تحت شعار "عودة إلى الإنسانية"

سلطت الملتقيات الفنية التي تعنى بالممارسة التشكيلية اليوم الضوء أكثر على نشر الثقافة البصرية وإعطاء الآثار الفنية التشكيلية أبعادا جديدة، حيث ساهمت في خروجها من قاعات العرض وتفاعلها مع بقية أنواع الفنون، كما شجعت على الإقبال عليها وأسست آليات ومعايير تذوقها ومتابعة مختلف تجلياتها، وهنا أنا أتحدث عن الملتقيات الجادة والملتزمة تجاه المجتمع وخدمة الفن وإعطاء الفنان المكانة التي يستحقها وتسهيل مهمته تجاه الجماهير.
ولعل ملتقى عمان عربيا في دورته الثانية والذي جاء تحت شعار "العودة إلى الإنسانية برعاية الأميرة وجدان الهاشمي والذي تنظمه جمعية بقاء للثقافة والفنون، وبالرغم من أنه لا يزال في بداياته يمكننا أن نعتبره محاولة جادة ضمن هذا الإطار، لأنه وببساطة عمل منذ الدورة الأولى على تأسيس برنامج واضح المعالم ولم ينخرط كالكثير من الملتقيات الفنية في سياق ما أعتبره المتاجرة بالفن والفنانين.
فقد كان الهدف واضحا منذ البداية وهو تأسيس تظاهرة فنية سنوية تكون ملتزمة تجاه المجتمع بمختلف شرائحه، ولعل التطور الذي شهده برنامج الدورة الثانية مقارنة بالدورة الأولى يفسر هذا الإصرار على نوعية المحتوى، بما أن القائمين على الملتقى عملوا على مخاطبة الجمهور من خلال المزاوجة والمراوحة بين الفنون فضم البرنامج إضافة إلى ورش الرسم عروضا مسرحية وأخرى موسيقية توزعت على مختلف محافظات المملكة.
حيث شهدت حدائق الحسين ورش الرسم التي أثثها مجموعة من الرسامون القادمون من مختلف الدول العربية ليساهموا من خلال خبراتهم وتجاربهم في خلق حوار بصري جمالي وفكري مع الجمهور الذي تفاعل معهم بمختلف شرائحه إما بالرسم أو بطرح الأسئلة وفتح باب الحوار حول هذه الممارسات التي لا تزال عصية على الفهم العامي نوعا ما.
فكان حضور كل من عبد الرسول سلمان من الكويت، محمد بوكرش وحمزة بونوة من الجزائر، علي رشيد من العراق، حمادي بن نية ومنال بلقاسم من تونس، وائل درويش من مصر، هنادي درويش من قطر، غادة الحسن من السعودية، نعمت الناصر ورسمي جراح وكمال عريقات وفاروق لمبز وديانا شمعونكي من الأردن، يختزل رؤيتهم للواقع وتطلعاتهم ويترجم خبراتهم، فتنوعت المواضيع وآليات الاشتغال من فنان لآخر حيث حاول كل من حمادي بن نية ومنال بلقاسم ترويض الخردة لإبداع مجسمات نحتية بالمعادن اختزلت جماليات الجسد الأدمي والحيواني في مجموعة من الخطوط والكتل التي يتدخل الفراغ في كل مرة بين هياكلها ليتمم حضورها أو ليخلق ذلك الحوار الجمالي بينها وبين الفضاء، كما جاءت أعمال كل من فاروق لمبز ووائل درويش وعبد الرسول سلمان ونعمت الناصر وحمزة بونوة محتفية بحضور جسم الإنسان كموضوع رئيسي من خلال تجريد حضوره جزئيا حيث وقعت معالجته بأساليب وآليات اشتغال مختلفة من عمل لآخر، من حيث نوعية الخطوط والتركيب واختيار الألوان وتقنيات توزيعها، فجاءت محكمة البناء والتكوين تارة وتلقائية وعفوية أحيانا أخرى، أو كاريكاتورية ساخرة أيضا، أما كمال عريقات وهنادي درويش ورسمي جراح وديانا شمعونكي ومحمد بوكرش وعلي رشيد فجاءت توجهاتهم تجريدية بامتياز حيث الاحتفاء بالبناء عن طريق قوة حضور اللون والخط والخامة والنص، فكانت المعالجة اما بتقنية الكولاج أو الرسم أين تعانقت اللمسات واللطخات والخامات والخطوط لتزيد من شحن جماليات الفضاء التصويري، وقوة المفهوم في صياغة الأثر الفني وتفتح أفق تأويله على مصراعيها لدى الجمهور.
ومثلما تواصل الفنانون مع الجمهور أثناء إنجاز أعمالهم الفنية فقد أشرفوا على تأطير ورشات رسم وصلصال لصالح طلبة كليات الفنون من مختلف الجامعات في المملكة وتلاميذ المدارس من ثمة فتح باب الحوار حول الأعمال المنجزة للتواصل وتبادل الخبرات والاستفادة من التجارب المشاركة في المهرجان.
اضافة الى الفن التشكيلي شهد الملتقى كذلك احتفاء بفن المسرح من خلال عروض قسم الدمى بمسرح نعم (فلسطين) من خلال مسرحية "علي بابا والأربعين حرامي" التي جابت عدة محافظات وقدمت ستة عروض على مسارح مادبا، المفرق، اربد، عجلون، الزرقاء وجرش تفاعل معها الأطفال كما أثثت ورشة لتصنيع الدمى شارك بها عدد كبير جدا من الأطفال والجمهور الحاضر. هذا بالإضافة الى عرض الحكواتية الاخوين ابو سليم من الاردن واللذان أثثا من خلال عروضهما القويسمية والاشرفية وحديقة الحدادة وحدائق الحسين كمقر رئيسي لفعاليات الملتقى.
أما العروض الموسيقية فقد أثثتها فرقتا"حرقة كرت" و"جيتاناي" بفضاء حدائق الحسين المفتوحة مجانا للجمهور طيلة أيام الملتقى لمصافحة كل العروض ومتابعة كل الورش والتفاعل معها.
وبعد افتتاح المعرض الفني الذي شمل الاعمال الفنية المنجزة خلال الملتقى احتضن متحف عمان للفنون المعاصرة محاضرتان نقديتان لكل من الفنان العراقي علي رشيد حول الفن المعاصر، وأخرى حول كيفية اختراع الارقام وتصحيحها كنموذج للانتقال من الواقع الى التجريد في الفن المعاصر للفنان الجزائري محمد بوكرش وقد أدار الجلسة الحوارية الفنان الاردني جراح رسمي.
تجدر الاشارة في النهاية الى المجهودات المبذولة من جميع الاطراف المنظمة للملتقى رغم الصعوبات المالية وعلى رأسهم مديرة الجمعية الفنانة الشابة نسرين صبح التي تسعى جاهدة الى بناء صرح ثقافي يكون النصيب الاكبر في تشييده للطاقات الشابة من حيث البناء والتلقي، حيث تمكنت من خلال اصرارها على توحيد القطاعين العام والخاص لرعاية هذه المحاولة الجادة والجريئة، فضمت جهود وزارة الثقافة وأمانة عمان ومؤسسة شومان وفندق سدين ومدارس الجودة الامريكية وجاليري نبض وجاليري كريم والكسيح والسيفوري وشاهين اخوان. إضافة الى العمل على التغطية الاعلامية ليحظى الملتقى بالدعاية التي يستحقها لتشجيع الجمهور على الاقبال عليه من خلال تغطية فورية ومتواصلة ويومية طيلة مدته. ضمنت رعاية كل من جريدة الرأي والتلفزيون الاردني وقناة رؤيا وراديو هلا والشبكة العربية للأخبار وكذلك مجلة عرجان الفوتوغرفية جيران ومجلة ليالينا.
هذا الملتقى الجاد من حيث برنامجه وآليات اشتغاله وحسن تنظيمه قادر على التطور من سنة الى اخرى بفضل مجهودات القائمين عليه الواضحة من خلال الاعلاء من شأن الفنان ووضعه في المكانة التي يستحقها، وكذلك التنويع في محتواه وحث الجمهور على التواجد والتفاعل من خلال خروج الممارسة الفنية بمختلف تجلياتها الى الفضاءات المفتوحة. مواكبة الجمهور لهذا الاختلاف وملامسته للتنوع من شأنه أن يساهم في بناء ثقافة بصرية جديدة تساهم بدورها في التأثير على فكر الناشئة وبالتالي صياغة رؤى وتحولات جديدة شيئا فشيئا في صلب هذا المجتمع المنفتح والذي تنقصه مبادرات من هذا النوع.

دلال صماري
باحثة وتشكيلية تونسية