هناك أمور ينبغي لقاصد بيت الله أن يقف عندها ليُحقّق مبتغاه من العرفان وينال مأموله من الغفران

الحَمْدُ للهِ الَّذِي فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الحَجَّ مَرَّةً فِي أَعْمَارِهِمْ، وَهُوَ الغَنِيُّ عَنْ سَعْيِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، يُجْـزِلُ لِلطَّائِعِينَ مِنْ عِبَادِهِ الأُجُورَ، وَيَعْـلَمُ مِنْهُمْ خَائِنَةَ الأَعْـيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جَعَلَهُ اللهُ لِلعَالَمِينَ رَحْمَةً وَمِنَّةً، فَبَيَّنَ مَعَالِمَ الدِّينِ بِالقُرآنِ وَالسُّنَّةِ، القَائِلُ:(الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ)، (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي ـ عِبَادَ اللهِ ـ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهَا جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وأَصْـلُ كُلِّ فَضِيلَةٍ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر ـ 18) وَتَذَكَّرُوا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ أَذَانَ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ ـ استِجَابَةً لأَمْرِ رَبِّهِ:(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج ـ 27)، وَمُنْذُ ذَلِكَ الأَذَانُ مَا زَالَتْ رِكَابُ الحَجِيجِ سَائِرَةً، وَمَا زَالَ البَيْتُ العَتِيقُ يَسْـتَقْبِلُ زُوَّارَهُ، فَيَا للهِ مَا أَعْـظَمَ تِلْكَ الشَّعَائِرَ، وَمَا أَطْهَرَ تِلْكَ العَرَصَاتِ، وَمَا أَجَلَّ تِلْكَ القُلُوبَ الَّتِي سَارَتْ فِي رَكْبِ الرَّحْمَنِ، وَتَعَانَقَتْ فِي حِمَى الإِيمَانِ، وَتَعَاوَنَتْ عَلَى البِرِّ وَالإِحْسَانِ. إِنَّ الحَجَّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، فَرَضَهُ اللهُ عَلَى الأنامِ، )فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران ـ 97)، وَفَضْـلُ الحَجِّ – عِبَادَ اللهِ- فَضْـلٌ عَظِيمٌ، يَقُولُ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) فِيهِ:(مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، وَقَدْ بَيَّنَ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ الحُجَّاجَ يَسْتَحِقُّونَ ضِيافَةَ اللهِ وَكَرَمَهُ، حَيْثُ قَالَ:)الحُجَّاجُ وَالعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ استَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ(، فَمَا أَعْظَمَ هَذَا الفَضْـلَ، وَمَا أَشْرَفَ هَذَا العَمَلَ، فَهَنِيئًا لِمَنْ قَصَدَ تِلْكَ الأَمَاكِنَ المُقَدَّسَةَ زَائِرًا، وَهَنِيئًا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ لِيَكُونَ فِي وَفْدِ اللهِ حَاجًّا وَمُعْـتَمِرًا.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ هُنَاكَ أُمُورًا يَنْبَغِي لِقَاصِدِ بَيْتِ اللهِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَهَا، لِيُحَقِّقَ مُبْـتَغَاهُ مِنَ العِرْفانِ، وَيَنَالَ مَأْمُولَهُ مِنَ الغُفْرَانِ، وَيَكُونَ مِمَّنْ حَجَّ فَبَرَّ، لا مِمَّنْ زَارَ وَخَسِرَ، فَقَدْ كَثُرَ الزُّوَّارُ وَقَلَّ الحُجَّاجُ الأَبْرَارُ، وَالمُؤْمِنُ العَاقِلُ يَخْشَى عَلَى عَمَلِهِ مِنَ البَوَارِ، وَعَلَى سَعْيِهِ مِنَ الضَّيَاعِ. إِنَّ أَوَّلَ مَا يَنْبَغِي لِلمُسْـلِمِ إِدْرَاكُهُ وَهُوَ يُعِدُّ عُدَّتَهُ لِحَجِّهِ أَنَّ سَعْيَهُ لِرَبٍّ عَظِيمٍ، رَبٍّ مَنْظُورُهُ القُلُوبُ وَمَطْلُوبُهُ طَهَارَتُهَا، فَلْيَتُبْ العَبْدُ مِنْ كُلِّ زَلَّةٍ وَلْيَتْرُكْ كُلَّ خَلَّةٍ، لِيَرُدَّ الحُقُوقَ إِلى أَصْحَابِهَا وَالأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِهَا، فَالقَلِيلُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ يُورِثُ النَّارَ، وَلْيَنْدَمْ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللهِ وَعَلَى تَضْيِيعِ حَقِّ خَالِقِهِ وَانتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، فَيَمْحُو اللهُ بَعْدَهَا بِنَدَمِهِ ذَنْبَهُ وَبِتَوبَتِهِ حُوْبَهُ، وَيَغْسِلُ بِدَمْعِهِ قَلْبَهُ فَيَـقْبَلُ سَعْيَهُ، وَيَكْتُبُ لَهُ قَبُولَ حَجِّهِ، فَالمَولَى جَلَّ وَعَلا يُبَيِّنُ فِي مُحْـكَمِ التَّنْزِيلِ:(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة ـ 27) وَالحَاجُّ يَطْمَعُ أَنْ يَتَقَبَّـلَ اللهُ مِنْهُ كُلَّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَواتِهِ مُنْذُ أَنْ يَشْرَعَ فِي الاستِعْدَادِ لِلْحَجِّ، فَلْيَجْـعَلْ إِذَنْ لِلْقَبُولِ أَرْضًا، وَلْيُمِدَّ إِلَيْهِ سَبَبًا.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
إِنَّ عَلَى الحَاجِّ وَهُوَ يَسْـتَعِدُّ لِحَجِّهِ أَنْ يَنْتَبِهَ لأَمْرٍ هُوَ فِي غَايَةِ الأَهَمِّـيَّةِ، إِنَّهُ إِخْلاصُ القَصْدِ للهِ الَّذِي هُوَ رُوحُ العِبَادَاتِ جَمِيعِهَا، وَهَلْ يَطْلُبُ اللهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ إِلاَّ الإِخْلاصَ لَهُ فِي عِبَادَاتِهِمْ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة ـ 5)، وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ آمِرًا:(هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (غافر ـ 65) إِنَّ الحَاجَّ يَفِدُ عَلَى رَبٍّ عَلِيمٍ خَبِيرٍ، يَعْـلَمُ دَقَائِقَ النِّيَّاتِ وَخَفَايَا القُلُوبِ وَطَوَايَا النُّفوسِ، وَهُوَ لا يَقْبَلُ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، نَقِيًّا مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، فَفِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ:(أَنَا أَغْنَى الأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) .. إِنَّهُ خَاسِرٌ وَاللهِ لِجُهْدِهِ وَمَالِهِ، وَمَغْبُونٌ فِي تَعَبِهِ وَعَنَائِهِ، وَمُسْخِطٌ لِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ، ذَاكَ الَّذِي غَايَتُهُ مَحْمَدَةُ النَّاسِ وَرِضاهُمْ، وَهَدَفُهُ السُّمْعَةُ بَيْـنَهُمْ، أَوْ أَنَّ المَكْسَبَ المَادِيَّ وَحُطَامَ الدُّنيَا هُوَ قَصْدُ سَعْيِهِ وَمُحَرِّكُ سَفَرِهِ، وَمَا أَحْـقَرَهَا مِنْ نَفْسٍ عِنْدَمَا تَكُونُ مِثْلُ عِبَارَةِ (فَلانٌ حَجَّ)، أَوِ (الحَاجُّ فُلانٌ) وَأَشْبَاهُهَا هِيَ أَعْظَمَ مَا تَتَلَذَّذُ بِهِ وَأَسْمَى مَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ. فَلْيَجْعَلْ كُلٌّ مِنَّا ـ إِخْوَةَ الإِيمَانِ ـ نُصْبَ عَيْـنَيْهِ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ قَولَ المُصْطَفَى (صلى الله عليه وسلم):(إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ).
عِبَادَ اللهِ:
يَنْبَغِي لِلْحَاجِّ كَذَلِكَ أَنْ يَجْعَلَ ضِمْنَ زَادِهِ لِحَجِّهِ عِلْمَ مَا يَلْزَمُهُ عِلْمُهُ مِنْ فِقْهِ الحَجِّ وَمَسَائِلِهِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُعْبَدُ إِلاَّ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ) (فاطر 19 ـ 20)، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر ـ 9) وَالعَاقِلُ اللَّبِيبُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ يُشْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ عِبادَةَ رَبِّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، فَيَذْهَبَ ثَوَابُهَا وَيَبْـقَى عَنَاؤُهَا، وَكَمْ يَسْمَعُ الفَرْدُ عَنْ أُنَاسٍ لا يَعْـلَمُونَ مِنَ الحَجِّ إِلاَّ فِعْـلَ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، فَهُمْ يُحْرِمُونَ مَعَ النَّاسِ مَتَى مَا أَحْرَمُوا، وَيَطُوفُونَ مَعَ الطَّائِفِينَ، وَيَسْعَوْنَ مَعَ السَّاعِينَ، مِنْ غَيْرِ فِقْهِ مَا يَأْتُونَهُ، وَإِدْرَاكِ مَا يَفْعَلُونَهُ، لا يَعْـلَمُونَ مِنَ الحَجِّ فَرَائَضَهُ وَسُنَنَهُ، وَلا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ المَطْلُوبِ وَالمَمْـنُوعِ، فَيَأْتِي الفَرْدُ مِنْهُمُ المُحَرَّمَ وَيَرْكَبُ المَحْجُورَ، وَيَقَعُ فِي المُخَالَفَاتِ بِلا عِلْمٍ وَلا دِرَايَةٍ، فَيَعُودُ المِسْـكِينُ إِلَى أَهْـلِهِ بِجَسَدٍ مَنْهُوكٍ وَمَالٍ ضَائِعٍ وَعِبَادَةٍ مَرْدُودَةٍ، لا تَقْوَى حَازَ وَلا بِقُرْبَى فَازَ، فِي حِينٍ عَادَ أَقْوَامٌ بِحَجٍّ مَبْرُورٍ وَذَنْبٍ مَغْفُورٍ وَسَعْيٍ مَشْكُورٍ.
فاتَّقِ اللهَ ـ أَخِي الحَاجَّ ـ واجْعَلْ فِي زَادِكَ عِلْمًا لا غِنَى لَكَ عَنْهُ، وَاصْحَبْ مَنْ يُعِينُكَ عَلَى أَدَاءِ مَنَاسِكِكَ، وَاسأَلِ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ لا عِلْمَ لَكَ فِيهَا.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، أَنْزَلَ لِلبَشَرِ مِنْهَاجًا قَوِيمًا، وَهَدَاهُمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْـتَقِيمًا، وَنَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، جَعَلَ فِي العِبَادَاتِ مَعَانيَ بَلِيغَةً، وَحِكَمًا رَفِيعَةً، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنِ اتَّقَى وَخَافَ، وَحَجَّ وَطَافَ، (صلى الله عليه وسلم) وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاعلَمُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الرِّحْـلَةَ إِلى الْحَجِّ فِي حَقِيقَتِهَا شَبِيهَةً بِرِحْـلَةِ الإِنْسَانِ الَّتِي يَنْتَقِلُ فِيهَا مِنْ دُنْيَاهُ إِلَى أُخْرَاهُ، فَيُغَادِرُ الحَاجُّ دَارَهُ وَأَهْـلَهُ، وَيَتْرُكُ خَلْفَهُ أَرْضَهُ ومَالَهُ، مُتَجَرِّدًا مِنْ كُلِّ عَلائِقِ الدُّنيَا وَرَغَبَاتِهَا، ثُمَّ يُحْرِمُ مُرْتَدِيًا ثِيَابًا لا أَثَرَ لِزِينَةِ الدُّنيَا فِيهَا، وَافِدًا بَعْدَهَا إِلَى خَالِقِهِ، لا يَفْتُرُ لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَتَعْظِيمِهِ وَتَلْبِيَتِهِ، ثُمَّ يَقِفُ مَعَ الجُمُوعِ البَشَرِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، مُخْـتَلِفَةً أَلْوَانُهُمْ وَأَشْكَالُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، يَلْبَسُونَ زِيًّا وَاحِدًا وَيَقِفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا، نُفُوسُهُمْ طَامِعَةٌ فِي رِضَا اللهِ، وَقُلُوبُهُمْ رَاجِيَةٌ عَظِيمَ ثَوَابِهِ، خَائِفَةٌ أَلِيمَ عِقَابِهِ، فِي مَوْقِفٍ هُوَ شَبِيهٌ بِمَوْقِفِ المَحْـشَرِ المَهِيبِ، فَحَرِيٌّ بِنا ـ إِخْوَةَ الإيمانِ ـ أَنْ نَسْـتَشْعِرَ مِنْ هَذا المَشْهَدِ تِلْكَ الرِّحْـلَةَ الخَاتِمَةَ، شُعُورًا يُبْعِدُنا عَنِ الفُسُوقِ وَالجِدَالِ، وَعَنْ كُلِّ تَافِهٍ حَقِيرٍ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة ـ 197)، فَبِهَذا تتعَطَّرُ النَّفْسُ بِشَذَا الإِيمَانِ، وَتَزْدَادُ قُرْبًا مِنَ الرَّحْمَنِ، فَتُحَقِّقُ البِرَّ وَالإِحْسانَ، (وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ).
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا الأَحِبَّةُ ـ وَكُونُوا إِلَى الخَيْرِ مُسَارِعِينَ، وًفِي رِضَا اللهِ رَاغِبِينَ (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران ـ 133).
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ المُرْسَلِينَ، وَقَائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا:(إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب ـ 56) اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ بِكَ نَستَجِيرُ، وَبِرَحْمَتِكَ نَستَغِيثُ أَلاَّ تَكِلَنَا إِلَى أَنفُسِنَا طَرفَةَ عِينٍ، وَلاَ أَدنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ، وَأَصلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ يَا مُصلِحَ شَأْنِ الصَّالِحِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، اللَّهُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِ نِعمَتَكَ، وَأَيِّدْهُ بِنُورِ حِكْمَتِكَ، وَسَدِّدْهُ بِتَوفِيقِكَ، وَاحفَظْهُ بِعَينِ رِعَايَتِكَ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ:(إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل ـ 90).