استوقفني هذا العنوان كثيرا، فبحثت عن معناه بين الكتب والمجلدات، فلم أجد معناه الحقيقي الذي يرمز إلى الحقيقة التي كنت أبحث عنها، فتوجهت كعادتي إلى كبار السن، ومن لهم تجارب في الحياة، وممن عاشوا زمن الآباء والأجداد، حينها أيقنت أنه فعلا لم تأتِ هذه العبارة من فراغ، أو أنها من نسج الخيال، أو لمجرد قول يرسله قائله، والشواهد كثيرة قد لا يسمح الوقت لسردها في هذه العجالة البسيطة، فنذكر بعضا منها.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن نعمم، فهناك أصدقاء يعيشون حياةً ملؤها الصراحة والشفافية والتعاون المخلص البناء، إلا أن محور حديثنا حول أولئك الذين هم أصدقاء حقا، بل هم في واقع يعيشون إخوة حقيقية من خلال العلاقة الحميمة التي تجمعهم، وهذا ما نفتقده في زماننا هذا، والتي أصبحت المصالح الدنيوية بعيدة كل البعد عن هذا المنهاج. ومما يستوجب ذكره حول الصداقة الحقة المفعمة بالصدق والمحبة والتعاون، أنه كان في الزمن الماضي الصديق أو الصاحب أقوى من الأخ الذي أنجبه الوالدان بالنسبة للأسرار أو المعاهدة أو الوعود المقطوعة بينهما، فكلاهما يعتبر الآخر بئر أسراره وهمومة ونصائحه الصادقة غير الملوثة بالرياح المتقلبة، والتي تحمل في طياتها الأتربة المملوءة بمتغيرات الطقوس، ومما ذكره شيخنا المعاصر، والذي تجاوز سنه التسعين عاما، أطال الله في عمره: أن هناك رجلا أراد أن يوجه رسالة لولده عندما أيقن أن لديه أصدقاء كثرا يستحسن صحبتهم، ويذكرهم عند والده بحسن العشرة لوفائهم ووقوفهم بجانبه، وإخلاصهم المتناهي معه، وأنهم على استعداد للتضحية من أجله في شتى صنوف الحياة، فما كان من الوالد إلا أن يراهن ولده بقصد اختبار هؤلاء الأصدقاء الكثر، فقبل الولد الرهان بعد أن أخذ منه عهدا بعدم إفشاء السر، فطلب منه أن يخبرهم بأنه تورط في أمر ماء مع أحد الأشخاص، ويطلب منهم المساعدة والوقوف بجانبه، فذهب الولد إلى أصدقائه وأخبرهم الخبر، وبعد معرفتهم بحجم المشكلة، فما كان منهم جميعا سوى النفور والابتعاد، وعدم معرفتهم به، فعاد إلى والده بنفس حزينة موقنا بأنهم أصدقاء مصلحة، رغم أنه كان الممول والمساند لكافة حوائجهم ومتطلباتهم، مستذكرا قول الإمام الشافعي (ما أكثر الإخوان حين تعدهم.. ولكنهم في النائبات قليل).. فما كان من الوالد المعاصر إلا أن يشعره بقيمة الصديق الأخ الذي لم يره طوال ثلاثين عاما وهو يقطن بعيدا عن قريتهم بمسافة أربعين كيلومترا، وهذه الرسالة الثانية، فقام بنسج قصة من الخيال ليس لها واقع حقيقي، وذهب ومعه ابنه إلى صديقه، وحينما طرقا الباب في منتصف الليل فوجئ صاحب المنزل بصديقه القديم الذي لم يره طوال تلك الفترة، فأدخلهما منزله دون أن يعرف قصتهما أو حتى أن يسألهما سبب ذلك، وقص الوالد لصديقه القديم تلك القصة المبتدعة، فلم يتردد في مساعدتهما والوقوف بجانبهما مهما كلفه الأمر، وأنه على استعداد للتضحية بعمره مقابل أن ينجيهما مما وقعا فيه، حينها أيقن الولد معنى الصداقة الحقيقية، والتي لا تغيب مهما طالت المدة أو بعدت بينهما المسافات.
هذه إحدى القصص التي نأخذ منها العبر والعظات، وندرك قيمة الصديق الأخ الذي يعي معنى الصداقة الحقيقية ويحافظ عليها، ومن هنا نستطيع أن نقول (الصداقة الحقيقة غير المبنية على المصالح تبقى وإن تعاقبت الأزمنة) ..
لقاؤنا يتجدد بإذن الله.

أحمد بن موسى الخروصي
[email protected]