الحمد لله الـذي أنـزل عـلى عـبـده الكـتاب ولـم يجـعـل له عـوجـا ، والصلاة والسلام عـلى المبعـوث رحـمة للـعـالمين ، وسـراجـا للمهـتـدين وبـشيـرا للمـؤمـنـين ونـذيـرا للـكافـرين وعـلى آله وأصاحـبه الطـيبين الطـاهـرين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحسان إلى يـوم الـدين وبعـد :
فـبعـد أن أغـراهـم الـشـيطان وسـول لهـم وأمـلى لهـم ، واتبعـوه مـع عـلمهـم بأن الشـيطان عـدو لإنسـان، والله أخـبرهـم بـذلك في قـوله: {إن الشـيطان لـكـم عــدو فاتخـذوه عـدوا إنـما يـدعـو حـزبـه لـيـكـونـوا مـن أصـحاب الـسعـير } )فاطـر ـ 6(.
فإذا قال البشـر للـشـيطان يـوم القـيامة: أنـت سـبب ضـلالنا وغـوايتـنا رد الشـيطان عـليهـم بـقـوله:{وقال الشـيطان لما قـضي الأمـر إن الله وعـدكـم وعـد الحـق ووعـدتـكم فأخـلـفـتـكـم، وما كان لي عـليـكـم مـن سـلطان إلا أن دعـوتـكـم فاسـتجـبتم لي، فـلا تـلـومـوني ولـومـوا أنفـسكـم مـا أنـا بمصـرخـكـم وما أنـتم بمصـرخي، إنـي كـفـرت بما أشـركـتـمـون مـن قـبـل ، إن الـظـالمـين لهـم عـذاب ألـيـم} (إبـراهـيم ـ 22).
يـعـني: لا تـلـومـوني ولا تظـلـمـوني وتحـملـوني أوزاركـم، فـقـد كـنـتم : عـلى استعـداد لمـا دعـوتـكـم إلى اتبـاعي فـقـبلـتم ذلك عـن طـواعـية وليس لي عـليكـم مـن سـلطان ، لا سـلطان قـوة أقهـركـم بها وأجـبركـم عـلى طـاعـتي ، ولا سـلطان حجـة أقـنعـكـم به ، والفـرق بـين سـلطان القهـر، وسـلطان الحجـة أنـك تـفـعـل مـع الأول وأنـت غـير راض فأنـت مـكـره ، أما مـع سـلطان الحجـة والمنـطـق فـإنـك تـفـعـل ما يطـلب مـنـك عـن رضا واقــتنـاع.
وربـنا عـز وجـل حـذرنا مـن إبليس ووسـوسـته ونـزغـه، وعـلمـنا أننا لـن نقـهـره إلا باللجـوء إلى الله ، خـصـوصا بهـذه الـوصـفـة التي قال الله فـيها : { وإمـا ينـزغــنك مـن الشـيطـان نـزغ فاسـتعـذ بالله إنه هـو السـميـع العـلـيم } (فـصلت ـ 36).
مـجـرد أن تـذكـره بالله يخـنس ويهـرب ويـتـراجـع ، فهـو يـقـدر عـليك وحـدك، فإن لجـأت إلى الله خـاف وفـر خـاسـئا وهـو حـسير، لأنه لا قـدرة له ، ولا كـيـد مـع ذكـر الله ، لـذلك قال بعـض العـارفـين : قـل هـذه الكـلمة بقـوة وكـأنـك تـراه وتصـرفـه عـنـك .
فـما ذا تفـعـل إن جـاء لأحـدنا وهـو تقـرأ القـرآن الكـريـم ؟ قالوا ، يقـطـع قـراءته ويـقـول بصوت أعـلى وبأسـلـوب مـغـايـر لـقـراءته: (أعـوذ بالله مـن الشـيطان الـرجـيـم)، وقـد أنى لنا نقـرب هـذا المعـنى لأذهـان الناشـئة فـقـلـنا : لـو أن أحـد الأغـنياء مـثـلا يجـلس في الشـرفة لـيـلا فـرأى سـارقـا يحـاول دخـول بـيتـه ، فـقـام مـن مـكان وتـكلـم بـكـلام يـدل عـلى رأيتـه للـسارق، فـما ذا يـصـنع السارق حـيـنما يـسمـع كـلام الغـني ، لابـد أن يهـرب ، فإن قال في نفـسه لـعـلها مـصادفـة ، ثـم عـاد في الليـلة الثانية فـتـنـبه له صـاحـب البـيت وتـكـلم بـكـلام يـدل عـلى يـقـظـة صـاحـب البـيت وعـلمه بـوجـود السـارق ، فـلا بـد حـينـئــذ سـيهـرب السارق ولـن يـعـود بـعـدها أبـدا ، فـصاحـب البـيت مـتـنـبه يـقـظ غـير غـافـل.
كـذلك، قـول: (أعـوذ بالله مـن الشـيطـان الرجـيـم) ، يـفـزع الشـيطان ويطـرده ، فـإن عـاد إلـيـك مـرة ومـرة فـقـل كلما شـعـرت بـوسـوسـته ونـزغـا ته : ( أعـوذ بالله مـن الشـيطان الـرجـيـم ) ، حـينها سـيعـلم أنـك لست غـافـلا ، وأنـك عـلى صـلة بالله الـواحـد الأحـد، وأنه لا مـدخـل له إلـيـك.
وقـد عـرف الشـيطان حـين جـادل ربه مـن أين يـدخـل عـلى ابن آدم ، فـقال:{لأقـعـدن لهـم صـراطـك المستقـيم ، ثـم لآتـينهـم مـن بـين أيـديهـم ومـن خلـفهـم وعـن أيمانهـم وعـن شـمائـلهـم ولا تجـد أكـثرهـم شـاكـرين} (الأعـراف 16 ـ 17)، فهـو كما ذكـرنا لا يـقـعـد في خـمارة ولا في سـينما ولا في مـلهـى ، وإنما يـقـعـد في المسـجـد ، ويـتعـرض للإنسان عـلى الصـراط المسـتقـيم ، ويحـاول أن يجـرب عـنـده الجـهـات الأربـع الأمام والخـلف واليمـنى والـيسـرى ، فهـو يعـلم أنـك قـاصـد للـعـبادة أو أنـت مـوجـود في بـيـت مـن بـيـوت الله كالمـرابـط في سـبـيـل الله ، وكل ما يـرجـوه الشـيطان أن يـصرف الـعـبـد عـن عـبـادة الله ، بأي طـريقـة يحـتال عـليه، ألا تـراه يـذكـرك في الصـلاة مـا نسـيت مـن مهـمات الحـياة ، وعـلى المـؤمـن أن يـعـظـم مـوقـفه بـين يـدي الله ، وألا ينـشـغــل بأي شيء وهـو في حـضرة الله عـز وجـل.
فالصلاة هـي الصـراط المسـتقـيم الـذي سـيـقـعـد لك الشـيطان عـليه لذلك عـلمـنا عـلماؤنا رحـمهـم الله ورضي عـنـهـم أن نـغـيظ الشـيطان، فإذا وسوس لك في الصـلاة بحـيث لا تـدري أصـليت ركـعـتين أم ثـلاثا ، فاعـتبرهـا ركـعـتـين وابن عـلى الأقـل ، كـذلك في الـوضـوء وأمثـاله مـن العـبـادات ، لتغـيظـه وتيـئسـه مـنـك.
وظاهـرة السهـو في الصلاة في الحـقـيـقة ظـاهـرة صحـية في الإيـمان ، فـلا تمـرض نفـسك بها، وكـن قــوي الإيـمان وتشـجـع عـلى هـذا العـدو ، وقـل له : لـن أعـطـيـك الفـرصة لتفـسد عـلى لـقائي مـع ربي ، قـل هـذا واتخـذ خـطـة الإيـمان لـك خـطـة تخـطـو بها ضـد العـدو الـشـيطان ، فـإنـك بتصـرفـك هـذا تـفـوت له الفـرصـة وتحـرقـه ، وإن عـادة مـرة أخـرى فأعـد الكـرة عـليه ، وأعـلم أن كـيـد الشـيطان كان ضـعـيـفا، قال تعالى:{الـذين آمنـوا يـقاتـلـون في سـبـيـل الله، والـذين كـفـروا يـقـاتـلون في سـبيـل الطـاغـوت، فـقاتـلـون أوليـاء الشـيطـان إن كـيـد الشـيطـان كان ضـعـيـفا} (النسـاء ـ 76)، فـلا قـدرة له عـلـيـك مـا دمـت في معـية الله ، ومـا دمـت ذاكـرا الله في سـرك وإعـلانـك وفي كل أعـمالك ، وهـذا يـدل عـلى إيـمانـك الـراسـخ ويـقـظـتـك المستمـرة.
ويحـكى عـن الإمـام أبي حـنيـفة لمـا جـاءه رجـل يـستـفـتـيه ، ويـقـول : يا إمـام ، لـقـد كـنـت أخـفـيت مـالا في مـكان مـا في الصحـراء ، وعـلمته بحجـر، فـجـاء السـيـل فـطـمسه حـتى ضـللـت مـكانه ، فـضـحـك الإمـام أبـو حـنيـفـة وقال للـرجـل بما لـديه مـن خـبرة وتمرس وملـكـة في الفـتيا : يا بني لـيس في هـذا عـلـم ، ولـكـني سـأحـتال لـك، اذهـب بـعـد أن تصـلي العـشـاء ، فـتـوضـأ وضـوء ا جـديـدا بنـية أن يـهـديـك الله إلى ضـالـتـك وصـلي لله ركـعـتين ثـم اخـبرني مـاذا حـدث.
فـفـعـل الـرجـل مـا أوصـاه به الإمـام ، فجـاءه إبلـيس لعـنـه الله ليـفـسـد عـليه صـلاته ، وقال لـه : إن المـأل الـذي دفـنـته فهـو في مـكان كـذا وكـذا ، فـراح الـرجـل إلى ذلك المـكان فحـفـر فـوجـد المـال ، فـعـاد الـرجـل في الصـباح الباكـر إلى الإمـام فاخـبره ، بأنـه وجـد المال ، فـقال الإمـام أبـو حـنيـفة لـقـد عـلمـت أن الشـيطان لا يـدعـوك تـتم لـيـتـك في عـبـادة الله فهـل صـلـيـت شـكـرا لله بـعـد أن وجـدت مالك ؟، قال الـرجـل سـأفـعــل إن شاء الله في الليلة القادمة.

إذن: فـثـق بـمـنـزلة كـلمة: (أعـوذ بالله مـن الشـيطان الـرجـيـم) وقـيـمـتها عـنـد الله وقـلها بـقـوة وثـقـة وإيـمان، أيـقـول الله قـولا يأتي واقـع الحـياة مـن المـؤمـن به لـيـكـذبها ، فجـربها أنـت بنـفـسك في واقـع حـياتـك الـيـومـية ، سـتجـد بـرهـان ذلك واضـحـا.
وقـوله تعالى: { إلا لنعـلم مـن يـؤمـن بالآخـرة مـمـن هـو في شـك مـنها وربـك عـلى كل شـيء حـفـيـظ } (سـبأ ـ 21)، مـا دام أنه لـيس لإبـليس سـلطان عـلى بني آدم ومـا دام أنهـم عـلى صـلة وثـيقة بالله ، فـلا بـد أن يكـون إيـمانهـم قـويا راسـخـا ، وإذا كانـوا عـلى خضـوع لـوسـوسـة الشـيطان ، وإيـمانهـم غـير راسـخ ، وأنهـم نسـوا حـكما مـن أحـكام الله ، فـلا بـد أن تكـون النتيجـة سـلبية ، لأن الله تعالى حـذرهـم مـنه ووصـف لهـم طـريقـة التغـلـب عـليه فـلم يـفـعـلـوا.
فـكانت غـواية إبليس لهـم: { إلا لنعـلم مـن يـؤمـن بالآخـرة مـمـن هـو منهـا في شـك} أي عـلم وقـوع، وإلا فالله يعـلـم مـا سـيكـون منهـم أزلا ، فهـو لا تخـفى عـليه خـافـية، لـكـن لا بـد أن يحـدث منهـم الفـعــل لـتـقـوم الحجـة عـليهـم.
والمعـلم الـذي يـرى عـلى تـلمـيـذه عـلامـات الفـشـل، فـيحـذره، فحـين يـدخـل الامـتحان ويـرسـب فـيه يأتي يـعـاتب أسـتـاذه الـذي بشـره بالـرسـوب، فـيقـول المعـلـم، وهـل أمـسـكـت بيـدك ومنـعـتـك مـن الاجـابة ، لـقـد حـكـمـت عـليـك مـن خـلال المقـدمات التي رأيتهـا مـنـك.
ومـع ذلك كان مـن المـمـكـن أن يـغـش هـذا التلمـيـذ في الامتحـان وينجـح رغـم ما قـاله المعـلـم ، لأن عـلمه عـلـم ناقـص، أما عـلم الله سـبحانه وتعالى فـعـلـم عـام وتـام إذن : فـعـلم الـوقـوع ألـزم للحجـة.
ثـم يـقـول الله تعالى: { وربـك عـلى كـل شـيء حـفـيظ} (سبأ ـ 21)، حـفـيـظ صيغة مـبالـغـة مـن الحـفـظ، فالله تعالى حـفـيـظ عـلى الكـنـوز وعـلى الأرزاق ، وعـلى العـلـم وعـلى الأعـمـال وعـلى كل شـيء كـما قال الله تعالى: {وإن مـن شيء إلا عـنـدنا خـزائنـه وما ننـزله إلا بـقـدر مـعــلـوم} (الحجـر ـ 21)، وما دام الله تعالى هـو الحـفـيـظ ، فـلا أحـد يسـتطـيع أن يخـل بهـذه القـضية.
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله في الاسبوع القادم.

ناصر بن محمد الزيدي