حين نستعرض الأمثلة والشواهد على ظهور وتطوّر أدب الطفل في العالم العربي، فإن أول تجربة سنقف عندها هي التجربة المصرية. ويقول الباحث والشاعر بيان الصفدي في كتابه شعر الأطفال في الوطن العربي (2008): "إن رائد النهضة العربية رفاعة الطهطاوي هو أول من كتب قصيدة خاصة بالطفل، إلا أن ما فعله لم يزد على عدة قصائد وأناشيد، أما ما فعله محمد عثمان جلال فهو عمل ضخم". فقد ترجم كتاب العلامة الفرنسي لافونتين، وأورد جلال في مطلع كتابه قصيدة قصيرة تصف عمله ومنها:بسم الزمان وعن كتابي أسفرا وبه النســــيم على محبته سرىفيه النكات مع النوادر أينعــت وظلام ليــــــل الجهل منه أقمرايا قوم إني قد نصحتـــــكمُ بــه والنصح أغلى ما يباع ويشترىفإذا ملكتم منه أيــة نســـــــخة نســَــــختْ لديكم ما أهمَّ وأكدرافي أول حكايات الكتاب " الصرَّار والنملة " حديث عن الصرّار الذي جاء في فصل الشتاء، ولم يجمع مؤونة في الصيف، لأنّه أمضاه بالغناء، ويختم جلال الحكاية بهذه الأبيات ( العيون اليواقظ، ص37):قـــالت : وما ادخرت فيه للشتا ؟ قال لــــها مســــــــــتهزئا ً منكـِّتا :كنـــــــــت أغني للحمير القمَّص قالت له : ياصاحبي الآن ارقص !واعلم بأن الســـعي فـي الذخيرة يدفـع كل غـُمَّــــــــة وحيــــــــرةوالدرهم الأبيــض وهو في يـدي ينفعنـــي في كل يــــوم أســــــودِكما نجد حكاية " الكلب والذئب " من أجمل الحكايات وأهمها مغزى، وقد صاغها الشاعر أنجح صياغة وأطرفها، و تبدأ هكذا (ص41):ذئب ضعيف مـرَّ بعد العصــرِ يسعى على القوت بجنب القصرفجاءه كلب كبيـــــر الجـــــرم ِ مُغْرى مــــن الدنيا بمصّ العظمومذ رآه وحـــــده ضعيـــــــفا مكســـــَّـــرا ً مهشــَّــــما ً نحيفـاقامت به مـــــروءة الكــــلاب ولم يعُدَّه مـــــــــن الذئـــــــــابوإنما أقــــــرأه الســــــــــلاما فطـــــــأطأ الذئــــب له ، ونامـاويقول الصفدي إن الحكاية تصل إلى نهايتها التي تأتي قوية ذات دلالة جوهرية دائمة:وبينمـــا الكلب يزجِّي النصحـا والذئب يرجو في يديه الصلحاإذ لمــــح الذئب بجيــــد الكلب ِ آثار أطــــواق الأذى والكرْبقال لــه: يا كلـــب ما بالجيد ِ؟ فقـــال : هـــذا أثـــر الحديـــدلأنّهــــــــم بالليــل يطلقوننـــي وإن أتـــى النهــــار يربطوننيقال: وهل تريدنـي أ ُرتبـَـــط ُ؟ دعنـي إلى الشوك به أختبـط ُ!لا رأي في الأكل وفي التنعُّـــم ِ ما دام فــي جيديَ طوق الأدهموبالغنى ليس لي افتتــــــــــانُ ما دام فيه الـذل والهـــــــــوانُويعلّق الناقد بيان الصفدي على قائلا (شعر الأطفال في الوطن العربي، ص 38): إن " العيون اليواقظ " اختار في لغة القص كالعادة بحر الرجز بصورة أساسية، وكما جرت العادة في الشعر العربي كله تقريبا، إلا أنّ ذلك لا يعني اقتصار الشاعر عليه، ففي هذا الديوان الذي ضم مئتي قصيدة غالبيتها العظمى حكايات ـ هناك مئة وستون نصا ً على بحر الرجز ـ أما الباقي فيتراوح بين البحر الطويل والبسيط إلى الخفيف والكامل وغيرها.وفي رأي د. عبدالعزيز المقالح أن محمد عثمان جلال " قد أحسن صنعا حين ترجم هذه الحكايات نظما لأن أهميتها بعد ذلك لم تعد قاصرة على إضافة مجموعة من الحكم والمواعظ تضاف إلى المواعظ والحكم العربية التي تزخر بها الكتب التي تضم جزءا كبيرا من حكايات "أيسوب" نفسها، ولكن نظمها قد أضاف إليها أهمية استطاعت بها التأثير على الشعراء ودعتهم إلى خلق نماذج مماثلة في الشعر العربي الحديث."كما تناول الدكتور أحمد زلط في كتابه (رواد أدب الطفل العربي، 1993) فصلا عن محمد عثمان جلال مشيرا في خاتمته إلى أن " العلاقة بين أدبيات الطفل وديوان العيون اليواقظ تتحقق في العديد من وظائف أدب الطفولة، فالوظيفة التعليمية شغلت من الديوان زهاء خمس وسبعين منظومة شعرية تتوزع بين النصح والإرشاد وتلقين المعارف بأسلوب سهل مباشر. والوظيفة الأخلاقية شغلت من الديوان زهاء ثمان وثمانين منظومة شعرية على لسان الحيوان. أما الوظيفتان الأخيرتان: الجمالية واللغوية فقد تقاسمتهما سائر منظومات الديوان في القص على لسان الكائنات المألوفة والمحببة للأطفال، وباستثارة الخيال للتسلية والاستمتاع بالمرويات على ألسنة الحيوان، وهو تلقين غير مباشر يحبه الأطفال وينشدونه. هذا عن الوظيفة الجمالية، أما الوظيفة اللغوية فقد ثبتت ظاهرة التيسير اللغوي عند الشاعر التي تمكن الأطفال من متابعة الحكايات لفهمها وإدراك مغزاها عند استعمال الشاعر للمعجم اللغوي اليسير الصحيح الذي يتسم بالإيجاز الدال والإيقاع المنغوم" (ص 25 ـ ص 95). وفاء الشامسية [email protected]