[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
في هذه المسرحية يلتقي جان آنوي مع كاتب إسباني هو أليخاندرو كاسونا، في مسرحيته "الأشجار تموت واقفة". يلتقيان في بعض جوانب الموضوع، وصياغة الحدث، وتوظيف الحلم والوهم، لصنع السعادة التي قد لا تساعد الوقائع الحياتية على تقديمها، ويمكن خلقها وتقديمها بجهد إنساني، يصنع الوهم ويغذيه.. حوادث متشابهة إلى حد ما في الأشجار وليوكاديا، تجعلنا نتساءل من منهم تأثر بالآخر، أو بأي مصدر تأثر الاثنان.؟!

جان آنوي "جان ماري لوسيان بيير أنويه بالفرنسية: Jean Marie Lucien Pierre Anouilh - " ٢٣ تموز/يوليو ١٩١٠ - ٣ تشرين أول/أكتوبر ١٩٨٧"، ولد في قرية سيريسول، Cérisole بضواحي مدينة بوردو. وهو وأسلافه من الباسكيين. كاتب مسرحي فرنسي، من كتاب المسرح المعاصرين، عرفه العالم، وتُرجم إنتاجه الغزير إلى أكثر من لغة حية. وقراء العربية يعرفون عنه الكثير، من دون شك. فقد ترجمت معظم أعماله إلى لغتنا، كما أن مشاهدي مسارحنا، ومنهم مشاهدي القومي في سوريا، شاهدوا لأنوي بعض الأعمال مثل مسرحية "أنتيجون".
كان أبوه خياطًا، وأمه عازفة كمان، تزوج مرتين من ممثلتين، ولم يتوافق مع سياسة الجنرال ديجول، فاصطدم معه في خمسينيات القرن العشرين. وتبقى حياته الخاصة غامضة نسبيًّا، مما لا يتيح لأحد دراسة إنتاجه من خلال إسقاطات على حياته. "وآنوي يؤكد أن معظم موضوعاته مستقاة بشكل أو بآخر من حياته، ويقول في هذا الصدد: "إنني أقوم بصناعة فصول مسرحياتي كما يصنع الآخرون الكراسي، لكن القصة هي حياتي، وطالما أن السماء تريد أن تكون لي حياة، أي قصة حياة، فإنني أحتفظ بتفاصيلها لنفسي، لذلك ربما أقول ليست لي سيرة حياة، ولذلك فإنني سعيد بهذا الأمر".
إن نبع الإنتاج الإبداعي لدى الكاتب هو في الأساس حياته ومعاناته وتجاربه، ويختلف عن سواه من الكتاب بأسلوب التناول، وتركيز الحدث والرؤية والمعالجة. وآنوي في هذا المجال واسع الرؤية، عميق الملاحظة دقيقها، يستفيد من زوايا مختلفة في حياته ومشاهداته، ولكنه يستطيع دائمًا أن يكون عظيم الإنتاج، متفوقًا.
لآنوي إنتاج مسرحي غزير، وأذكر من مسرحياته: (مسافر بلا متاع ـ المتوحشة ـ القبّرة ـ بيتوس المسكين ـ بيكيت أو شرف الله ـ كان هناك سجين ـ موعد سنليس ـ حفلة اللصوص الراقصة ـ ميديه Medee أرديل ـ رقصة مصارعي الثيران ـ اورنيفل Ornifle ـ مدرسة الآباء ـ عشاء الرؤوس ـ العاشق الأحمق ـ ضبط السرقة ـ أنتيجون ـ ليوكيديا... وسوى ذلك.
وقد تأثر بقراءاته، وبالأساتذة الذين عمل معهم وتتلمذ عليهم، وبأصدقائه من الكتاب والفنانين. فقد عمل سكرتيرًا عند المخرج الفرنسي لوي جوفيه Louis Jouvet وتأثر بجان جيرودو، وجورج بيتوئف، وجان كوكتو، وتعاون معهم، وقرأ شكسبير وبيراندللو ـ وبرنارد شوـ وبيكيت ـ وسواهم ـ ونرى بعض لمسات تأثره بهم في إنتاجه.
قال بول سورر Pouil Surer فيه "بالرغم من أن جان آنوي يعد من أعظم كتاب المسرح الفرنسي الذين يمثلون مسرح العنف أصدق تمثيل، في فترة ما بين الحربين، من أمثال هنري رينيه لونورمان ـ وبول رينال Paul Raynal وستيف باسور، إلا أن جان أنوي ينفرد بقريحة فريدة من نوعها، وعبقرية أصيلة متعمقة في فن المسرح، تميزه عن بقية الآخرين، بشكل واضح". والواقع أن مرحلة من مراحل إنتاج آنوي، قد تندرج تحت هذا العنوان "مسرح العنف"، إلا أننا لا يمكن أن نعتبر إنتاج آنوي كله، معبرًا عن مثل هذا النوع من المسرح، فإنتاجه متنوع عميق كثير الأبعاد، وتعدد الأساليب.
وآنوي يركز على إظهار سيطرة الماضي على شخصياته، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في مسرحيته المتوحشة. وسأتوقف هنا مع مسرحيتيه: أنتيجون، وليوكيديا.
مسرحية "أنتيجون" الأصلية، كتبها الشاعر اليوناني سوفولكيس، ولكن الكتاب المسرحيين، وفي فرنسا خاصة، كثيرًا ما أخذوا المواضيع اليونانية وأعادوا كتابتها، رامين إلى إبراز تفسير جديد لمواقف الشخصيات، أو مستفيدين من الموضوع القديم، ليسبغوا عليه نفَسًا عصريًّا، وروحًا جديدًا، مظهرين فلسفتهم في كثير من الأحيان. فعل ذلك جان راسي، كما فعله كل من سارتر، وكامي، وأندريه جيد، وجان آنوي، وآخرون.
ومسرحية "أنتيجون" معروفةُ القصة، فقد اختصم ولدا أوديب، بولينيس وإيتيوكلس، بعد وفاته، على من منهما يتولى الحكم. ولم تنجح مساعي الموفقين بينهما، وخاب كريون خالُهما في الوساطة أيضًا، في حين كان يتولى أمر الدولة وصيًّا، ريثما يبلغا السن المحددة. وعندما وصلت خلافاتهما إلى حد كبير، غادر بولينيس أثينا، وبقي فيها اتيوكليس، وقد تولى الحكم أو شارف على أن يفعل ذلك، فجمع بولينيس جيوشًا من سبع مقاطعات تحيط بأثينا، وهاجم المدينة. وحول أسوارها قَتَل كلٌّ من بولينيس وإتيوكليس الآخر، بطعنتين أتيتا في وقت واحد. وتولى الحكم بعدهما، بصورة تامة، خالُهما كريون. ولكي يرضى الناس، ويعاقب الشرير، وينصِّب أمام الناس بطلًا تعتز به أثينا، وشريرًا تحتقره، اعتبر بولينيس الذي هاجم المدينة، شريرًا واحتقره، وألقى جثته للنسور الجارحة، دون دفن أو صلاة، وحذَّر من دفنه.
وعزَّ على أنتيجون، ابنة أوديب، أختهما، أن ترى أخاها بولينيس ملقى في العراء، فقررت، وهي الرقيقة، أن تقوم بدفنه، كي تسكن روحه وتعود إلى هادس "عالَم الأموات"، كما كان يعتقد اليونان القدماء ـ ولكن هل تثور أنتيجون وتتحدى أوامر كريون وتعليماته التي أصدرها الناس... لقد أنذر كريون كل من يحاول أن يدفن بولينس بالإعدام، ووضع حراسًا حول الجثة، وقرر أن يبقيها في العراء شهرًا، حتى ينصاع له الناس، ويحترموا القانون، ويهابوا سلطة الحاكم. ولكن أنتيجون ليست ممن يهابون الموت والحاكم... لقد خُلِقت لتموت، ولتواجه مصيرها بجرأة وشجاعة. وقررت الصبية الرقيقة السمراء، أن تدفن أخاها مهما كان الأمر، متحدية قوانين الدولة، وسلطة خالها. وقدَّرت مسبقًا أن النتائج قد تكون وخيمة، وأنها ربما أُعدِمت، ولم يتح لها أن تصبح ربة بيت، وأن تتزوج خطيبها هيمون، ابن كريون. وفكرت في صباها الغض، وفي ثياب العرس، وزينة الفتاة العروس.. ولكن كل أحلام السعادة، وحياة الدّعة، كانت تنهار أمامها، حينما تتصور أن جثة أخيها لا تزال في العراء، نهبًا لجوارح الطير، وأن روحه تهيم متألمة مشردة، لا تستطيع أن تستقر.
وعرضت أنتيجون على أختها "اسمين"، أن تذهب معها لتدفنا أخاهما، ولتقوما بالواجب نحو الميت. لكن اسمين جبُنت، فقررت أنتيجون أن تقوم وحدها بالمهمة، ولذا ودعت حبيبها هيمون وداعًا غامضًا، أحس بغرابته، ولم يفهم ما ينطوي عليه، وتسللت من فراشها قبيل الفجر، وغافلت الحراس، وهالت على جثة بولينيس التراب، وعادت متعبة غير هيابة ولا وجلة. عادت، وروح التصميم ينفر من عينيها، وعندما استقبلتها مربيتها باللوم، لأنها غادرت الفراش، واتهمتها باتهامات شتى، لم تكن تملك إلا ابتسامة ساخرة واثقة. ويأتي أحد الحراس ليخبر كريون بما حدث، فيعتقد كريون أن المناوئين لسياسته، هم الذين قاموا بهذا العمل، وأنهم تحدوه، فتثور ثائرته، ويأمر الحرس بكشف الجثّة، وبمزيد من اليقظة، وبكتمان ما الأمر الذي حدث.
وتعود أنتيجون في رابعة النهار، لتدفن أخاها مرة أخرى، بعد أن عراه الحراس، وعندها يقبضون عليها، ويأتون بها أسيرة إلى الملك كريون. ويفاجأ الأخير بالفاعل.. إنها ابنة أخته، وخطيبة ابنه، إنها الفتاة الصغيرة السمراء أنتيجون، التي تحدت أمره، وخالفت قوانين البلاد. فيحاول في البداية أن يُخفي الموضوع، وينصحها بأن تكفّ عن هذا الأمر، مداعبًا إياها بكلمات أبٍ، ينظر إلى فعل أتاه صبي عزيز عليه. ولكنه يفاجأ بشخصية كبيرة تقف أمامه.. شخصية تحتقره بنظراتها، وتزدري دوره الذي يقوم به في الحياة.. فتاة تزدري الموت، وتملك كبرياء أوديب، الذي يواجه الحقيقة، ويبحث عنها غير هياب ولا وجل من النتائج التي قد تترتب على مواجهة الحقيقة وظهورها، والإصرار على الوصول إليها، مهما كان الثمن.
ويعود كريون إلى حِلْمِ الأب، وحكمة الحاكم والناصح، فيقول لها:
"كريون: إنني خالك، هذا مفهوم، ولكننا لسنا متحابين، نحن أبناء هذه الأسرة، ومع كل ذلك.. ألا يبدو لك غريبًا، أن هذا الملك الذي تسخرين منه ويصغي إليك، هذا الرجل العجوز الذي يستطيع كل شيء، والذي رأى الكثيرين يُقتَلون، وأؤكد لك أنهم أكثر إثارة للشفقة والحنوّ منك.. ومع ذلك، فهو نفسه يجهد ما وسعه الجهد، أن يحول بينك وبين الموت. لا أريد أن أتركك تموتين في مسألة سياسية. أنت تساوين أكثر من ذلك، لأن بولينيس، هذا الشبح المبكي عليه، وهذا الجسم الذي يتحلل بين حراسه، وكل هذه الفاجعة التي تلهبك.. ليست إلا مسألة سياسية".
وعبثًا يحاول كريون أن يقنع الفتاة، فهي مصممة على العناد، ومصرة على أن تعود وتدفن أخاها، كلما كُشِف عنه التراب، متمادية في تحدي أوامر الدولة. وكريون يريد أن يحافظ على هيبة الدولة، وسط هذا الخضم من الفوضى، إنه قال نعم، وتولى مقاليد الأمر، ولم يعد من السهل عليه أن يتراجع. ولذا فهو يقول لها:
" كريون: ـ حاولي أن تفهمي لحظة، أيتها البلهاء الصغيرة، لقد حاولت كثيرًا أن أفهمك أنا، يجب مع ذلك أن يوجد من يقول نعم، يجب مع ذلك أن يوجد من يقود السفينة.. فالسفينة تأخذ الماء من كل ناحية، إنها مليئة بالجرائم.. بالحماقات.. بالبؤس. وها هي الدفة تهتز دون ضابط، ولا يريد البحارة أن يفعلوا شيئًا، لا يفكرون إلا في نهب المخازن. وهاهم الضباط يصنعون لأنفسهم طودًا صغيرًا مريحًا، لهم وحدهم، وبه كل المؤن اللازمة والماء العذب، حتى ينجو بجلدهم، والصاري ينشق وينكسر، والريح تهب، والأشرعة سوف تتمزق، وسوف تهلك كل تلك الحيوانات معًا، لأنهم لا يفكرون إلا في إنقاذ جلدهم الغالي، وشؤونهم الصغيرة. سهل أن يقول المرء لا... أمّا أن نقول نعم، فيجب أن نتصبب عرقًا، وأن نشمِّر عن ساعدنا، وأن نقبض على الحياة بملء يدينا، وأن نغرق فيها حتى المرفق.. سهل أن نقول لا، ولو تحتم أن نموت، فليس علينا إلا أن نخلد إلى السكون، وأن ننتظر، ننتظر لكي نعيش، بل وننتظر لكي يقتلونا، هذا إسراف في الجُبن.. إنه من اختراع الإنسان وحده".
وعبثًا أيضًا يحاول كريون إقناع أنتيجون بالصمت وقبول الحياة كما هي، وبإطاعة القوانين، والتراجع عن التحدي. ويفلت منه الزمام عندما يسمع الناس القصة، فيأمر بأخذ الفتاة إلى مغارة لدفنها فيها حيّة. ويدخل ابنه هيمون متوسلًا، طالبًا العفو من أبيه عنها، ولكن كريون يقف أمام اختيار صعب جدًّا، فإمّا أن يختار العدالة متمثلة في تطبيق القانون الذي سنه، ويجب أن يطبقه على كل من يخالف، مهما كانت درجة قرابته منه، وبذلك يضبط أمور الدولة، ويحسن تسيير الأمور، وإمّا أن يسير وراء عواطفه، ويداري أقرباءه، فتسقط هيبة الدولة.
ويصمم كريون على تطبيق القانون، ولكنه يدفع ثمن ذلك غاليًا. لقد دُفِنت أنتيجون حية، ولكن ابنه هيمون كان معها جثة هامدة، في عناق أبدي، في حفل زفاف غريب؟! ونقل الخبر إليه، فهرع لينقذ ما يمكن إنقاذه، ولكنه يصل بعد فوات الأوان.. ويجلس بمواجهة الرزايا التي ألمت به!؟.. فماذا يفعل... إنه يخاطب الصبي الذي يسير معه دائمًا، بقوله: "إننا نواجه المهمة... ولا يستطيع المرء، مع ذلك، أن يعقد ذراعيه ويقف مكتوف اليدين. يقولون إنها شغلة قذرة... ولكن إذا لم يقم بها أحد، فمن يقوم بها؟!".
إذن من السهل أن نقول لا، ونتخلى، ولكن الصعب أن نقول نعم، ونتحمل النتائج، ونواجه الحياة بكل معطياتها، وبكل ما ينتج عن تلك المواجهة.
إن آخر ما يقوم به كريون من عمل، هو أن يذهب إلى الجلسة المقررة لتسيير أمور الدولة، وهو بذلك يستمر في تحمل المسؤولية.
هكذا أراد آنوي أن يقول، من إعادته كتابة هذه المسرحية الجيدة. وهكذا طرح فيها فكرًا عصريًّا، وجعل شخصياتها الأسطورية القديمة، تتصرف تصرفات عصرية، وتلبس الملابس العصرية، وقدم من خلال الإطار القديم، صورة لعصرنا وأموره. وأنتيجون آنوي، مسرحية من أجود المسرحيات، في بنائها، وفي مضمونها، وعمق حوارها، ووضوح هدفها. وهي تستحق كل عناية واهتمام.
ليوكاديا:
نحن في قصر فخم، على مقربة من باريس. وللقصر حديقة واسعة جدًّا، أقيمت فيها مبانٍ صغيرة، مثل محل لبيع المرطبات، وملهى ليلي، ومقهى، ونُصِبت فيها بعض مقاعد الحدائق العامة. كل ذلك، في محاولة من صاحبة القصر، وهي عجوز غيرت أكثر من زوج، وتعيش على الخيال فترات طويلة.. في محاولة منها، لخلق جو شبيه بذلك الجو الذي تعرف فيه الأمير ألبير حفيدُها، على مغنية مشهورة، لم تلبث أن توفيت بعد ثلاثة أيام فقط من ذلك التعارف، الذي أدى إلى قصة حب، يُراد لها أن تعيش، رغم موت أحد أطرافها.
لقد قامت العجوز ببناء الأماكن التي تعارفا فيها، واستأجرت الخدم أنفسهم، والفرقة الموسيقية في الملهى وأقامت بعض التمثيل، بوسيلة بسيطة، وأحضرت صاحب سيارة الأجرة التي ركباها، مع سيارته، وكذلك صاحب محل مرطبات اشتريا من عنده، وأقامت حول الأمير ألبير مدينة الذكريات بكاملها، ليستعيد لحظات حبه، ويبقى في محيط الذكرى ليتعزّى عن فقد من أحب.
وحين تكتمل الحكاية، قامت العجوز بمجهود لفصل عاملة بسيطة، تعمل خياطة في محل أزياء، قامت بفصلها من عملها، وأعلنت عن وظيفة استقدمتها لملئها، وذلك لأن الفتاة تشبه المرأة المغنية التي أحبها الأمير. وفي بداية أحداث المسرحية نجد أنفسنا بمواجهة الفتاة المسكينة، التي قدمت من باريس لتبحث عن عمل، وقد وقعت بين يدي العجوز، التي أخذت تروح وتجيء ضائعة بين فرحها وأسرارها وخطتها، لا تعرف كيف تبدأ الموضوع، ولا كيف تخرج منه، ولكنها تنجح في أن تضع الفتاة في دوامة من الذعر، لأنها كانت تبدي إعجابًا ودهشة بها، وتضفي حولها جوًّا من السرية، ولا تصارحها بما تريده منها، حتى أن الفتاة فزعت واعتقدت أنها في كمين نُصب لها، فهربت عبر الحديقة، ولكن الحديقة لا نهاية لها، لقد سقطت في الطريق، وتعرفت هناك على بعض الشخصيات التي وُظّفت مثلها لخلق الجو، تعرفت على سائق السيارة، وعلى بائع المرطبات. وهناك لحقت بها العجوز وصارحتها بما تريده منها.
وبعد جهد، وافقت الفتاة على الدخول في اللعبة، وقابلت الأمير، وصارحته بما طُلب إليها، وبما استؤجرت له، وقررا، بالاتفاق والتفاهم، أن يقضيا معًا أيامًا ثلاثة، يختبران على أثرها الوضع، هي تمثل دور المغنية ليوكاديا، وهو يستعيد ذكرياته ويعيشها من جديد، لعله يتوافق معها وتتوافق معه.
وتأتي لحظة تضجر فيها الفتاة من تمثيل دورها، وتمج اللعبة كلها، رافضة كل ما يُقدم لها من مال ورفاه، فتقول للأمير الذي يعيش أحلامًا سقيمة، وولهًا مصطنَعًا، وخيالًا لا يمت لجمال الخيال بصلة، تقول له، بكبريائها الذي لم يفارقها:
"أسألك المعذرة من الألم الذي سوف أسببه لك، ولكن يبدو لي أن شجن الحب شيء من الجمال ومن الروعة، بحيث لا يحق للمرء أن يبدده هكذا. سوف تمقتني، ومن المحتمل أن تطردني، ولكنني سأعود إلى باريس أقل حزنًا، إذا قلت لك رأيي أنها لم تكن تحبك يا سيدي، وليس هذا شيئًا، بل إنه لا يمنع شيئًا. فالمرء يمكن أن يمنح كل الحب، من غير أن يأخذ شيئًا، ثم إنني واثقة من أنك في قرارة نفسك، كنت تعلم أنها لم تحبك حقًّا. ولدي شيء آخر أشد خطورة، أريد أن أذكره لك قبل أن أذهب، لكي أحيك قبعاتي.. وهو أنك شاب غني جميل جذاب، ويداك ليستا خشنتين، ويجب أن تحاول أن تعيش، وأن تكون سعيدًا، وأن تنسى حالًا هذه القصة.. لأنني أعتقد جيدًا أنك لم تحبها أنت الآخر يا سيدي...".
بعد ذلك تغادر الفتاة القصر من باب الحديقة، ولكنها ترتمي على مقربة من مقعد، وتنام هناك من الإرهاق، أما الأمير فينام على كرسيه في المقهى الليلي الذي أقيم في القصر.. وفي الصباح التالي تعود الفتاة للأمير، ويعود إليها، وقد اكتشفا أنهما تقاربا أكثر، ونشأ بينهما هما حب، بعد أن ماتت ليوكاديا نهائيًّا كذكرى وكوهم، ووجد الأمير نفسه أمام حقيقة حياتية مجسدة في الفتاة أماندا التي جردته من وهمه، وخرجت هي من دائرة الوهم، وأحست كما أحس، بأن الحياة والحب ولدا على نحو جديد، بين فتاة بسيطة وشاب رقيق. فتاة ليس لها طعم الملاهي الليلية، ولا تملك مالًا، أو رقّة متكلفة، ولم تصنعها على نحو ما حذلقةٌ في اللفظ أو الحركة.. وشاب غني، عاش فترة من عمره دمية مصطنعة، محاطًا بعناية فائقة، باعدت بينه وبين وقائع الحياة ومجرياتها، وجعلته أقرب إلى مرضى الوهم.
وعند هذه الحدود، مقاربة زوال الوهم والأحلام، وانكشاف وقائع الحياة، بصلابتها، وبشَريّتها، وقوتها، يتركنا جان آنوي، بعد رحلة جذابة.
في هذه المسرحية يلتقي جان آنوي مع كاتب إسباني هو أليخاندرو كاسونا، في مسرحيته "الأشجار تموت واقفة". يلتقيان في بعض جوانب الموضوع، وصياغة الحدث، وتوظيف الحلم والوهم، لصنع السعادة التي قد لا تساعد الوقائع الحياتية على تقديمها، ويمكن خلقها وتقديمها بجهد إنساني، يصنع الوهم ويغذيه.. حوادث متشابهة إلى حد ما في الأشجار وليوكاديا، تجعلنا نتساءل من منهم تأثر بالآخر، أو بأي مصدر تأثر الاثنان.؟!
أمَّا لويجي بيرانديللو، الذي يمزج حقائق الوهم بحقائق الواقع، ويجعل للوهم دورًا وسلطانًا يكون بقوة الوقائع، إذا أراد الإنسان أن يغذيه ويقبل به، ويقبل عليه.. فإنه يكاد يقدم لكاتبنا، أو يوحي إليه بالفكرة العامة، وبشيء من المضمون، حين نكون أمام تشابه تركيبة أجزاء من الحدث، وهي عملية لافتة للنظر.
اللغة في مسرحية ليوكيديا جيدة، والحوار سلس، ولكنه لا يحمل مضمونًا عميقًا، شأن حوار آنوي في مسرحيات أخرى مثل أنتيجون، وليوكاديا.