[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]لعل السياسة تعد نموذجا جيدا للدفع بهذه الحجة، فقد تستفيد من التكنولوجيا في تسهيل تصويت الناخبين وفرز أصواتهم ـ لكن يظل تعطل الآلة يحل بالفرز اليدوي. وبما أن التكنولوجيا تأتي بمشاكلها معها، فلا يمكن الثقة تماما في برامج حاسوبية (كمبيوترية) يسهل على صبي صغير أن يتلاعب بها من جهاز في يده ليقلب الأبيض أسود والأسود أبيض.مرة أخرى أثبتت نتائج الانتخابات البريطانية قبل أيام أن استطلاعات الرأي التي يبني عليها المحللون والمعلقون استنتاجاتهم ليست غير دقيقة فحسب، بل بعيدة تماما عن الواقع. ومهما تطورت أساليب الاستقصاء واستخدمت التكنولوجيا الحديثة في قياس الرأي العام، فإن الإنسان ـ أفرادا وجماعات ـ لا يمكن سبر غوره بعد بالتكنولوجيا. ومع تكرار إخفاق استطلاعات الرأي في توقع نتائج انتخابات واستفتاءات في أكثر من بلد (على سبيل المثال استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخابات الرئاسة الأميركية وغيرها) لم يعد الناس يثقون كثيرا في نتائجها، إلا أن الشركات الكبرى التي تجريها تحدث أساليبها باستمرار وتدعي دقة التكنولوجيا. والحقيقة أن تطور تكنولوجيا استطلاع آراء الجماهير لقياس توجهات الرأي العام أضاف مزيدا من الشكوك حول نتائج تلك القياسات.يتجاوز مثال الانتخابات البريطانية مسألة فشل استطلاعات الرأي وعدم الاعتداد بنتائجها ليشمل أيضا الإعلام الرئيسي، إذ إن حملة مكثفة لشيطنة زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربن لم تفلح في وقف خسارة زعيمة حزب المحافظين ورئيسة الوزراء تيريزا ماي لأغلبيتها البرلمانية وإن فاز حزبها بأكبر عدد من المقاعد. تلك الحملة، التي قيل إن المحافظين أنفقوا أكثر من مليون دولار على حسابات على فيسبوك مهمتها فقط تشويه سمعة كوربن، لم تمنع الناخب البريطاني من التصويت للعمال ولكوربن ولو احتجاجا على سياسات المحافظين وماي. ومرة أخرى يشير ذلك إلى أن تلك الفورة حول وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها الجماهيري لم تعد بالقدر الذي تم تهويله لسنوات. ولنا فيما يجري بالمنطقة الآن عبرة، وإن كنا نلمس ما يخلص إليه الغرب بعد سنوات فإن نتيجة التطور أن تلك السنوات أصبحت أقل الآن.فليس أكثر من الجماعات المتطرفة استخداما للتكنولوجيا للترويج لأفكارهم والدس والتأليب والتخريب السياسي وإثارة الرأي العام في الدول والمجتمعات المستقرة. ويملك هؤلاء ومن يرعاهم ويدعمهم ويمولهم مئات آلاف الحسابات الوهمية على مواقع التواصل تفعل في كل حملة هم طرف فيها أو فتنة لهم مصلحة في إشعالها. مع ذلك، نشهد الآن تراجعا واضحا لتلك الأدوات التكنولوجية وإمكانية تأثيرها في الرأي العام. فلا هي أفلحت في إثارة فتنة طائفية في مصر مثلا بعد تفجيرات الكنائس واغتيال المسيحيين، ولا هي أفلحت في الدس بين الأشقاء من دول عربية أخرى. ليس معنى ذلك أن التكنولوجيا فقدت أهميتها، بل العكس فالتكنولوجيا وتطورها مهم وأساسي في تطور كل مناحي النشاط الإنساني. لكن المهم هنا هو أن التهويل والتخويف من أن "تحل التكنولوجيا محل الإنسان" يبدو شططا ـ على الأقل حتى الآن. ولعل السياسة تظل الأقل تأثرا بالتكنولوجيا ـ ليس كل التكنولوجيا ـ ولكن تحديدا بعض مبتكراتها في التواصل. والسبب ببساطة أن السياسة تعني إدارة شؤون الناس، وهذا يتطلب تعاملا مباشرا مع الناس، خاصة من لا يمكن إقناعهم بالبريد الإلكتروني (الإيميل) أو شحذ همتهم بانستجرام.بالنسبة لبريطانيا، التي ما زالت تعد أعتى ديموقراطية في العالم، يستهلك الجمهور منتجات التكنولوجيا بكثافة لكن يظل الإنسان إنسانا والآلة آلة. وما زال النشاط الأكثر فاعلية في الحملات الانتخابية هو ما يسمى "طرق الأبواب" Door Stepping أي حرفيا الطرق على أبواب البيوت ومقابلة الناخبين وجها لوجه. هذا ما لا يمكن أن يقوم به روبوت ذكي أو يتم عبر الإنترنت فائق السرعة. ويلحظ المرء ذلك أكثر في الانتخابات المحلية، إذ إن عضو المجلس المحلي لن ينتخب إلا إذا كان الناس يعرفونه ويعرفون سيرته تماما ويلتقونه مصادفة في الشارع أو في السوق أو وسائل المواصلات. ومهما كان لديه موقع مبهر على الإنترنت أو مروجون لحملته على تويتر وفيسبوك فلن يفيده ذلك بقدر لقائه المباشر مع بعض الناخبين أو ندوة مباشرة في أي موقع بالحي.في النهاية، أصبحت التكنولوجيا ومنتجاتها التي تتطور كل يوم جزءا مهمًّا من حياة البشر لا يمكن الاستغناء عنه لكن الحديث عن إلغاء التكنولوجيا لدور الإنسان يبدو بعيدا جدا عن الواقع واحتمالاته القريبة. ولعل السياسة تعد نموذجا جيدا للدفع بهذه الحجة، فقد تستفيد من التكنولوجيا في تسهيل تصويت الناخبين وفرز أصواتهم ـ لكن يظل تعطل الآلة يحل بالفرز اليدوي. وبما أن التكنولوجيا تأتي بمشاكلها معها، فلا يمكن الثقة تماما في برامج حاسوبية (كمبيوترية) يسهل على صبي صغير أن يتلاعب بها من جهاز في يده ليقلب الأبيض أسود والأسود أبيض. ربما نستعيض عن الورق بالآي باد وبالهاتف الذكي، لكننا سنظل نستخدمه كاستخدامنا للورق. ولن يؤثر كثيرا في رأي الناس ما ينتشر على وسائل تواصل الإنترنت التي تعج بالأخبار الكاذبة والتلفيقات والفبركات حتى في الصور والفيديوهات.وإلى أن تنتهي السياسة ـ ولا أظن ذلك بقريب ـ لا تثق كثيرا بالتكنولوجيات ومخرجاتها وتأثيرها في رأي العام. ولا تتبع الحشد إذا انساق وراء إشاعات الإنترنت، فلن ينفعك ذلك إذا بنيت عليه اختيارا سياسيا خطأ إذ سيكون السهم قد نفذ ولن تتمكن من إرجاعه ولا بكل مبتكرات التكنولوجيا.