ما المقصود بالجمال؟ وما المقصود بالحقيقة؟ وهل أن الجمال الفني جمال عاكس للحقيقة ومصور لها بوفاء ودقة أم هو مجال يحرف الحقيقة ويحرف الواقع ويتلاعب بقواعد العقل والمنطق؟.
هل الفن مجال لإنتاج الحقيقة ام مجال لإنتاج الوهم؟.
هل يعيد الفنان انتاج الواقع كما هو أم يحرف شكله ويتلاعب بمكوناته وبنيته؟ واذا سلمنا بالعد الذاتي كبعد مؤسس للتجربة الفنية فهل ان هذه الذاتية الفنية في تناقض مع مطلب الموضوعية بما يقتضيه من نقل وفي لمعطيات الواقع؟ أليس في ذاتية الفن دليلا على ابتعاده عن الحقيقة؟
ألم يعودنا العلم على ان الذاتية هي العدو الأشد للحقيقة العلمية، الا تشترط الموضوعية التزاما بالواقع كما هو ونقلا وفيا لمعطياته دون تحريف من الذات لهذه المعطيات؟.
تطرح قضية العلاقة بين الجمال والحقيقة في مستوى أول من خلال علاقة الجمال الفني بالواقع فالبعض يرى أن الفن قادر على تصوير الواقع كما هو والبعض الآخر يشكك في هذه القدرة، والبعض الآخر يرى ان الفن لا يكون فنا الا اذا التزم بالواقع في حين يرى اخرون ان الفنان يجب ان يتحرر من سلطة الواقع وأن يتحرك في فضاءات خيالية.
دافع ارسطو على نظرية المحاكاة واعتبر أن الفن يعيد إنتاج الواقع كما هو دون تحريف وهو ما يكسب الفن بعده الحقيقي وفي تأكيد الطابع المحاكي للفن يقول أرسطو"يبدو أن الشعر نشأ عن سببين، كلاهما طبيعي، فالمحاكاة غريزية في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة … وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ، لا للفلاسفة وحدهم، بل وأيضا لسائر الناس. فنحن نسر برؤية الصور لأ ننا نفيد من مشاهدتها علما ونستنبط ما تدل عليه،كأن نقول إن هذه الصورة صورة فلان" فليس الشعر محاكاة فقط للاشياء والكائنات بل هو ايضا محاكاة لأفعال البشر، فالشعراء مثلا ذوو النفس النبيلة يحاكون في شعرهم أفعال النبلاء والعظام والفضلاء لذلك يكون شعرهم مدحا، أما الشعراء ذوو النفوس الخسيسة فإنهم يحاكون في أفعالهم افعال الوضعاء لذلك كل شعرهم هجاء. كما ذهب روسو نفس المذهب فقد إعتبر ان مهمة الفنان هي نقل حقيقة الواقع"العمل الفني هو بمثابة مراة يمسك بها الفنان حتى يتيح للطبيعة أن ترى صورتها وقد انعكست على صفحته(العمل الفني)"، كما ايد ليوناردي فنشي فكرة الفن المحاكي للطبيعة حيث يقول " سيكون فكر الرسام بمثابة المراة التي تأخذ دوما لون الشيء المنعكس وتتضمن صورا بقدر ما توجد أشياء موضوعية أمامها" وقال أيضا في تشجيعه على إعتماد الطبيعة كمرجع في الانتاج الفني"لتعلم أيها الرسام أنك لا تستطيع تحقيق الامتياز ان لم تكن تملك تلك القدرة الكلية على أن تمثل بفنك كل أشكال التنوع التي تنتجها الطبيعة" ومن هذا المنطلق يدعو ديفنشي الفنانين الى تركيز الانتباه على مختلف الاشياء والتقاط جميع التفاصيل الدقيقة والجزئيات الشاردة، ويرفض جنوح الفن كليا الى الخيال اذ يقول مخاطبا الفنان "لا تحاكي اللذة بعض الرسامين الذين هجروا اعمالهم لإفراطهم في عملهم الخيالي" فالخيال ضرورة للفن لكن الافراط فيه حسب ديفنشي يبعد الفن عن الواقع والحقيقة اذ يقول أيضا " سينتج الرسام لوحات قليلة الفضل إذا استلهم من عمل الغير لكن اذا التفت صوب الطبيعة سيحصل على نتائج حسنة."
كما دافع برقسون عن فكرة واقعية الفن وقدرته على النقل الوفي والدقيق لمعطيات الواقع خارجيا كان (مشاهد طبيعية، أشياء، أحداث..) او داخلية (مشاعر، رغبات، أفكار) إذن فجوهر الواقع حسب برقسون هو تفاصيل دقيقة وجزئية فعادة ما نتغافل في حياتنا اليومية على الخاص والجزئي والفريد والمختلف ونركز على الكلي والمشترك والمتشابه والمتجانس، هذا التركيز مرده عقلانية الانسان البرغماتية فالانسان موجود وعليه أن يحيا ويفعل وهو يأخذ من الواقع فقط العموميات المفيدة اما التفاصيل غير المفيدة فتهمل، فالعقل يعمم ويختزل وكذلك تفعل اللغة لذلك المطلوب المراهنة على الفن، فحسب برقسون يحي الانسان في حالة انفصال كلي عن الواقع فهو يعيش خارج ذاته وخارج العالم وكل ذلك تحت تاثير اللغة والعقل، لكن عندما يتدخل الفن فهو يصالح بيننا وبين الواقع فيقربنا من ذواتنا ويجعلنا ندرك الخاص والجزئي فهو يزيل الحجاب السميك الذي يفصلنا على الواقع.حيث يقول" وسواء كان الفن رسما أو نحتا أو شعرا أو موسيقى فليس من هدف له الا استبعاد الرموز المفيدة عمليا والعموميات المقبولة، واستبعاد كل ما يحجب عنا الحقيقة والواقع، لكي نكون وجها لوجه مع الواقع ذاته" اذن الفن رؤية للواقع بل هو حسب برقسون أكثر الرؤى واقعية، فالفن يعبر بشكل أفضل من اللغة، غير أن الفنان لكي يكون فنانا قادرا على الاقتراب من الواقع لابد من أن يكون مثاليا في روحه ويكون ذلك بتعاليه عن المادي والمصلحي وعلى القيم والمعايير السائدة، وتحرره من من ظغوط الحياة اليوميةومن رتابتها.
ولا يمكن أن لا نذكر النظرية الماركسية فماركس يعتبر الفن جزءا من البنية الفوقية التي تشمل كل ماهو فكري وروحي في حياة الشعوب كالدين والاخلاق والفن، وهذه البنية الفوقية هي إنعكاس صادق لواقع اجتماعي محدد، وهكذا فالفن يعكس حقيقة المجتمع في لحظة تاريخية معينة وهو يعكس تحديدا مصالح طبقية بعينها، وهكذا لا نجد فنا واحدا بل اكثر لتجسيد تنوع الطبقات الاجتماعية فكل طبقة تنتج رؤيتها الفنية التي تعكس واقعها الاجتماعي ونظرتها لذاتها وللطبقات الأخرى. كما تعكس مصالح هذه الطبقة ومفاهيمها وتطلعاتها، فمثلما نجد في العادة طبقتين احداهما مهيمنة والأخرى مهيمن عليه نجد نوعين من الفن اولهما محافظ هو فن الطبقة المهيمنة اقتصاديا وسياسيا وهو فن ترتكز مفاهيمه على تشريع الاوضاع السائدة وتبريرها والدعوة الى الحفاظ عليها دون تغيير. أما الثاني فهو فن ثوري فن الطبقة المهيمن عليها وتسمى أيضا الصاعدة، هو فن ذو رسالة اساسيه مفادها الدعوة الى تغيير الواقع وقلبه الراهن، فن يقدم على مطلب الثورة. حيث يقول ماركيز معرفا الجمالية الماركسية "ترى الجمالية الماركسية أن كل فن مشروط بصورة ما بعلاقات الانتاج وبالوضع الطبقي" اذن فالفنان هنا حسب ماركس ليس حرا بل هو أسير لشروط الانتاج وهو ما أكده فرويد أيضل عندما إعتبر الفنان أسيرا لرغباته وغرائزه المكبوتة وعقده ومركباته النفسية".
من ناحية أخرى يمكن أن نبحث في علاقة الجمال بالحقيقة أيضا في فضاء المرجعية الهيقلية حيث يؤكد هيقل أن الفن هو تجسيم للمطلق وهذا المطلق هو فكرة أو روح تحاول أن تعبر عن ذاتها حسيا، حيث يرفض هيقل أن تكون الحقيقة في الواقع المادي فهي موجودة في واقع الروح وهكذا وتبعا لذلك هو يرفض أن يكون الفن مجرد محاكاة للواقع الطبيعي، فالفن هو نتاج الفكر والفكر أسمى من الواقع والجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي، بما أن الفكر يسمو على الطبيعي فان سموه يتواصل فيما ينتجه(الفن)، وبالتالي سمو الجمال الفني عن الجمال الطبيعي فلا يجب اذا على الفن من هذا المنطلق ان يستهدف اعادة صنع ماهو موجود في العالم الخارجي وكما هو موجود فيه، فالفن حينها لا يعدو ان يكون تكرار، وهو تكرار عقيم وغير وظيفي، فالفنان عندما يحاكي الطبيعة سينتج ماهو أدنى من الطبيعة بل سينتج أوهاما ولن يقدم سوى ظاهر الواقع ولن يقدم الا صورة للواقع، كما تراها حاسة واحدة حاسة البصر في الرسم والنحت مثلا والسمع في لموسيقى، فالفن عندما يكون محاكاة لن يمثل لنا غير صورة كاريكاتورية للواقع والحياة، صورةتغيب فيها روح الواقع وحيوية الاشياء وحركتها وروائحها ومذاقاتها، يقدم لنا فن الرسم مثلا صورة للواقع ببعدين فقط طول وعرض ويغيب بعد العمق أما فن النحت فيقدم لنا صورة بـ 3 أبعاد لكنها صورة جامدة لا حياة فيها.
حيث يقول هيقل في نقده لنظرية المحاكاة "ويمكن القول أن الفن بتطلعه لمنافسة الطبيعة بمحاكاتها يبقى أبد الدهر دون مستوى الطبيعة وسيكون أشبه بدودة تجهد وتكد لتضاهي فيلا" فنحن لا نستحسن صوتا إنسانيا يحاول أن يقلد صوتا حيوانيا لان في ذلك التقليد تصنع وتكلف فهو ليس انتاجا حرا للطبيعة فنحن نستحسن تغريد العندليب لانه طبيعي يبهجنا بصورة طبيعية، كما نرى في تغريده صوتا يحاكي المشاعر الانسانية فما يبهجنا اذا هو محاكاة الطبيعة لماهو انساني وليس محاكاة الانسان لماهو طبيعي.
كما أن كانط ينقد أيضا فكرة المحاكاة فهو يعتبر الفن خلقا وانتاجا لواقع جديد "الفن ليس تصوير الشيئ الجميل وانما هو التصوير الجميل للشيئ" فالجمالية لا تستمد من الواقع بل من ذات الفنان اي من فكره، فالفن ليس محاكاة بل هو خلق وابداع وهو أيضا إضفاء مسحة جمالية على أشياء قد تكون قبيحة كحذاء فان خوخ، لوحة جميلة موضوعها حذاء قبيح ممزق.
حيث يرفض كانط الحديث عن فن طبيعي وجمال طبيعي، فما تنتجه الطبيعة من مشاهد جميلة ليست فنا لانها لا تنتجهطواعيا واختياريا وانما بطريقة ميكانيكية دون ارادة او وعي، كانتاج النحلة لقطع متقنة من الشهد. أساس الفن إذا هو العقل والارادة والطبيعة قوة غير عاقلة حيث يقول في هذا السياق "يمكن لنا أن نعثر على أثر للفن في كل شيئ مسبوق بفكرة وعندما نطلق على الشيئ صفة الاثر الفني فذلك لتميزه على الاثر الطبيعي وهذا ما يعني انه عمل انساني.
وعلى النقيض من المواقف التي تقر بترابط الجمال والحقيقة وبقدرة الفن على تصوير الواقع نجد مواقف أخرى ترى أن الجمال الفني جمال وهمي، اي انه لا يعبر عن الواقع بوفاء ولا يقول الحقيقة فهو نوع من التحريف والتلاعب بمعطيات الواقع،فأصل الفن هو الخيال والخيال حر، حرية مطلقة وهو لا يعترف بحدود الواقع ولا يحترم حدود العقل والمنطق. فهو يصور لنا ما يوجد ويحرف لنا صورة ماه موجود بماهو خلق وابداع والابداعية تتطلب التحرر من قيود الواقع ومن حدود العقل وقوانينه وضوابطه. وهي اعادة انتاج للواقع كما تريد أن تراه الذات لا كماهو موجود فعليا. الابداعية تعني تعني الحضور الكثيف للذات في مستوى الاثر الفني، والفن ذاتي او لا يكون. وذاتيته تلك هي أن يحمل في طياته شيئا من رغبات الفنان وقيمه واحلامه ومقومات ثقافته وانتمائه الطبقي وعاداته وافكاره، فالذاتية تعني اذن ان الاثر الفني لن يكون وفيا للواقع ولن يكون نسخة مطابقة له ولا رؤية موضوعية صادقة تنقل الواقع كما هو مثلما ظن ذلك برقسون.
يقوم الفن أيضا على الرمزية والرمز لا يطابق المرموز له تماما فالرمز تحريف للواقع وللرغبة وهو نوع من القناع الذي تتخفى ورائه افكار الفنان ورغباته، حيث يعتبر فرويد أن الرمز الفني هو تعبير متستر ومقنع عن الرغبة المكبوتة ويلجأ الانسان الى الرمز سواء في حلمه او في فنه حتى لا يتصادم اناه مع قوى الكبت ممثلة في الأنا الأعلى والعالم الخارجي.
يتحدث فرويد عن الفن كإعلاء، اعلاء الرغبات المكبوتة والإعلاء هو التعبير بطريقة وهمية رمزية لا اشباعا حقيقيا فعليا، والجمال الفني فيه ألوان وفيه رمز فهو بالتالي ليس حقيقة بل ولا يحقق متعة جمالية مباشرة.
وقد نجد في الماركسية أيضا ما يؤكد عدم تطابق الفن مع الحقيقة وذلك عندما يتحول الفن الى ايديولوجيا مضللة تلهي الشعوب عن مطالبها اي عندما يفقد الفن رسالته ودوره الحقيقي فيتحول الى مجرد تسلية وظرف فكري اي عندما يخسر التزامه بقضايا الواقع، فالالتزام الفني يعني قرب الفن من الواقع وطرحه المشاغل الانسانية (الفقر، الحرب، العنصرية...) لكن الفن قد يسقط في نوع من التعالي فيقصر الفنان عن اداء واجبه، حيث يرى ماركس أن الطبقة المهيمنة كثيرا ما تستعمل أسلحة إيديولوجية (فكرية) للخداع والتظليل ومنها الدين والفن، فالفن يلهي ويخدر مثلما الدين أفيون الشعب فإن الفن يوفر فرصة للاشباع، لكنه قد يعود الانسان على الاشباع الوهمي وهو ما يجعله ينقطع عن عالم الحقيقة والواقع ليعيش عالم الوهم والخيال. يمكن أيضا أن نتناول قضية العلاقة بين الجمال والحقيقة من جهة محتوى الاعمال الفنية ومعناها فهذه الاعمال ليس لها دلالة مطلقة ومعنى ثابت يدركه الجميع على حد السواء، فالجمال فضاء للتأويل والاختلاف في تقدير معنى العمل الفني والكل يفهم العمل الفني بطريقته ويكسب دلالة مختلفة، فالذوق الفني نسبي، والحكم الجمالي كذلك وهو يرتبط بتأويل اي بالفهم الذاتي.
الحقيقة اذن مطلقة وكلية في حين ان معنى الأثر الفني نسبي ومتغير من فرد لآخر اذ لا وجود لمقاييس جمالية مطلقة، فالجمال مفهوم نسبي وهو ليس حقيقة مطلقة يتفق بشأنها الجميع، فما أراه أنا جميلا قد لا تراه أنت كذلك وقد يرى البعض الجوكندا ضاحكة في حين يراها البعض الآخر حزينة وباكية.
الذوق الفني اذن ذوق نسبي ولا وجود لذائقة فنية مشتركة وكلية وتختلف بالتالي أذواقنا الفنية بحسب موقعنا الاجتماعي (فقير، غني) وبحسب وضعنا النفسي(تفاؤل، تشاؤم) او بحسب درجة معرفتنا (مثقف او غير مثقف) وبالتالي يمكن ان نتطرق لهذه المسألة أيضا من زاوية عدم وجود مدرسة فنية واحدة أي مرجعية فنية واحدة او قل قواعد فنية مطلقة يمكن لنا أن نستنتج منها شروط الممارسة الفنية وحقيقة الانتاج الفني. فنحن اليوم نتحدث عن مدارس فنية مختلفة لكل مدرسة فنية حقيقتها اي اساليبها الفنية الخاصة سواء في الرسم او النحت او الموسيقى، فنتحدث مثلا عن مدرسة رمزية، انطباعية، تكعيبية...لا وجود لحقيقة فنية مطلقة فالفن يمكن أن ينتج بأساليب ومقاربات ونظريات مختلفة يمكن لنا أن نتذوقها أو العكس ولكنها تبقى جميعا جائزة.

دلال صماري
باحثة وتشكيلية تونسية