[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
”على نهر الغانج Ganga المقدس، وهو من أكبر الأنهار في العالم، ينبع من جبال هيمالايا، ويعبر الهند إلى المحيط..كانت لي وقفة، ونظرة، ودهشة.. هناك شاهدت من يجمع الطين المقدس من النهر المقدس في الليل.. كان العمال يخرجون من نهر الغانج "المهاتمي المقدس"، الـ ماتي MATI أي الطين، ويصنعون منه "قُرَّاصات"،أي كرات مفلطحة بحجم قرَّاصَة عجين رغيف الخبز. يبيعونها للناس، لأن ذلك يدخل في المقدس.”

في نيودلهي، استيقظت في الخامسة صباحا، استعدادا للسفر إلى مدينة أغرا Agra، بعد يوم من العمل، كان فيه لقاء مع أساتذة وطلاب في الجامعة الملِّية الإسلامية. في الطريق إلى أغرا، وعلى مسافة 250 كم، لم ألحظ قطعة أرض واحدة غير مستغلة، كانت الأرض محتشدة إمَّا بالأشجار على جانبي الطريق، وإمَّا بالحقول الممتدة على مدى النظر. عندما وصلت، نسيت التعب والمشقة اللذين تكبدتهما من نيودلهي إلى أغرا، ففي رحاب "تاج محل"، وعلى ضفة نهر يامونا، تنتصب أعجوبة من أعاجيب الحب والبناء والإبداع والوفاء، تنسيك التعب، وتغريك بالاستمتاع بفنٍّ يثير الإعجاب، ويستدعي العجب.
هناك، وقفت في مساحتين: نباتية خضراء، ومرمرية بيضاء، وكلٌّ منهما ذات بهجة وطعم ووقع خاص في النفس، أما المرمرية، فأخاذة، تسرقك من نفسك، وتسرح بك في مدى الزمن. وقفت أتأمل وأنظر إلى الماضي، بين مئذنتين، "منارتين"، مائلتين، إحداهما باتجاه نهر يامونا، والأخرى باتجاه داخل الضريح والجهة المقابلة لـه.
في "تاج محل"، حديقة ممتازة، تتوسطها بحيرة مستطيلة الشكل ذات نوافير، تمتد أمام الضريح البهي. العناية بالخضرة، والماء المتدفق من نوافير عدة، ذكَّرتني بنوافير "جنَّة العريف"، وبقصر الحمراء في غرناطة، مع اختلاف بيِّنٍ في المناخ، وطبيعة التوظيف، وارتفاع الذوق. ففي "جنة العريف"، تنوف الحياةُ على الموت، وتخدم ما يتصل بها، مما يجعل المقارنة مشوبة بنوعمن التلفيق.
الضريح الذي أقامه الإمبراطور شاه جهان لزوجه ممتاز محل، صرحٌ عجيب.. رائعة معمارية خالدة، تعطيك خلاصة تقول بتفوق إرادة الإنسان على المرمر الصلد، المشرَّب بالضوء لدرجة القول إنه ضوء القمر في صورة رخام، أو تقمص القمر رخاما، كما يقول البعض، إنه رخام "ما كرانا"، وهي منطقة هندية رشحها من كلفهم الإمبراطور شاه جهان، للبحث عن نوع رخام لبناء الضريح. هناك يتحول المرمر إلى قصيدة وإيقاع وعزف ناي حزين، ويقدِّم الصقيلُ المنقوش منه، الذي أجبر على الخضوع لإرادة الفنان المسلم، وعبقريته وإزميله الرشيق، يقدِّم شهادة للعصور، على عصر شهد ذلك التقدم في الوفاء والازدهار والبناء. توفيَت ممتاز محل، زوج جهان شاه، قبل أن يكتمل الصرح "تاج محل"، ودفنت ممتاز هناك، في أثناء الاستكمالات، بينما توفي زوجها بعد انتهاء البناء، الذي دام ما يقرب من عشرين سنة، ودفن إلى جانبها.
من ضريح جهان شاه وزوجه ممتاز محل، نظرت إلى ماضٍ قريب وآخر بعيد. عشرون سنة استغرقها عشرون ألف معمار وعامل فني، في بناء ذلك الصرح الخالد، وفي الصحن الخارجي أماكن إقامة تعد ثلاثمئة غرفة، لسكن الفنيين والعمال، وفي الداخل، إلى يمين الداخل إلى الضريح، دار ضيافة للمتميزين من الأشخاص، وإلى اليسار مسجد، أمَّا الضريح المرمري، فقد كُتبت على مداخله، بالمرمر الأسود، آيات من القرآن الكريم، زرعت ضمن صفحات المرمر الأبيض، وجاءت روح الأداء الفني متكاملة، لا تقدم ترصيعا وإنَّما فنا رفيعا. وعلى سياج الضريح، بدت الزنابق المرمرية بارزة، نافرة، نتيجة حفر وترصيع في صفحات من المرمر الأبيض، على طول زنَّار عريض، يزيد على متر ونصف المتر ارتفاعا، ابتداء من أرضية الضريح، تقدم أروع شهادة وأعمقها، على الأداء الفني الرفيع، لفناني ذلك العصر.
يوجد في أعلى الإطار الذي يحيط بالضريح 64 زهرة لوتس حمراء، زهرة صُنعت من المرمر، ولوِّنت ثم حفر لها مكان في صفحة المرمر الأبيض النقي، وأدخلت في أماكنها، وعُشِّقت به تماما، فبدت من روحه، وهي شفافة مثل المرمر، الذي شف عن نقاء، حيث يرتد إليك الضوء المركز عليه، شفافيةً ملونة جذابة. جثتا الملك وزوجه دفنتا في مدفنين أرضيين، تحت المدفنين العلويين، وهما في ضريح من المرمر أيضا، وحجم قبر الملك أعلى قليلا وأكبر، من قبر زوجه.
أورانزيب، ابن الملك جيهان شاه من زوجه ممتاز، الذي اشتد على الناس وعلى أقاربه، وقتل أخويه الاثنين، ليستقر له الحكم، بعد أن اعتلى سدته .. بنى لنفسه ضريحا بالرخام الأسود في أغرا، في مقابل ضريح والده، ولكنه لم ينجزه، عمل فيه العمال مدة أربع سنوات، وموقعه على الضفة الأخرى المقابلة لموقع تاج محل من نهر "يامونا"، الذي يتربع على إحدى ضفتيه تاج محل.. كأنما رفض النِّد ولم يسمح بأن يجاوره ضريح. أربع من المنارات المتناظرة في الضريح، شدتني إلى الوراء قليلا، إلى منارة أخرى أتيح لي أن أزورها في نيودلهي، هي "قطب منار"أو منارة قطب، التي بناها قطب الدين إيبك، وهي آية معمارية أخرى، لم أر مثلها أبدا، إنها تجمع عشرة مآذن أو أكثر، في تصميم مئذنة واحدة شديدة الارتفاع، وتزاوِج بين بناء "الباغودا"الصيني ـــ البوذي، والمئذنة الإسلامية، في تحفة معمارية متميزة، تدل على التمازج الحضاري العميق، وعلى الانفتاح النابع من سماحة فذة للدين، سكنت أعماق الناس، وعبر عنها فن العمارة، فانطلقت إبداعا فريدا في أداء فني رائع.. يقول للخلق، هكذا كونوا إخوانا رائعين.
هناك، في منطقة قطب منار Qutb Manar عدة صروح معمارية من الحجر الأسود والوردي، السقوف ذاتها من الحجر، وقد تنوع فن المعمار بين القناطر التي تحمل سقف المكان، والأقواس وأنواع المُقرْنصات الحجرية، والنقوش على الأعمدة والواجهات، التي أخذت وحداتها الزخرفية من فنون وحضارات وديانات عدة. وفي أنواع وأشكال بناء منارة قطب الدين، وما جاورها في مباني "سري"التي شيدها علاء الدين خَلْجي، في القرن الرابع عشر الميلادي، وفيما أحاط بها من صروح معمارية، ما يذكرك بأنموذج معماري، وجدته في بلدي سوريا، في بعض قرى حوران، لا سيما استخدام الحجر الأسود في السقوف،"الرَّبَذُ أو الرَّبَض، من فعل رَبَض"، والحُنُوت، جمع "حِنْت"، والجسور الحجرية المستخدمة في البناء، والسقوف بين القناطر المتجاورة، والمنحوتات الحجرية.. وكلها نماذج لافتة في فن العمارة.
كنت في يوم سابق، قد زرت ضريح همايون وأسرته، وفي ذلك المكان، وفي الأبنية المحيطة به، تميز ملحوظ،، ولم أزر لأي من ملوك المغول والغزنويين والمماليك قصورا، أو لم تتح لي فرصة رؤية شيء من ذلك، في زيارتي تلك للهند، ومعظم ما رأيته، مما تركوه، أضرحة، في مساحات واسعة نسبيا من الحدائق، وبدت لي المساحات الخضراء التي تحتوي تلك الأضرحة أو العمارات، لافتة للنظر.
بعد تبصر وتنقل نظر، بين الحجر والبشر، خلت أنني خرجت لتوِّي من ازدحام الصور في الشارع، بعد رحلة استغرقت تسع ساعات، ذهابا وإيابا /4 +5/ إلى "أغرا"Agra، ومشاهدة الناس في المدن والقرى والمزارع التي مررنا بها، في طريقنا إلى تاج محل، وهي في حالة أقرب إلى البؤس، وانعدام النظافة، وكثرة المناظر التي تثير الشفقة، من مستحم في الشارع، إلى نائم على الرصيف، إلى من يقود عربة "الرَّكْشي"على دراجة عادية، بينما يجلس على كرسيها الخلفي ثلاثة أو أربعة أشخاص، ومَن يجرُّ عربة على جمل أو ثور أو حمار أو "كديش"، أو يجرها هو حافيا، ويسير بالناس الراكبين إلى وجهتهم، لقاء مبلغ من المال، يبدأ بخمسة روبيات وقد يصل إلى ثلاثين، وكل ذلك يتم في ظل فوضى سير لا نظير لها، تستطيع معها أن تعد السائق، في تلك الظروف، من الذين يتمتعون بقدرات استثنائية. وليست أغرا حالة استثنائية، ففي نيودلهي وكَلْكُتَا تشاهد المشاهد ذاتها.
يا الله.. كم في هذا العالم من تعب وفقر وبؤس، وكم فيه من غنى فاحش، وتهتُّك، وجور، وظلم، وقهر، وفجور، وكم فيه من تنوع، وفرص تعايش بين الأجناس والأنواع والأديان. الهند عالم من التنوع والألوان، من الفقر والبؤس والغنى، ومن التداخل الغريب العجيب بين المستويات المعيشية، والديانات، والثقافات، والتقاليد، والمهارات، والشطارات...إلخ.
كنت في طريقي من نيودلهي إلى كُلْكَتا Kolkata، في الساعة السابعة صباحا، حيث غادرت فندق NIKKO وهو فندق ياباني جديد. وبعد إجراءات المطار في الخطوط الداخلية، جلست في قاعة المسافرين بانتظار وقت المغادرة. في بهو المسافرين ذاك، اتضحت لي وجوه الهنود وسماتهم أكثر فأكثر، الزيارات الرسمية، واللحظات القصيرة العابرة مع الناس في الشارع، كل ذلك لم يعطني الكثير من تلك التفاصيل، ربما لأنني لم أسر في الشوارع بما فيه الكفاية، لأرى جيدا، وأدقق في التفاصيل؟ ومن ثم لم أملك ما يكفي من مكونات الصورة، ما يمكنني من إصدار حكم، أو من التيقَّن من قدرتي على إصدار حكم. كان الناس من حولي يجلسون بهدوء.. نظرت إلى الوجوه.. إنها سمراء مشرَّبة بحمرة، ذات قسمات إنسانية عميقة، فيها نظافة ورونق مستَحَب، وفي بعضها حكايات السنين.. إنهم هنا شيء آخر غير ما تبدَّى لي في بعض الشوارع.. تُرى أين كنت على خطأ، هنا أم هناك.. أم أن لكل لحظة من زمان، ونظرة في مكان، لونها وتجليها وشفافيتها ومعانيها؟!
في كلكتا، حين وصلت المدينة، وبدأت ولوج شوارعها عبر الزحام الكثيف، أشار مرافقي إلى منطقة، قال إن فيها بيت الشاعر رابيندرانات طاغور. ذلك اسم لـه وقع في نفسي، وقد قرأت معظم أعماله المترجمة إلى العربية، لا سيما الشعر والمسرحيات، وسبق لي أن زرت بيته، زيارة لا أتذكر من تفاصيلها شيئا يذكر.. كان ذلك في زيارتي الأولى لهذه المدينة،كلكتا، قبل عقدين من الزمن تقريبا. رغبت، فزرت بيت طاغور للمرة الثانية، ولاحظت أن هناك جامعة مبنية في محيط البيت، إلى جواره، لم ألحظها في الزيارة الأولى. ومررت على غرف البيت كلها، بما فيها الغرفة التي ولد فيها عام 1865 والغرفة التي توفي فيها في 7/آب/1940 وغرفة العمل، وبقية أماكن البيت، الذي يشرف على ما يذكرك بمسرح شكسبير القديم، القابع في تلك القرية البريطانية"ستراتفورد"، على نهر التايمز.
عمل طاغور في الرسم والتمثيل والموسيقا، وكتب الشعر والمسرح ونصوصا أخرى، وزار عدة بلدان، وقابل عددا من مشاهير عصره، وترك صورا لزياراته ولقاءاته تلك في البيت، المتحف. ومن زياراته تلك.. زيارته ومدة وجوده في بريطانيا، حيث درس هناك مدة سنتين، ولم يكمل دراسته، وزياراته لكل من: فرنسا واليابان وروسيا والصين وبورما ومصر "الإسكندرية"، وبلدان آسيوية أخرى. وله صورة في البيت مع إينشتاين، وأخرى مع ستالين، وصورة يلقي فيها الشعر بحضور المهاتما غاندي، وصورة مع الكاتب والباحث والمؤرخ البريطاني، ويل ديورانت... الخ.
على نهر الغانج Gangaالمقدس، وهو من أكبر الأنهار في العالم، ينبع من جبال هيمالايا، ويعبر الهند إلى المحيط..كانت لي وقفة، ونظرة، ودهشة.. هناك شاهدت من يجمع الطين المقدس من النهر المقدس في الليل.. كان العمال يخرجون من نهر الغانج "المهاتمي المقدس"، الـ ماتي MATI أي الطين، ويصنعون منه "قُرَّاصات"،أي كرات مفلطحة بحجم قرَّاصَة عجين رغيف الخبز. يبيعونها للناس، لأن ذلك يدخل في المقدس. ولم تغادرني منذ تلك اللحظة فكرةُ ذلك الطين ومدلولاتها. كان ماء النهر عَكِرا، والمنطقة تعج بحشرات طائرة، مشَينا على الرصيف قليلا.. وفي مكان قريب من مَجْبَل الطين، الواقع عند أسفل أعمدة الجسر الذي يمر فوق النهر، وعلى مقلة صغيرة من الشاطئ، كانت هناك شمعة صغيرة مضاءة، تنوس وتقاوم النسمة الخفيفة، تشبه منارة مرفأ مهجور...كأنما هي لروح ذُرَّ رماد جسده في النهر حديثا، وهو يصارع من أجل دخول البرزخ الذي يفصل بين عالمي الحياة والموت، أو هو في شدة مخاض ولادة "دخول" جسد جديد تقمَّصه، بعد رحلة حياة لم تؤد إلى تطهُّره تماما، وخلاصه من ربقة الحياة، ولا بد من معاناة جديدة، قد تجلب التطهُّر والخلاص.
في لحظة، عَصفت في رأسي فكرة، مَرَّت في رأسي كالسهم المنطلق: أليس في هذا الطين بقايا الرماد الناتج عن حرق جثث الموتى، وذر رمادها في النهر؟! الطين الذي يجمعه عمال في شاطئ نهر الغانج، أعاد إلي فكرة في مجال القداسة التي يضفونها على ذلك الطين.. إنهم عمليا يجمعون شيئا من أجساد بشر منهم، أقارب وأصدقاء وأبناء وطن، يدفعها النهر المقدس إلى الشاطئ، فيتكوِّن ذلك المعطى القداسي عند أولئك الناس.. إن أمواتهم الذين أحرقوا أجسادهم، يعودون إليهم في رماد خالط كتل الطين، بعد أن قدسها نهر"الغانج"على نحو ما.. ألا يخالط الرماد الطين، ويتجمع في زوايا معينة من المجرى، لا سيما إذا كان هناك جسر وأعمدة يلتف حولها الماء، ويتراكم الطمي المحمل بالرماد؟!
ألا يكون ذلك هو مصدر التقديس الذي يجعل "الـ ماتي Mati "مطلوبا وله ثمن؟! إننا نحن البشر نبحث عن بقايانا، وعن بقايا أحبائنا في التراب والماء والغبار والنور، وفي أشعة الشمس ونسيم الهواء، ونتوق إلى عودة واستعادة ما.. فيا لنا من نماذج لكائنات حائرة محيِّرة، تزداد معاناتها كلما طالت حياتها، وتجددت رغباتها في تلك الحياة، وكل من تعلق بها أكثر، عانى منها أكثر؟!.
كل شيء في كُلْكَتَا لا يطمئنني، لا أعرف السبب، وكنت كلما تذكرت أن الخضار والفاكهة تُروى من نهر الغانغ المقدس، الذي يذر فيه رماد الجثث المحروقة، أحجم أو أكاد عن تناول شيء.. ليس لأن النهر مقدس، ولكن لأنه ذلك النهر الذي شهدت على شاطئه جمع الطين المقدس، ورأيت مقدار تلوث مائه، وأعرف وأتذكر دائما أنه النهر الذي يُلقي فيه الهنود رماد جثث موتاهم التي يحرقونها ويذرُّون رمادها في النهر، على امتداده الطويل.. حسب عادتهم في التعامل مع جثة من يموت لهم أو منهم، من بني البشر.
في المدينة الكبيرة، كمٌّ من البشر كبير، يتجاوز 15 مليونا بكثير، وفيها كما قال ليأبو ذر الهاشمي الكلكتي، الذي يعمل في القسم العربي من المكتبة الوطنية، حوالي مليون مسلم، وهو رقم غير دقيق في تقديري، وهم الآن أكثر من ذلك بكثير.
الأشجار كثيرة في ساحات واسعة، وحدائق عامة كبيرة، وكذلك في ميدان سباق الخيل القريب من المكتبة الوطنية، ويبدو أن الماء والجو المشبع ببخار الماء، نتيجة الطقس الحار نسبيا، كل ذلك يسمح بنمو النبات وتنوعه وكثافة الخضرة. الشوارع ضيقة وكثيرة الحفر، في الأغلب الأعم منها، وعلى جانبيها الأشجار الباسقة، والناس في هذا الازدحام يبدون أشباه بشر، كأنما يخرجون من عصور قديمة، والمحلات التجارية معظم واجهاتها لا تغريك، وتشكك بنظافة وقيمة أي شيء تراه أو تفكر في شرائه.
فيKolkata زرت المتحف الشعبي. حيث الروح الشعبية في تماثيل، وتقاليد، وصناعات ذات مدلول ديني أو اجتماعي بسيط جدا، مصنعة من الخشب والحجر والطين والقماش. ففي البنغال روح شعبية بسيطة. وفي المتحف الوطني مررت بتماثيل "لبودها Boudha"، تماثيل من البرونز والمعادن الأخرى والخشب، تعود إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وتتسلسل من بعد ذلك الزمن حتى عصور متأخرة، وتبدوا متأثرة بفنون بعض الحضارات الأخرى الفارسية والفرعونية، وحتى بعصور إسلامية، مما وصل إلى الهند أو تواصل معه الهنود من تأثير حضاري. وكان اللافت الحالات والتحولات التي قدَّم فيها الفنانون" بودها"، من التجسد الغريزي إلى النرفانا التامة. وتولت لي الشرح هناك ثلاثة من السيدات المعنيات بالمتحف وعصوره، وبدت لي محبتهن لتراثهن، وتقديرهن الكبير لما تركته الأيدي الفنية البارعة من إنتاج فني وذاك اعتزاز مشروع نفتقده.
ومما وقفت عليه، في قاعة الصور والرسوم في المتحف، بعض الصور لهمايون، وجيهان شاه، وسواهما من ملوك العصر المغولي، وبعض اللوحات المتأثرة بالفن الفارسي ـــ الإسلامي، وبعض لوحات رابندرانات طاغور، وأحد أقاربه الذين اشتهروا بالرسم Apendranat Tagor. وكانت الألوان الفاتحة الزاهية، والزخرفة، ودخول "النمنمة"في تفاصيل شغل الفنانين لافتة للنظر، في لوحات المتحف بشكل عام.
في ليل كلكتا ذاك، صادف أن كان الهنود يحتفلون بعيد الإلهة السوداء كالي.. كانت الموسيقا الملائمة لذلك العيد، تنبعث من الفندق، وتصل إلى الغرف. عيد كالي، هو فيما بدا لي، عيد والي ذاته الذي يُعد أكبر أعياد الهنود، وهم يحتفلون به في كل أنحاء الهند.
تبدو كالي ببشرة سوداء، وتمثالها مزيَّن بالكثير من الأشياء التي تحيط وجهها ورأسها بما يشبه التيجان، وتبدو في أكثر الحالات، واضعة قدمها فوق جسد تمثال آخر، قد يكون حالة من تجليات شِيفا. في مهرجان كالي، كل بيت في المدينة يصنع قماشة أو سجادة دائرية الشكل، مزينة بقطع من النقود والمرايا الصغيرة، وحولها قناديل من "زيت وفتيل من القطن"، وهناك تماثيل مزينة لكالي السوداء، وقدمها فوق جسد شيفا.
في الفجر، عبر ضباب يلف المدينة وشوارعها، أوصلتني سيارة "جيب"إلى المطار، وأخذت أستعد لرحلة العودة إلى نيودلهي. وفي فندق Nikko تنفست الصعداء: النظافة مضمونة أكثر، وسَفَر العودة القريب يشرق كبدر في تمامه، وها هي ساعات متاحة للتجول في المدينة بحرية. مساء، لم تهدأ مدينة دلهي، فالعيد الأكبر لدى الهند، وعيد والي أو عيد كالي في البنغال، شغل الناس. المفرقعات ملء فضاء المدينة. طوال الوقت، وتماثيل أو أمكنة طقوس كالي، منتشرة فيها، وازدحام الناس وصخبهم، لا يدع مجالا لرؤية ما يُمتع.. مضى الليل أو كاد، وكان الطريق إلى دمشق مضيئا، على الرغم من طيران الليل، عبر دبي.