا كتابات باولو كويلو، وبدرجة ما أيضا كتاب "قواعد العشق الأربعون" للتركية أليف شافاق، وهو في الرواية خصوصا يقصد أيضا إلى تقديم "وجه" آخر للإسلام في هذا الوقت بالذات. ولا أتوقع لهذه الظاهرة أن تستمر طويلا، وهي تختلف جوهريا عن الاهتمام الشعري بالصوفية، لأن روح الشعر في جوهرها قريبة من الروح الصوفية على نحو ما، ناهيك عن الشعرية العالية التي لفتت الشعراء المعاصرين في كتابات المتصوفة. ومع ذلك فقد كان الشعراء العرب المحدثون الذين استوعبوا التجربة الصوفية وتمرسوا بمفرداتها ومصطلحها محدودين جدا في عددهم منذ صلاح عبد الصبور وأدونيس، وقبل ذلك بطبيعة الحال بعض شعراء المهجر الشمالي وخاصة نسيب عريضة.

*ـ إذا انتقلنا إلى الترجمة، وهو الميدان الآخر الذي برعت فيه. إلى أي مدى يكون المترجم أمينًا على النص الذي يترجمه، وهل من الضروري على من يترجم الشعر أن يكون شاعرًا...؟
**. فيما يتعلق بالترجمة فإنني أمارس الترجمة عن الألمانية، وقد نقلت منها بعض الأعمال الفكرية والفلسفية والأدبية إلى العربية، ومؤخرا صدرت ترجمتي لرواية ريلكه الوحيدة " مذكرات مالته لوريدز بريغه". سؤال الترجمة ليس سؤال الدقة والأمانة، فهذا أمر مفروغ منه، المهم في الترجمة عموما هو قدرة المترجم على نقل قوة تأثير النص الأصلي في لغته المستهدفة، وهذا يتطلب حسا عاليا باللغتين، وثقافة واسعة، ومعجما لغويا ثريا، وتفانيا تاما في العمل. إن الترجمة هي، بصورة ما، إعادة تأليف في لغة أخرى.