تعتبر من أكثر ثقافات الأمم تأثيرا وتأثرا عبر العصور

القاهرة ـ من حسام محمود:
تعتبر الثقافة الإسلامية ركيزة أساسية للأدب والفكر الرصين الذي ينسب إلى الدين الحنيف وقد ساهمت في تكوين كل الشعوب التي انضوت تحت راية العالم الإسلامي وانصهرت جميعا في بوتقة واحدة في ظلاله الذي استوعب الجميع تحت رايته. وأتاح للجميع الفرصة للتفكير والإبداع والاختراع والإنتاج والتعبير عن أفكارهم في حرية كاملة . فلم تقتصر الثقافة الإسلامية على فن معين من الفنون العلمية وإنما اتسعت لتشمل كل الفنون والمعارف التي تخدم البشرية جمعاء فضلا عن كونها تعد أكثر ثقافات الأمم تأثيرا وتأثرا في الثقافات الأخرى ولا توجد ثقافة استحدثت بعد انتشار رسالة الإسلام إلا وتأثرت بها مهما كان حظ أهلها من البداوة والحضارة . كما أن انتشار الثقافة والفكر الإسلامي جاء مواكبا للمتغيرات في كل عصر بالتزامن مع الفكر الخلاق لكثير من المستشرقين الذين نقلوا وترجموا وأضافوا وتفاعلوا مع كبار المفكرين المسلمين.

امتزاج الثقافات
لعل صور التأثير والتأثر بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى عبر العصور نضجت معها آثار إيجابية وسلبية فقد كان المسلمون في العصور السابقة منفتحين على ثقافة الآخرين بشكل متحضر مما ساعد على سرعة نهضتهم وتطورهم في زمن قياسي كما أن تمسكهم بتعاليم دينهم ومحافظتهم على سلامة ونقاء عقيدتهم لم يمنعهم من الاستفادة مما عند الآخرين أيا كان دينهم . هذا بجانب أن المسلمين السابقين مثلما تأثروا بثقافة الآخرين في بناء نهضتهم كان لثقافتهم أيضا تأثير كبير على ثقافة الأمم خاصة أوروبا التي كان لها النصيب الأكبر من النهضة والطفرة العلمية الحديثة بعدما اغترفت من ثقافات وفكر وعلم العرب والمسلمين .
وقد بدأ هذا التأثر منذ بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الذي جاء برسالته العالمية وكانت البشرية قد قطعت شوطا طويلا في أمور العمران وكونت تراثا كبيرا وهو جزء من رسالة الاستخلاف التي خلقت من أجلها وكان من رسالته أن يقوم ما اعوج من البشرية ويكمل رسالة الأنبياء السابقين لا أن يهدم كل ما كان قائما لذا لم يقف عليه الصلاة والسلام موقف المعادي لهذا التراث إلا ما تعارض مع الإسلام وندب للمسلمين أن يأخذوا من ثقافة الأمم التي ورثت هذا التراث مما هو نافع . وغدا المسلمون ـ بعد تأسيس دولتهم واتساعها في عهد الخلفاء الراشدين ـ يتلمسون ما يحتاجون إليه من أمور عند غيرهم بداية من عصر عمر الفاروق حيث طلب من عمرو بن العاص أن يستفيد من خبرة وثقافة المصريين في مجالي الزراعة والعمران فكانت بداية تأثر المسلمين بالبلدان التي تمكنوا من فتحها.

النقل بالترجمة
في العصر الأموي ظهرت بوادر ترجمة الكتب العلمية التي يحتاج إليها المسلمون من غيرهم ثم جاءت حركة انفتاح الثقافة الإسلامية الكبرى على غيرها من الثقافات في العصر العباسي خاصة بعد تأسيس أبي جعفر المنصور لمكتبة بيت الحكمة ببغداد، تلك المكتبة التي مثلت بحق سعة أفق المسلمين واتساع ثقافتهم وانفتاحهم على الآخرين . كما أن أكثر العلماء غير المسلمين الذين كانوا حلقة الوصل في نقل الثقافات القديمة إليها قد أسلموا في أواخر حياتهم نتيجة احتكاكهم بالمسلمين وتعرفهم على تعاليم الدين الحنيف حيث رأوه يقدر العلم والعقل والفهم والتدبر ومن لم يسلم منهم صارت أفكاره ومعتقداته أقرب للإسلام . وأتاحت الفرصة لظهور العلماء المسلمين الأفذاذ الذين صاروا روادا في الشرق والغرب وكانت أفكارهم ونظرياتهم نبراسا لمن وضعوا أسس النهضة الحديثة حيث كان من دواعي نبوغهم اطلاعهم على تلك الثقافات القديمة بعد تعريبها. يضاف إلى ذلك أن اللغة العربية صارت وعاء لكل العلوم التجريبية والنظرية خلال العصور الوسطى وكل من كان يريد أن يتبحر في العلوم . ولعل الثقافة الإسلامية قد احتضنت تراث الأمم السابقة الذي كان مهددا بالزوال والاندثار ولولا ذلك ما عرف الناس في العصر الحديث شيئا عن المصنفات اليونانية والهندية والمصنفات القديمة التي تزخر المكتبات بنسخ منها . ويمكن القول إن تأثير هذا الانفتاح الثقافي سلبيا كان محدودا بالقياس إلى المنافع الإيجابية التي حققها المسلمون وراء ذلك كما أن علماء الإسلام المخلصين تصدوا للأفكار الضالة التي انتشرت في عصور مختلفة.

تأثير متبادل
أما عن تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافات الأخرى فكل القرائن والشواهد تشير إلى أنه لا توجد ثقافة استحدثت بعد ظهور الثقافة الإسلامية إلا وتأثرت بها خاصة الثقافات الواسعة الانتشار في الغرب وقد أثرت تأثيرا بالغا على الحضارة العالمية سواء بقيمها الذاتية أو بالعديد من قيم ثقافات أخرى احتكت بها ثم احتوتها وأصبحت حاملة وناقلة لها وذلك بعد أن أتاح التاريخ لها الفرصة لانتشارها على مساحة شاسعة من الكرة الأرضية وأصبحت قادرة على استيعاب العناصر الثمينة للثقافات التي اتصلت بها ثم أثرت إلى حد بعيد في الحضارة العالمية وتراثها .
ومع بداية العصر الحديث أقبل المستشرقون على دراسة الإسلام وعلومه ورغم أنهم أقبلوا على هذا العمل لدواع خاصة بهم وبالدول التي ينتمون إليها إلا أن جهدهم كان له فضل كبير في إثراء الثقافة الإسلامية حيث أضافوا إليها مئات المصنفات في مجالات الإسلام المختلفة وحققوا الكثير من كتب تراث الإسلام كما أن الكثيرين من هؤلاء قد تشبعوا بالروح الإسلامية فأسلم بعضهم ومن لم يسلم أمضى عمره ووقته وجهده في الدفاع عنه أمام الكائدين وهذا لا يمنع من وجود طائفة من هؤلاء المستشرقين الذين غلبت عليهم الأهواء وكانوا يوظفون كتاباتهم لتشويه صورة الإسلام والمسلمين عن طريق الروايات الشاذة أو الضعيفة إلا أن ذلك لا يقدح في المجهود الكلي لهم في خدمة العلوم الإسلامية والعربية ونمو حركة التأثير والتأثر بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات .
ثم جاءت البعثات العلمية للطلاب العرب إلى الغرب واستقدام الأساتذة الأجانب للتدريس في الجامعات العربية بعد افتتاحها وازدهار الترجمة إلى العربية مرة أخرى لتزيد من تلاقي الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى المتنوعة ورغم توجس بعض علماء الإسلام من هذا الأمر إلا أن الفائدة كانت كبيرة كما أن طائفة كبيرة من الطلبة المبعوثين للغرب كان لهم دور كبير في إثراء الثقافة الإسلامية من خلال تزويدها بالمعارف الجديدة أو نقل الثقافة الإسلامية نفسها إلى الدول التي بعثوا إليها من خلال احتكاكهم في الدراسة . وهذا التأثير والتأثر بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى يزداد يوما بعد يوم نتيجة الطفرة التي حصلت في وسائل الاتصال والمسئولية الكبرى على علماء الإسلام ودعاته ومفكريه هي توظيف هذا التلاقي أو التأثر بشكل يفيد الإسلام والمسلمين مع تجنب الآثار السلبية له على مستوى الأفراد والمجتمعات .