أولاً: أُسس الاستثمار الثقافي الحقيقيقال أحد الخبراء الاقتصاديين في العام 1993 " إن النمو الاقتصادي ينبع من الوصفات الأفضل لا من مزيد من الطهي"(1).ويبدو أن الأمم المتحدة، بصفتها الدولية، قد التقطت الفكرة، وتنبهت إلى أن الوصفة الأفضل في العقد الأخير من القرن العشرين وقبل الولوج للألفية الثالثة، هي تعزيز مساهمة الثقافة في التنمية المستدامة [أي التنمية للجيل الحاضر وأجيال المستقبل]. فغدا ذلك هدفا أُمميا، تم إطلاقه في إطار العقد العالمي للتنمية الثقافية للأعوام (1988-1998).وعند البحث عن الأسس الاقتصادية للاستثمار الثقافي الحقيقي ليس من الضروري أن تكون بيل جيتس ليكون عندك رأسمال ثقافي، فكلنا عندنا مهارات مختلفة، في الفن، أو الأدب، أو الآثار، أو الموسيقي، أو المسرح، أو التصميم، أو الأزياء، أو تجارب حياتية، فهذه وغيرها تشكل أسس اقتصادية للاستثمار في الثقافة، خاملة لا نفعلها بحسب ما هو المفترض فينا. وفي ذات الوقت تحتاج للتدريب والصقل قبل البدء بأي مشروع للاستثمار الثقافي فيها.وفي إشارة سريعة ربما لا نلاحظها ونحن نبحث عن الأسس الاقتصادية للاستثمار الثقافي؛ لننظر اليوم إلى مؤسسات الإعلام المتعددة الجنسيات، فسنرى تملكها واحتكارها لشركات النشر الورقي والإليكتروني، وتسجيل الموسيقي، وإنتاج الأفلام، وتطوير البرمجيات، وبنوك الصور، وغيرها من سبل المعرفة والتقنية الحديثة. أي أنها سعت لامتلاك الإبداع ومواهب المبدعين، بل وكادت أن تضع يدها أيضاً على التراث الشعبي لشعوب العالم الثالث لأنه أضحي موضع استثمار كبير كذلك. إذن فهذا المؤسسات الاقتصادية العملاقة أضحت تعلم بأن الأسس الاقتصادية للاستثمار الثقافي تتركز في الرأس مال الثقافي .فاستثمار ثقافة الإنسان هي أصل بروز وهيمنة رأس المال، بملاحظة أن رأس المال الإنساني هو الثروة القومية الحقيقية، لأنه يتضمن رأس مال فكري أي مورد متجدد ذاتياً، أي قابل للتعبئة دائماً.وإذا أردنا الاستفادة المثلي من رأس المال الإنساني فيجب، وليس تمنيا، أن نعطيه الثقة التامة، واستثماره بشكل صحيح مما يتطلب العديد من التغييرات في المجتمع إداريا، وحريةً، وانفتاحاً حضاريا متجددا، بعيدا عن الرأي المتصلب أو المتقلب ضمن خط ومسار التحديث.الاستثمار الثقافي ليس كمثل الاستثمار في الصناعة، فهو لا يتطلب استيراد آلات وأجهزة ضخمة ومكلفة، ومصانع حديثة ذات تقنية عالية؛ بل الاهتمام في مراحله الأولي بالإنسان أساسا باعتباره صانع الحضارات من طين الأرض، ومن حيث كونه ثروة في حد ذاتها، ثروة طبيعية تُعطي بلا حدود أحيانا كثيرة، وبأقل الإمكانات، أدناها راتب شهر وأقصاها مكافأة إضافية لكل منجز حضاري مميز. وقد أثبتت بعض الدراسات أن العائد من الاستثمار في الإنسان والتعليم والمعرفة والمعلومات والتقنية؛ يفوق بكثير العائد من الأصول المالية والمادية الثابتة وعوامل الإنتاج التقليدية الأخرى (2).ولهذا، فصناعة المعلومات والثقافة تقوم على ثلاثة عناصر رئيسية هي: عنصر المحتوى، وعنصر معالجة المحتوى أي المعلومات، وعنصر توزيع المنتج المعلوماتي أو الثقافي (3).إذن نحن هنا في عملية استثمار مباشر من حيث توظيف الأموال في مشاريع ثقافية ذات مردود ربحي، ليس فقط من أجل تحقيق تراكم رأسمال جديد، ورفع القدرة الإنتاجية أو تجديد وتعويض الرأسمال القديم؛ بل بشرط أن نولي العنصر الرئيس في هذا الاستثمار ومعدنه، وهو الإنسان، أجلّ عناية وتقدير واحترام بنشر وتسويق عطائه من تراث مادي على الأرض، أو إبداع فكري منتج في كتاب، أو عمل فني (عبر كل وسائل الفنون والتقنية) احترافا وممارسة وتميزاً، ومن هنا تعتبر الموارد الإنسانية المتعلمة والمدربة من المقومات المهمة في الاستثمار الثقافي.أضف إلى ذلك، أن الأسس الاقتصادية للاستثمار الثقافي تتركز في رأس المال الإنساني بما يشمله من عناصر المعرفة، والكفاءات، والمواهب، والمهارات الإبداعية التي شكلت أساسا بارزاً في الاقتصاد المعاصر. كما يرى الخبراء العالميون أن تحول المعرفة إلى ركيزة محورية في الاقتصاد العالمي حين الاعتماد على طرق لعمليات مواكبة خلق وتنظيم المعرفة بتفاعلها مع عالم التقنيات المبهر حاليا ومستقبلاً وفق إستراتيجية عمل متطورة (4).ولا يجب أن نعتقد بداية بأن الاستثمار الثقافي سيكون أمرا سهلاً وميسوراً بمجرد عقدنا لهذا المؤتمر وطرح أوراقنا ورؤانا الفكرية النظرية وحتى العملية منها؛ فلعل الاستثمار في الجانب الثقافي تعترض طريقه عوامل كثيرة متداخلة ومتشابكة فيما بينها ترتبط أساسا بالأشخاص الذين لديهم النية في القيام بمثل هذه الاستثمارات، وكذا التوجه السياسي الذي أهمل السؤال الثقافي وأسقطه من أجندته وإستراتيجيته، لعقود مضت.أخيرا، في هذا المحور، إن من شروط الاستفادة الفاعلة من الموارد الإنسانية وتمكينها هو الحاجة إلى اصطلاحات تنظيمية لخلق مناخ للاستثمار الثقافي فيها. بالإضافة لوجود إطار قانوني يرسي الأسس التشريعية والقانونية المنظمة لهذا الاستثمار خاصة. كما لابد أن تتميز هذه القوانين بعدم التعقيد والتناقض خاصة فيما يخص الإجراءات أو التطبيقات العملية لتلك القوانين على ارض الواقع، وأن يتسم الإطار القانوني بالتطور والمرونة التامة، بهدف جذب الاستثمارات في هذا القطاع الجديد عليها. فضلا عن الشفافية ووضوح الرؤيا، من حيث الشعور بأن التنافس شريف وسلامة الإجراءات، وعدم اللجوء إلى التحايل والرشوة، واستغلال النفوذ. وان تتسم القرارات، على مختلف المستويات، بدقة الصياغة والوضوح ليسهل تنفيذها، وبذلك يمكن تأمين المشروع وتوفير فرص جذب استثماري حقيقي (5).بالإضافة للاتكاء على ركيزتين هما: التنبه لكل شئ جديد ومفيد، والاعتماد على الذات في دفع الاستثمار إلى الأمام. هكذا بدأ أجدادنا بغزو العالم القديم ثقافياً، وبهذا سنعود إذا كانت الرغبة صادقة، والنية متوافرة حقاً.ولكن يبقي السؤال مشروعا ومطروحاً، كيف يتم تحويل المواد الثقافية إلى مواد، لا نقول اقتصادية بمعني أن نقتصد فيها ونزهد كما يتبادر للذهن من الوهلة الأولى؛ بل كيف نحولها إلى منهج حياة واستثمار دائم لتنمية مستدامة؟ بل وكيف نستثمر المرافق الثقافية والتراث الأثري، وفي الأحداث الثقافية، وكيف يتم دعم إبداع المواهب والعقول المتفردة في العطاء المميز، كيف نستثمر الذكاء والفطنة والتفوق العلمي؟هذا ما سنحاول الحصول على بعض إجابته في المحاور التالية.ثانياً: الاستثمار بين إعداد الموارد الإنسانية أولاً، وسُبل التنمية الإنسانية ذات المردود الاقتصادي ثانياً.إعداد الموارد الإنسانية:يقول أحد الباحثين العرب، "برغم أن تبني عديد من خطط بناء المعرفة يتم على نطاق واسع جداً في المؤسسات العربية، فإن مسألة تمكين الموارد الإنسانية والاستفادة منها تتعرض للإهمال" (6).وهنا مربط الفرس، الموارد الإنسانية أو رأس المال الإنساني، وهي الركيزة الأولى والمحورية في الاستثمار الثقافي، كما هو في كل استثمار. وبما أن إدارة الموارد الإنسانية هي العملية المسؤولة عن تحقيق أهداف أي استثمار بدرجة عالية من الفعالية، عن طريق التخطيط الاسـتـراتيجي المحكم؛ فإن التدريب يُعتبر، بعد اختيار عينات من الموارد الإنسانية الملائمة والتي تحتاج إلى إعداد، من الحلقات الأساسية في بناء الموارد الإنسانية العاملة في مجال الاستثمار، مقروناً بهدف تنمية قدراتهم ومهاراتهم التخصصية، ومعارفهم الثقافية لتحسين أدائهم في مستوى الخدمات للوظائف المستقبلية في مجال هذا الاستثمار. ويأتي هذا العمل ضمن التخطيط الشامل للعملية الإدارية المسؤولة عن تحقيق أهداف الاستثمار بدرجة عالية من الفعالية (7).إن الإدارة المتخصصة في الموارد الإنسانية، لابد أن تُعنَى بوضع الإجراءات والتعليمات اللازمة لتطبيق نظام موظفي الجهة المنظمة للاستثمار. ومنها:- استقطاب الكفاءات، من خلال تأمين احتياجات المؤسسة من القوى الإنسانية المميزة ثقافياً.- تأمين استخدام نظم العمل ولوائحه وحوافزه بعدالة وشفافية.- تحديد معايير واضحة للأداء والمسار الوظيفي بناء على الأهداف والخطط الموضوعة لكل وظيفة.- تحديد الاحتياجات التدريبية للموظفين وتطوير مهاراتهم الوظيفية.- - ديمومة ثقافة مؤسسة الاستثمار وتعزيزها بالمحافظة على الصفوف البديلة بعمل خطط الإحلال والتعاقب.- توفير بيئة عمل تحقق أهداف الموظفين ومواءمتها مع أهداف مؤسسة الاستثمار.- زيادة فاعلية أداء الموظف في مؤسسة الاستثمار.كما لابد من التأكيد على وجود رؤية لإدارة الموارد الإنسانية تكون مميزة على المستوى المؤسسي والوطني بالاعتناء المستمر بالعنصر البشري والتأثير الإيجابي في سلوك الموظفين وتطوير العلاقات بين الموظفين ليخدم بيئة العمل ويحقق رضاهم الذي ينعكس على مستوى أدائهم. وذلك بأن تساهم الإدارة بشكل فاعل ومبادر في ضمان الشفافية والعدل بين الموظفين، وإيجاد تنافسية مستمرة لتحقيق أهداف المؤسسة، يساهم بها جميع الموظفين في ظل رضي وظيفي شامل. كما أن الهدف العام لإدارة الموارد الإنسانية في الاستثمار، وتحديداً في المجال الثقافي، هو تطوير الممارسات الفنية والاجتماعية في المؤسسة لتكون أكثر فعالية وكفاءة وتعزيز ثقافة التميز فيها بهدف تحقيق النجاح الأكبر في عملية الاستثمار الثقافي في المجتمع (8).ومن ناحية أخرى، رأس المال الإنساني بما يعنيه من موارد إنسانية، القائمة على التعليم بكافة أنواعه من تدريب، ومعرفة، وتقنية، وقدرة على الإبداع، يتبعها بناء الثقة، والمصداقية، والتنظيم، والرؤية، والقيادة، وروح المبادرة واتخاذ القرار؛ هو أس وعين الاستثمار الثقافي. فهذه الأبعاد الإنسانية غير المادية، هي أيضا رأس مال مهم جداً. وهذا ما توجهت إليه في السنوات الأخيرة الدول الكبرى لعلمها بأن رأس المال الإنساني، والفكري، والمعرفي، والثقافي، يمكن استغلاله بجانب الاقتصادي والمالي. ولا نقول أن هذه المفاهيم مبتدعة حيث أن الأساس هو المال؛ فهي موجودة بجانب رأس المال، ولكنها لم تُفعّل من قبل بهذا الشكل. ذلك أن جانب واحد فقط من الإنسان تم الاهتمام به أكثر من غيره؛ وهو استغلاله في عمليات تجارية لجمع المال وزيادة الاستثمار به وفيه. ويبدو أن تحقيق ما تصبو إليه البشرية من الأهداف الإنسانية الكبرى، مثل التنمية، والحرية، والعدالة، والمساواة؛ لن يتم إلا بالاستثمار في رأس المال الإنساني أو بشكل محدد في الثقافة الإنسانية التي تحوي بجانب المعلومة، والتقنية، المهارة والأفكار الإبداعية، وإمكانية تحويل كل ذلك إلى ثروة وقوة تساهم في تعزيز النمو والتنمية.كما لا يخفى بأن رأس المال الإنساني يزداد تراكماً بمضي الوقت ومع الاستخدام الدائم والمستمر، وذلك بخلاف عناصر الإنتاج المادية الأخرى التي تتآكل وتتناقص وتقل قيمتها بمرور الوقت والاستخدام المتكرر (9).سُبل التنمية الإنسانية:تعود الجذور الأولى لمفهوم التنمية إلى عصر الاقتصادي البريطاني آدم سميث في نهاية القرن الثامن عشر للميلاد، لكن للأسف لم يفطن العديد من المنظرين والعلماء إلى أن التنمية وبالذات الإنسانية، لها ذكر أقدم من ذلك بكثير في الكتاب الذي بين أيدينا وهو القرآن الكريم، الذي لم نلم أو نستثمر بعد كل ما ورد بين دفتيه.فالتنمية الإنسانية في نظر الإسلام هي صومعة بناء الإنسان وتسخير البيئة له وتذليل الصعاب وتطوير ما يحيط به لإسعاده وتحقيق طموحاته. فالتنمية الإنسانية لها موقع ريادي في عموم الشريعة المقدسة وكذا في القرآن الكريم الذي يُعد أصل منابعها. حيث أن مقصد الشريعة الإسلامية هو تحقيق مصالح العباد بإيجادها أولاً ثم حفظها ثانياً، وهذه المصالح هي حفظ الضروريات وتحقيق الحاجات وضمان التحسينات، وهذا هو عينه غاية التنمية الإنسانية ومرادها (10).كما أن هناك عدة تعريفات حديثة للتنمية، منها: أنها عملية ديناميكية تتكون من سلسلة من التغيرات الوظيفية والهيكلية في المجتمع، تحدث نتيجة للتدخل الإرادي لتوجيه التفاعل بين الطاقات الإنسانية وعوامل البيئة، بهدف زيادة قدرة المجتمع على البقاء والنمو(11).وأن مفهوم التنمية الإنسانية له من المرونة ما يؤهله أن يتصل مباشرة باستثمار كافة الموارد التي تولد منها نتاجا ينمي القدرة البشرية ويطور الهيكل البنائي والتنظيمي لتلك الموارد (12).وبهذا فالتنمية الإنسانية مفهومها ومنهجها تعتبر أوسع واشمل من منهج الموارد الإنسانية. وبما أن مصطلح التنمية الإنسانية حديث لم ينضج في أفكاره وأسسه ومعالمه وقواعده ومعظم آلياته بعد ذكره في القرن الثامن عشر، إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولذا ارتبطت المفاهيم الحديثة للتنمية بالدول الصناعية الكبرى في العالم والتي اقتصرت بشكل محدد على التطور والتحديث في المجالات الاقتصادية الصناعية أكثر من غيرها. حتى أن مصطلح التنمية بالمعنى الحديث، ظهر أول مرة سنة (1949م) على يد الرئيس الأمريكي هاري ترومان نتيجة الظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية وبدأ الحرب الباردة بين ما سُمي بالمعسكرين الغربي والشرقي في العالم الحديث. فهل يجب أن نبقي عبيداً لهذا المفهوم؟وما نشير أليه في هذا المقام ضمن مفهوم (التنمية الإنسانية) هو في مردودها الاقتصادي على المجتمع؛ حيث اهتم هذا المفهوم بدعم القدرات الخاصة بالفرد الذي يتكون منه المجتمع، وقياس درجة مستوى معيشة هذا الفرد، ومدى تحسن أوضاعه المعيشية في المجتمع الذي ينتمي إليه. وزيادة القدرات المتاحة أمام الإنسان، أي توسيع خيارات الأفراد وحرياتهم الفعلية، بمرونة في الحركة وانتخاب ما يراه مناسبا لسد حاجاته المتغيرة.وقد أخذت الأمم المتحدة على عاتقها إبراز مفهوم التنمية الإنسانية، وذلك منذ العام 1990م؛ حين أسست (برنامج الأمم المتحدة للإنماء)، وخصَّصت له تقريراً سنوياً.وباعتبار التنمية تشمل كل توجهات الإنسان عموما دون استثناء، فإن التنمية الثقافية أو الاستثمار الثقافي ضمن هذه الشمولية، هي عملية تبدأ من الإنسان وتستهدف الإنسان في الدرجة الأولي، فكما بينا آنفاً، بأن الإنسان هو رأس مال التنمية الإنسانية ومحركها.وبناءً عليه، فإن الاستثمار الثقافي يهدف إلى الارتقاء بالمهارات، وتفجير الطاقات الإنسانية الخلاقة، وتطوير القدرات واستثمارها بمجالها الثقافي من باب خدمتها للمجتمع ولتطور قدرات الفرد والمجموع فيه.وارتباطاً بذلك، تدعو تقارير الأمم المتحدة الإنمائية لتوسيع خيارات البشر في سبل التنمية الثقافية الجديدة وليس حكرها على التنمية الاقتصادية تحديداً. ولذا، فسُبل التنمية الثقافية بغرض الاستثمار والمردود الاقتصادي يجب أن تكون ضمن عملية مدروسة، وذات أهداف واضحة، وتخطيط ممتاز.وقد آن الأوان لتطوير مفهوم التنمية وعدم حصرها بعلم الاقتصاد فقط وماكينة الاقتصاد ومساحة الاقتصاد في المجتمع، وزيادة الإنتاج والتقدم الكمي الصناعي وتأثيره على الحياة الاجتماعية. وذلك، بتفعيل الجوانب الثقافية، والمعرفية، والاجتماعية. والتوجه للإنسان، لا باعتباره آلة صامتة تخدم الجانب الصناعي، بل لأنه بإنسانيته ومواهبه وإبداعاته المتعددة الحضارية؛ هو العنصر المحرك والفاعل في التنمية الثقافية. ووسيلة مهمة وعنصر أساسي في الإنتاج الاقتصادي، فهو هنا رأس مال مساوٍ لبقية رؤوس الأموال النقدية (13).ثالثاً: خطوات الاستثمار الاقتصادي للمبدعين في المجال الثقافيلنتحدث مع أنفسنا بكل شفافية وصراحة، هل نعقد المؤتمرات، والندوات، واللقاءات، بعنوان الاستثمار في الثقافة في جانبها الصامت ونتغافل عن جانبها الناطق وهو الأهم لأنه هو من صنع الجانب الصامت ويرعاه إلى اليوم.يعتمد الاستثمار في الثقافة الناطقة على الصناعات الثقافية الكبرى مثل الصحف والمجلات، والأفلام والتسجيلات الموسيقية، والأزياء والتصميم، وإنتاج الكتب النوعية.كما يعتمد على الثقافة الصامتة، مثل الآثار التاريخية، وخصوصا ما تم تسجيله منها في منظومة التراث العالمي، من آثار في البحرين، وعُمان، ودولة الإمارات العربية، حيث ما زال الكثير منها قائما ويمكن أن يكون منتجا ومجزيا في الاستثمار على مستوى عالمي إذ ما أُحسن إدارته وتشغيله بالمبدعين وليس بالموظفين العموميين.ولكن بداية لابد من إعادة تأهيل البنية الثقافية التحتية في خليجنا ووطننا العربي، وهي مهمة ليست عسيرة، إلا أنها في ذات الوقت لا تعني هيكلة مباني أو طرق أو أشغال عامة. بل نعني بالهيكلة الثقافية إعادة تأهيل مؤسسات المجتمع المدني الثقافية لتغدو منتجة وتعطي اقتصاد مثمر ومنتج، لأنها معطلة حاليا تقريبا في معظم مفاصلها إن لم تكن مهملة واسألوا أهل الثقافة عنها.والقضية ليست في الحاجة زيادة الموارد الإنسانية هنا، بقدر ما هو الاهتمام الحقيقي بما هم متوافرين منها في شتى فنون الإبداع الثقافي، وإعادة تأهيل أدارت وأقسام الثقافة في وزارات ومؤسسات وهيئات الدول الرسمية حاليا بحيث لا تصبح مرتعا للعمالة الزائدة والتكدس الوظيفي غير المنتج للثقافة. كما أنها تفتقر في ذات الوقت للمهارات الأساسية ولا تقدم الكثير لعموم الحياة الثقافية الحديثة. فهي عاجزة عن فهم الأبعاد الاقتصادية وطاقة القطاع الثقافي، وتطوير المشاريع الثقافية حتى الصغيرة منها. و الأمر، أننا عندما نريد أن نطور هذه المواقع الوظيفية الثقافية من سياحة ورعاية الموهوبين والاهتمام بالمبدعين، وغيرها، إن حدث؛ نُسارع لبيوت الخبرة الأجنبية، فنشجع الاستثمار الثقافي الأجنبي بها مما يزيد الطين بلات وليس بله واحدة! ويؤصل للإحباط عند العناصر الوطنية المبدعة والفاعلة في هذه الميادين.حقيقة، إن أردنا العمل بشكل صحيح ضمن خطوات الاستثمار الاقتصادي للمبدعين في الحقل الثقافي؛ لا بد أن نرسخ مفهوم بأن الثقافة أمر مهم جداً للناس، وانه جانب مربح ثمين يستحق الإنفاق عليه، ويجب ألا نعامل الثقافة في المؤسسات الحكومية كمنحة أوقاف، بل كاستثمار اقتصادي كبقية الاستثمارات في الموارد الإنسانية، والمادية.ليكن هدف السياسة الثقافية الاستثمارية دعم المؤسسات الثقافية للإنتاج والإبداع وليس لملء فراغ ترفيهي سياحي فقط للناس، في مناسبات شعبية أو وطنية.- مدن المعرفة وصناعة الثقافة:نحتاج إلى مدن معرف وإعلامية للاستثمار في الثقافة، وهنا يأتي دور رجال الأعمال، في ضخ بعض مالهم لخدمة الثقافة عن طريق إنشاء رعاية مدن إعلامية لإنتاجٍ مختلف جوانب الثقافة، من مؤسسات ثقافية، وصحافة، وقنوات مرئية، ومسارح، ودور نشر، ومراكز دراسات وأبحاث، تساهم في الاقتصاد الوطني الذي تتهدده مخاطر كبرى تكاد تعصف بمقوماته وركائزه.في الغرب حالياً، كمثال بعض المدن الكندية، يعترفون بشكل متزايد بأن الاستثمار المحلي في الثقافة يسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. من خلال شبكة مدينة الإبداع في كندا، بدراسة مخصصة للاستثمارات الثقافية لأربع سنوات مالية (2009 -2010 - 2011 - 2012).وتعمل خطة مدينة (إدمونتون) الثقافية الكندية للعام 2008، بعنوان "فن العيش"، على خلق بيئة ثقافية مستدامة وتقدمية في المدينة المذكورة، وهي بيئة تدمج الثقافة في الحياة اليومية، وتسعى جاهدة للحفاظ على الممارسين الثقافيين وجذبهم. واستنادا إلى مشاورات عامة وأطراف معنية واسعة النطاق. وبالإضافة إلى الدعم المالي المباشر للثقافة، تقدم مدينة (إدمنتون) ومجلس الفنون فيها دعماً كبيراً غير مباشر أو غير نقدي للقطاع، بما في ذلك:* إعفاءات ضريبية على الممتلكات للمنظمات غير الهادفة للربح التي تمتلك منشآتها.* الإيجارات الاسمية لبعض المنظمات غير الربحية، والثقافية، والمنظمات التراثية.* الخدمات العينية للمهرجانات، والمناسبات الخاصة، والأفلام، وما إلى ذلك.* إنشاء جائزة التاريخ في عام 2010 (لاستكمال جائزة الشاعر).* مجموعة من آليات التخطيط التي تشمل المناطق الثقافية، والمكافآت، والاستخدام العام للمساحات الخاصة.1 Paul M. Romer, Economic Growth, in David. R. Henderson (ed), The Fortune Encyclopedia of Economic. (New York, 1993), p. 184.2 See: Gary. S. Becker, Capital: A Theoretical and Empirical Analysis, with Special Reference to Education appointed, S² Edition (Chicago, 1975(.3 نبيل علي، "الإبداع.. منظور معلوماتي"، في قضايا غربية معاصرة، ساسين عساف، وعوض المر، وآخرون، مراجعة وتقديم منذر المصري، (عمّان، 2001)، ص 143.4 See: Kahin, Brian; Foray, Dominique, Advancing knowledge and the knowledge economy, )Cambridge, 2006).5 جريدة الصباح- 2- 7-2006، www.siironline.org6 اليحيى، خالد عثمان، "تنمية الموارد الإنسانية والتطوير المؤسسي: ظاهرة الطاقات المعطلة وإشكالية التمكين في دول الخليج"، 163-186، الموارد الإنسانية والتنمية في الخليج، ط 2، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، (أبوظبي، 2011)، ص 164.7 عبدالوهاب، علي محمد ، ا?دارة الموارد البشرية وأهميتها في تطوير الإدارة (بيروت، 3 يوليو 2003)، ص ?- ?.8 http://www.jsmo.gov.jo9 عبدالله، عبدالخالق، "تحديات الاستثمار في رأس المال الإنساني في دول مجلس التعاون الخليجي"، 57-78، الموارد الإنسانية والتنمية في الخليج، ط 2، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، (أبوظبي، 2011)، ص 59-61.10 الكمالي، طلال فائق، التنمية البشرية في القرآن الكريم، (العراق، 2013)، ص200 -202.11 انظر: عبدالمعطي، عبدالباسط (محرراً)، العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، (القاهرة، 1999).12 الكمالي، طلال فائق، التنمية البشرية في القرآن الكريم، ص 63-64.13 عبدالهادي الجوهري وأخرون، دراسات في التنمية الاجتماعية، مدخل إسلامي (القاهرة، 1982)، ص 111.د.محمد بن حميد السلمانباحث وناقد بحريني