في الجزء الأول من هذا الموضوع، تتبعنا بداية الصراع بين أفراد البيت اليعربي، وهو الصراع الذي سيؤدي إلى الحرب الأهلية في عمان، وإلى سقوط دولة اليعاربة في النهاية، وهو السقوط الذي مثلما ذكرت لا يتناسب أبدا مع حجم المكانة الكبيرة التي وصلتها هذه الدولة والتي تخطت في شهرتها ومجدها حدود التاريخ العماني، نظرا للخدمات الجليلة التي قدمتها للعرب وللإسلام عندما نجحت في طرد البرتغاليين من مدن الساحل العماني ومن سواحل الخليج والمحيط الهندي وشرق أفريقيا. وتوقفنا عند الصراع الذي حدث بين محمد بن ناصر الغافري زعيم الغافرية وخلف بن مبارك الهنائي زعيم الهناوية.
أسفر الصراع في النهاية بين الطرفين إلى نجاح محمد بن ناصر الغافري في فرض سيطرته على المناطق الداخلية من عمان، في الوقت الذي انحصر فيه نفوذ خصمه خلف بن مبارك في المناطق الساحلية، وبالتالي فإن هذه النجاحات التي حققها محمد بن ناصر ساهمت في تحقيق وصوله إلى منصب الإمامة، وعمل على ترجمة ذلك، وقام بتوجيه الدعوة إلى المناصرين له من القبائل والأفراد وعلماء الدين إلى نزوى، ويذكر بادجر في (مقدمة كتاب تاريخ وأئمة وسادة عمان) بأن "محمد بن ناصر عند عودته إلى نزوى جمع العلماء ووضع أمامهم رغبته في التخلي عن الوصاية على سيف بن سلطان، وعن كافة المسؤوليات التي تترتب عليها، وأقسم بأنه غير راغب في الاستمرار في التنافس".
وفي ظاهر الأمر يبدو أن محمد بن ناصر واجه ضغوط من قبل المجتمعين للقبول بمنصب الإمام خوفا من انتقام خلف بن مبارك، وبعد يومين من التشاور، وبعد أن ضمن الولاء له، قبل بذلك، فأعلن إمام دفاع في الرابع والعشرين من سبتمبر عام 1724م، إلى ان تنتهي الحرب بينهم وبين خلف بن ناصر ومن معه.
وتوجه محمد بن ناصر من نزوى إلى جبرين ليتخذها مقرا له، وقد أثار هذا الأمر حفيظة الهناوية واليعاربة الذين رفضوا ماحدث، لتستمر الصراعات بين الطرفين، ويستأنف الزعيمان القتال، الذي انقسمت عمان على أثره إلى حزبين وحصلت بينهما معارك كثيرة في الغبي وبركة الموز وسمائل ووادي المعاول وينقل، وبعد أربع سنوات من القتال، أخذ محمد بن ناصر في جمع الحشود واستنفار قواته من أجل التوجه إلى صحار التي كان يسيطر عليها خلف بن مبارك وحلفاؤه، بهدف انزال ضربة قاضية عليهم، ومن أجل تحقيق ذلك نجح في تكوين قوة ضمت أكثر من 15 ألف رجل وتوجه إلى صحار لتحدث المعركة الأخيرة والفاصلة في تاريخ الزعيمين، وهي المعركة التي انتهت بمصرعهما في مارس عام 1728م.
ومن الأمور المثيرة في المواجهة الأخيرة بين الرجلين بأن محمد بن ناصر أثناء مهاجمته لحصن صحار أصيب برصاصة من داخل الحصن فمات على أثرها، بينما قتل خلف بن مبارك داخل الحصن، وظل الأمر ثلاثة أيام دون أن يعلم كل طرف بأن زعيم الطرف المناوئ له قد قتل، حتى انكشف ذلك لكل طرف في النهاية، يقول ابن رزيق في (الفتح المبين):
"فلما التقى الجمعان وقع بينهما قتال شديد، فقتل خلف دون الحصن، وانكسر أصحابه، فكر محمد بمن معه من القوم الواقفين أمام باب الحصن، فضرب من الحصن برصاصة تفق في صدره، فحمله أصحابه إلى بيت محمود العجمي، فمات في حال وصولهم به لبيت محمود، فلحفوه وأخفوا الخبر عن سائر القوم. فلما جن الليل دفنوه وعفوا قبره، فأقام قومه بعد دفنه ثلاثة أيام ولم يعلم بموته من قومه غير الخاصة، ولم يعلم أصحاب الحصن أن محمد قد قتل، ولم يعلم أصحاب محمد بقتل خلف".
وبموت محمد بن ناصر وخلف بن مبارك طويت صفحة مثيرة في تاريخ عمان بصفة عامة وتاريخ دولة اليعاربة بصفة خاصة، وليضع مقتلهما حدا للحروب الأهلية التي عصفت بعمان وبأهلها وأسفرت عن انقسام شديد جر البلاد إلى الكثير من مظاهر الفوضى والدمار والخراب في المال وفي العباد.
وكان المستفيد الأكبر من مقتل الزعيمين هو سيف بن سلطان الذي اتيحت له الفرصة للإمساك بزمام الأمور والوصول إلى سدة الحكم، فاستلم حصن صحار وعين عليه قوة من الموالين له، وخرج إلى الرستاق ومن ثم توجه إلى نزوى بصحبة بني غافر، ليعلن إماما على عمان في الثالث عشر من سبتمبر عام 1728م بعد أن وصل إلى السن التي تسمح له بتولي الإمامة، وقد تمت بيعته على يد القاضي ناصر بن سليمان بن محمد المدادي.
ترتب على مبايعة سيف بن سلطان إماما إلى عودة الهدوء والاستقرار إلى عمان بعد فترة من الاضطرابات والانقسامات والحروب الأهلية، واستأنفت البحرية العمانية نشاطها وجهادها ضد البرتغاليين خاصة في منطقة شرق أفريقيا، وهو الأمر الذي تمثل في قيام الإمام سيف بإرسال حملة بحرية بهدف استعادة ممباسا وبيمبا بقيادة محمد بن سعيد العمري عام 1630م فنجحت في تحقيق ذلك، وفي انهاء السيطرة البرتغالية عليها بعد عامين استغلوا فيها تدهور الأوضاع في عمان لتحقيق ذلك.
ولكن للأسف فإن حالة الاستقرار والهدوء التي شهدتها عمان لن تستمر طويلا، وستعود الاضطرابات والانقسامات من جديد، وكأنه قدر لعمان أن تعيش هذا الوضع المزري بسبب كثير من الخلافات التي نرى بأنها لم تكن تستحق أن تدخل عمان معها هذا النفق المظلم، وبأن يكون تاريخها في هذه الفترة الحرجة ما بين الاستقرار فترة وما بين الحروب فترة أخرى، والتي كان يمكن تجاوزها بقليل من الحكمة والتضحية والتي ذلك للأسف لم يكن ليحدث.
فقد شهد عام 1732م خلع سيف بن سلطان من الإمامة، ويرد الدكتور سعيد الهاشمي في كتابه (دراسات في التاريخ العماني) بأن من أسباب هذا الخلع أن سيف بن سلطان طلب زيادة في مخصصاته المالية فرفض العلماء ذلك، مما أدى إلى وجود فجوة بينه وبين العلماء، وهي الفجوة التي بدو بأنها ستزداد لتصل إلى حد خلع الإمام سيف، ومبايعة ابن عمه بلعرب بن حمير اليعربي إماما في السابع من ديسمبر عام 1733م بنزوى، لتنزلق عمان مرة أخرى إلى مستنقع الفوضى وهو المستنقع التي عانت مه الكثير.
وكان من الطبيعي ان يرفض سيف بن سلطان ما حدث، لذلك عمد كل طرف (سيف وبلعرب) إلى تقوية موقفه وحشد المؤيدين لهم وعقد التحالفات مع الزعماء والقبائل، فتحالف سيف مع بني هناءة وتحالف بلعرب مع بني غافر، ففرض سيف سيطرته على مدن هامة في الساحل العماني مثل مسقط وبركاء صحار، وكذلك على مدن هامة في الداخل مثل الرستاق ونخل، ونجح بلعرب ايضا في فرض سيطرته على نزوى وبهلا وإزكي وسمائل ونخل ومدن اخرى أيضا في الشرقية، وبذلك عادت الانقسامات من جديد وتجزأت عمان مرة أخرى ما بين الهناوية والغافرية.
وأمام هذه الظروف حدث ما لم يحمد عقباه، فبعد أن فشل سيف بن سلطان في تحقيق النجاحات العسكرية ضد بلعرب بن حمير ومن معه، وإنهاء الموقف لصالحه، استنجد بالفرس وبعث في طلب قوات من إقليم مكران، وهو ما تحقق له وتم مده بالكثير من الرجال المدربين بشكل جيد على القتال، ورغم ذلك ورغم هذه الإمدادات فإن سيف لم يتمكن من تحقيق الانتصار على خصمه بلعرب عندما التقى الطرفان في لجوف وحدثت معركة شديدة بينهما انتهت بانتصار بلعرب وبمقتل جزء كبير من جيش سيف بن سلطان، وهو الأمر الذي دفع بسيف إلى البحث عن رجل يتحالف معه ويكون باستطاعته مساعدته في حسم الموقف لصالحه، فنصحه أتباعه بالشيخ أحمد بن سعيد البوسعيدي، لما عرف عنه من صفات الشجاعة والكرم، فعينه واليا على صحار في أوائل عام 1737م.
وفور تعيينه عمل أحمد بن سعيد على ترجمة الامكانيات الإدارية والتجارية التي كان يمتلكها على أرض الواقع، ونجح في تطبيق أساليب ادارية حظيت باحترام رعاياه وزادت من محبة الناس له، وهو الأمر الذي لم يعجب سيف بن سلطان الذي ساورته الظنون بان أحمد بن سعيد يهدف من وراء ذلك إلى الاطاحة به، فصمم على التخلص منه، وطلب منه الحضور إلى مسقط، فوافق أحمد بن سعيد على ذلك، وتوجه إلى ملاقاة سيف في مسقط ولكنه عندما علم بنوايا سيف في القبض عليه عاد إلى صحار، ورفض اللقاء بسيف، وهو الأمر الذي أغضب سيف بن سلطان وأعلن تصميمه على اضعاف أحمد بن سعيد والقيام بمناورة بحرية لتحقيق ذلك، إلا أن أحمد بن سعيد ورغبة منه في عدم تصعيد الموقف بينه وبين سيف فقد قبل بأن يكون مواليا له مرة أخرى. ووضع ابنه هلال كرهينة لدى سيف لتأكيد حسن نواياه في هذا الموضوع.

يتبع،،،

للمزيد حول هذا الموضوع، يمكن الاطلاع على الكتب والدراسات التالية:
1- الفتح المبين في سيرة السادة آلبوسعيديين، لابن رزيق.
2- تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان لنور الدين السالمي.
3- مقدمة كتاب تاريخ وأئمة وسادة عمان، لجورج بيرسي بادجر.
4- دراسات في التاريخ العماني، لسعيد بن محمد الهاشمي.
5- عمان وسياسة نادر شاه التوسعية، لعدنان الزبيدي.

د. محمد بن حمد الشعيلي
باحث في التاريخ العماني
[email protected]