[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]المسجد هذا المكان المقدس الذي يشعر الإنسان داخله بالأمن والطمأنينة، ويقصده المسلم في اليوم خمس مرات ليغتسل من الأدران والآثام التي يرتكبها فيشعر براحة الضمير ويعود إلى الحياة وهو أكثر إيمانا وثقة وإخلاصا، وأقدر على الاستمرار في التعامل مع الآخر بنقاء نفس ووفاء في الوعد وأمانة بالعهد..السادس عشر: المساجد دور عبادة وحلقات علم :للمسجد حدوده الجغرافية المتعارف عليها، والمسجد محددة أغراضه في ممارسة الشعائر الدينية (الصلاة وقراءة القرآن الكريم والتعبد)، وله مكانته المقدسة لدى المسلمين، تلك المكانة وذلك الغرض أكسباه درجة من الاحترام في نفوس من هم من غير المسلمين باعتباره رمزا دينيا يعبر عن الهوية الإسلامية كما هي الكنيسة عند المسيحيين والمعبد عند البوذيين ... ويترسخ الشعور الإيجابي في نفس الإنسان الطبيعي تجاه أماكن العبادة لأسباب كثيرة منها: أن ممارسة الشعائر الدينية تعزز الجانب الروحي بالمثل والقيم النبيلة، وتقوي مشاعر الحب والسعادة في النفس البشرية، وتعزز النظرة الأخلاقية التي تنعكس إيجابا على التصرفات والتعاملات الفردية، كذلك فإن الاحترام المتبادل الذي يظهره الإنسان تجاه أماكن العبادة يعزز روح التعاون والإخاء والتسامح بين المذاهب والأديان. المسجد يجمع المسلمين في أوقات خمسة، محددة بزمن معروف يختلف من قطر إلى آخر باختلاف الفوارق الزمنية، الفجر، الظهر، العصر، المغرب، العشاء، يدخل المسلم إلى المسجد وهو مثقل بالهموم والخطايا والأحزان، فيخرج من المسجد بمشاعر تفيض بالحب والسعادة والطمأنينة، والمسجد مكان التقاء المسلمين وجامعهم في أوقات الشدة واليسر، في المسجد يناقش المسلمون مشاكلهم وتقام في زواياه حلقات العلم وتدرس علوم القرآن، عبادة وتعليم وتهذيب وقدسية، ومن دخل المسجد (فهو آمن). وفي المسجد يحتفي المسلمون بمناسباتهـم الدينية، تلقى المحاضرات التي تتضمن ومضات لحياة المسلمين وسير الأنبياء والصحابة وعلماء الأمة، ولا تتناسب العادة الذميمة بسرقة الأحذية من أمام باب المسجد مع حرمة وقدسية المكان ومكانته التهذيبية والتربوية. المسجد هذا المكان المقدس الذي يشعر الإنسان داخله بالأمن والطمأنينة، ويقصده المسلم في اليوم خمس مرات ليغتسل من الأدران والآثام التي يرتكبها فيشعر براحة الضمير ويعود إلى الحياة وهو أكثر إيمانا وثقة وإخلاصا، وأقدر على الاستمرار في التعامل مع الآخر بنقاء نفس ووفاء في الوعد وأمانة بالعهد، هذا المكان الطاهر تعززت مكانته عبر التاريخ الإسلامي منذ العهد الأول للإسلام، حيث أنشئ أول مسجد بأيدي الصحابة يتقدمهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. ومنذ أن (اعتنق أهل عمان الإسلام طواعية في العام السادس الهجري شيد الصحابي الجليل مازن بن غضوبة السعدي العماني والذي كان يسكن مدينة سمائل أول مسجد في عمان ويسمى حاليا بمسجد (المضمار)، وكان هذا المسجد نقطة البداية لانتشار المساجد وعمارتها في هذا البلد المسلم .. وتعاقبت الأيام والسنوات والمساجد تزداد انتشارا وتطورا في أحجامها ومرافقها. إن المساجد منارة علم وتعليم، وهي أماكن عبادة وتعبد، ولها أثرها وارتباطها بكافة شئون العباد ودورها أساسي في حياة الإنسان المسلم عموما والعماني خاصة). وقد ظلت المساجد في عمان تؤدي دورا أساسيا في الحياة، ففي المسجد يلتقي أبناء المجتمع خمس مرات لأداء الصلوات، ويتحلقون بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن الكريم، وبعد الظهر كذلك في شهر رمضان، في المسجد يعتكف الفقيه والعالم لسنوات لتأليف كتاب فقهي، يعتزل بيته وأسرته ونسائه بعد أن يخيرهن بين البقاء على ذمته أو الطلاق، في المسجد تعقد حلقات العلم يوميا في تعليم وحفظ القرآن الكريم واللغة والفقه والأدب، وكانت مدارس العلم المشهورة وحلقات العلماء التي تعاقبت خلال القرون الماضية معظمها تعقد في المسجد أو داخل غرف ملحقة بالمسجد، وقام المسجد بأدوار سياسية ففيه يصلي الإمام أو السلطان بالناس ويلقي خطبته أو رسالته عليهم، وتعقد البيعة ويتخذ قرار الحرب لمواجهة اعتداء أو طرد مستعمر، كما تتم العديد من المناسبات في المسجد، كعقد القران والاحتفاء بالمولد النبوي الشريف، الإفطار فـي شهر رمضان المبارك، حتى إقامة العزاء يتم أحيانا في المسجد... في عمان (ومع الزمن أصبح المسجد من أبرز معالم الثقافة الإسلامية لأنه مهدها ومنطلقها وغدت مسألة إنشائه وجها من وجوه الإبداعات الفنية الراقية، لذلك أولاه العمانيون اهتماما كبيرا، وتدل محاريب المساجد العمانية القديمة على مهارة صانعيها ومصمميها وعلى مستواهم الفني والتقني العالي... وبدءا من القرن السابع الهجري أدخلت مادة الجص في تصميم محاريب المساجد العمانية..). من كتاب (الثقافة الإسلامية والتحديات المعاصرة)، مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم. لقد اعتمد العمانيون على أنفسهم في بناء بيوت الله اختيارا لمواقعها وهندسة بنائها وتصميمها ووقف الوقوفات لها لعمارتها وصيانتها، وأنفقوا الأموال الكثيرة من أجل هذه الغاية النبيلة، بل لقد تجاوزت عناية العمانيين بالمساجد حدود عمان، حيث (تشير الدراسات إلى واحد من أقدم المساجد في الصين بناه العمانيون في القرن الثاني الهجري...). يقول (دونالد هولي. عمان ونهضتها الحديثة. مؤسسة ستايس الدولية، لندن 1976. (وتتمثل البساطة التي تعتبر من أسس المدرسة الإباضية ... في ذلك الجلال الهادئ الذي يلقي طابعه على المسجد العماني، وهو يتميز بتناسقه البديع لكنه خالٍ من أية زخرفة باستثناء النقش الجميل على الجص حول المحراب والنوافذ وكذلك الزخرفة المحفورة على الأبواب...).ومن الذكريات الجميلة التي عايشتها في بدايات حياتي والتي تواصلت عبـر قرون من الزمن وأهملت للأسف في أيامنا الراهنة وترتبط ارتباطا وثيقا بالمسجد، حلقات المصلين بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن الكريم، حيث يأخذ كل منا دوره، فينتقل المصحف الشريف من يد إلى أخرى، يشارك كبار السن والشباب ومن هم دون ذلك في هذه الجلسة الروحانية، التي وضع رب العزة المشاركين فيها ضمن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله .. نعيش لحظات رائعة بل استثنائية بكل المقاييس، نستشعر عظمة الآيات القرآنية وأثرها على القلوب، ونتفكر في معانيها وما تحمله من رسالة بليغة، وتتأثر النفوس وتفيض المشاعر بالقراءات الجميلة التي يتقنها البعض ممن أوتوا أصواتا قادرة على التأثير والتي يتبارى القراء في إتقانها وإظهارها بما يتناسب ومنزلة كتاب الله، وبما أوتوا من تعليم جيد وخبرة تعتمد على حصيلة طويلة من القراءة والتقييم الدائمين، ساعة زمنية نحياها في جو من الطمأنينة والشعور.. الحب غير المحدود وتمازج الأرواح وانعدام الفوارق، تشع الأنوار على المكان وترفرف السكينة. كل منا ينتظر دوره في القراءة بتلهف وصبر حبا في قراءة القرآن أولا، وإرضاء لخالق الخلق ثانيا، ومن أجل التنافس الشريف والاستفادة ثالثا.. التنافس على الإتقان في القراءة والبراعة في إظهار الصوت الجميل وفي الترتيل، محاولة تجنب الأخطاء، عبادة وتعليم ومشاركة وتربية واجتماع لا يماثله اجتماع .. يكتسب الأطفال منذ نعومة أظفارهم حب القرآن وحب القراءة ومهارة الإنصات وإجادة النطق، والاعتياد على الجرأة والإقدام والقدرة على المشاركة والقراءة في المحافل والمناسبات المختلفة والتميز بالصوت الجهوري القوي دون تردد أو تلعثم ... نهج سليم وأسلوب قويم وعمل حميد ليته يعود، كانت المساجد مؤسسات تربوية وتعليمية إلى جانب العبادة ... خرج من مدارسها أجيال من العلماء والمثقفين والأدباء والمعلمين والقضاة على مدى التاريخ الإسلامي .في جلسات أخرى كنا نستمع ونتعلم ونشارك في القراءة، جلسات علم وحوار ونقاش دائم في الفقه ـ الأدب ـ علوم اللغة ـ السياسة... كنا نتنافس في القراءة واثراء الحوار، يسعى كل منا للحصول على الكتاب ليظهر براعته وقدرته على التغني بالشعر وإظهار المكنة في القراءة واللغة، نجتهد قدر الإمكان من أجل أن نسمع مديحا أو رضا من المستمعين، نعود إلى منازلنا فنستعد ونقرأ ونطالع ونستعين بالمراجع المختلفة، استعدادا لجلسة اليوم التالي حتى نظهر بالمظهر اللائق... أكسبتنا تلك الجلسات حب القراءة والأخذ بمبادئها الصحيحة والجرأة والمشاركة في الحديث والحوار في أي مناسبة كانت .. أما في يومنا هذا وعندما نجتمع بعد زمن ويبرز الكتاب باحثا عمن يبادر فيستلمه للغوص في مكنوناته الثمينة والتغني ببدائعه ومكوناته المختلفة، لا يجد من يتناوله إلا من عاش وترعرع وأخذ من تلك المجالس وعرف قيمتها وقيمة الكتاب، أما الشباب فيهربون من قراءة الجهر هروب الذبيحة من مدية الجزار لعدم القدرة على القراءة أو رهبة وخوفا من الحضور أو لعدم قناعتهم بجدوى القراءة وعدم قيمتها فظهر ما هو أهم وأولى منها في نظرهم، مما يتناسب مع الظروف المتعلقة بالعصر الذي لا يصلح له هذا التقليد وهذه السخافات حسب رأيهم، ولو أجرينا مقارنة للإنصات والاستماع بين المجلسين القديم والحديث لرأينا في الأول قمة الحرص والمثابرة والعمل على الاستفادة من كل كلمة تقال والإنصات الذي لا تشوبه همسة أو حديث جانبي والاحترام للمجلس ومن فيه والالتزام بالأدب الراقي والمتابعة الدقيقة من قبل الكبار للصغار.. أما المجالس الحديثة ـ حتى وإن كانت في المسجد المكان المقدس ـ فهي على عكس ذلك تماما، إذ تطغى على مرتاديها أحاديث شكلية عن الموضة والوجاهة والمناصب وغيرها من التفاهات التي لا تغني فكرا ولا تثري عقـلا. إنه المسجد المربي الأول للأجيال منارة علم وإشعاع، علينا أن نعيد دوره الحيوي في التربية وفي تعزيز القيم والمثل عند الأجيال. وقد وصف الرحالة ابن بطوطة ما شاهده في المساجد العمانية من مظاهر اجتماعية تؤكد على (دور المسجد في الحياة اليومية وأثره في تعميق أواصر التكافل الاجتماعي إذ تزدحم المساجد بالمصلين في أوقات الصلوات ويتناولون في ليالي شهر رمضان طعام الافطار سوية في باحات تلك المساجد). [email protected]