التقرب إلى رب العالمين والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير
خدمة الناس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت ونقاء الأصل وصفاء القلب

إعداد ـ مبارك بن عبدالله العامري:
إنّ الله تعالى خلقنا في هذه الدنيا لنقاسي آلامها ونكابد شدتها كما قال جل من قائل:(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف ـ 7)، وقال ـ جلّ من قائل:(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الإنسان ـ 2) الله ـ جلّ جلاله ـ جعل ابن آدم في هذه الدنيا متقلبا بين شدة ورخاء، وضيق وسعة، وعسر ويسر، وفقر وغنى، وسقم وصحة، هكذا إلى نهاية الدنيا، لا تستقر على حال، ولذلك فإن ربنا ـ جلّ جلاله ـ في القرآن دائما يشبه الدنيا بالماء:(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) (يونس ـ 24)، الله جل جلاله يضرب المثل للدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر على حال، وكذلك الدنيا لا تستقر على حال كم من غني افتقر!، كم من صحيح في سقم!، كم من ميسور قد صار معسورًا! هكذا الدنيا تتقلب، ومن أجل هذا حثنا ربنا جل جلاله ونبينا المختار صلى الله عليه وسلم أن يسعى في قضاء حوائج الناس، في تنفيس كروبهم في تفريج همومهم في إدخال السرور عليهم هذه مهمة عظيمة يتصدى لها الموفقون من عباد الله.
دوام المودة وبقاء الألفة
جاءت السنة الشرعية بالحث على التعاون بين الناس وقضاء حوائجهم والسعي في تفريج كروبهم وبذل الشفاعة الحسنة لهم، تحقيقًا لدوام المودة وبقاء الألفة وإظهار الأخوة، إن التقرب إلى رب العالمين والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استُجْلبِت نعمُ الله واستُدفعت نقمه بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه.
ونفع الناس والسعي في كشف كروبهم من صفات الأنبياء والرسل، فالكريم يوسف ـ عليه السلام ـ مع ما فعله إخوته جهزهم بجهازهم، ولم يبخسهم شيئًا منه. وموسى ـ عليه السلام ـ لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، رفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما. وخديجة رضي الله عنها تقول في وصف نبينا محمد: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، وأشرف الخلق محمدٌ إذا سئل عن حاجة لم يردَّ السائل عن حاجته، يقول جابر ـ رضي الله عنه: ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا، والدنيا أقل من أن يُردَّ طالبها.
إن خدمة الناس ومسايرة المستضعفين دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، وربنا يرحم من عباده الرحماء، ولله أقوامٌ يختصهم بالنعم لمنافع العباد، وجزاء التفريجِ تفريجُ كربات وكشفُ غمومٍ في الآخرة، يقول المصطفى : من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) ـ رواه مسلم، وفي لفظ له:(من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)، ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجعله مفاتحاً للخير والإحسان, عَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ، عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)، قَالَ: عِنْدَ اللَّهِ خَزَائِنُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، مَفَاتِيحُهَا الرِّجَالُ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، وَمِغْلاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ، وَمِغْلاقًا لِلْخَيْرِ، جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أحبّ إلى الله؟ وأيّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ فقال رسولُ الله:(أحبُّ الناسِ إلى الله تعالى أنفعُهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله سرورٌ يدخِله إلى مسلمٍ أو يكشِف عنه كربةً أو تقضِي عنه دينًا أو تطرُد عنه جوعًا، ولأن أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أحبّ إليّ مِن أن أعتكِفَ في هذا المسجد ـ يعني مسجدَ المدينة ـ شهرًا، ومن كفَّ غضبَه سترَ الله عورته، ومن كظمَ غيظَه ولو شاء أن يمضيَه أمضاه ملأَ الله قلبَه رجاءً يومَ القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى تتهيّأ له أثبتَ الله قدمَه يوم تزول الأقدام، وإنَّ سوءَ الخلُق ليفسِد الدّين كما يفسِد الخلُّ العسل) .. حديثٌ عظِيم تضمَّن ما يورِث حبَّ الله وحبَّ الخلق وما بِه تشيعُ روحُ الأخوّة بين المسلمين وتقوَى العلاقاتُ معه بين المؤمنين. حديثٌ جليل تضمَّن من مبادئ الأخلاق أعلاها، ومِن قيَم الآداب أرفعَها، ومِن معالي المحاسِن أزكاها، ومِن محاسِنِ الشمائل أرقاها. توجيهاتٌ تزكو بها النفوس وتصلح بها المجتمعاتُ وتسعَد بها الأفراد والجماعات قِيَم اجتماعيّةٌ لم يشهد التأريخُ لها مثيلاً، ومبادِئُ حضاريّة لم تعرف البشريّة لها نظيرًا، ذلكم أنها توجيهاتُ من لا يصدر عن الهوى، (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم ـ 4).
فوائد قضاء الحوائج
هناك العديد من الفوائد لقضاء الحوائج نذكر بعضاً منها: فمن فوائده عظم الأجر، ولذلك يقول ابن عباس: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصنعه إليه ، أيضاً استمع إلى ما يقابل ذلك كان يقال: لا يزهدنك في المعروف من يسديه إليك ، ولا ينبو ببصرك عنه ، فإن حاجَتَك في شكره ووفائه لا منظره، وإن لم يكن أهله فكن أهله، قال عمرو بن العاص: في كل شيء سَرَفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع المعروف، أو إظهار مروءة، ومن فوائد قضاء الحوائج: حفظ الله لعبده في الدنيا كما في الحديث القدسي (يابن آدم أنفق ينفق عليك) وقد قيل:(صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، قال ابن عباس: صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئاً، وكان خالد القسري يقول: على المنبر أيها الناس عليكم بالمعروف فإن فاعل المعروف لا يعدم جوازيه وما ضعف عن أدائه الناس قوي الله على جوازيه، وحاجة الناس لبعضهم أمر لا بد منه كن من الناس من أنعم الله عليه ووسع عليه في الرزق،يستطيع أن يقضي حاجاته من خلال استئجار من يقضيها له،ومنهم من قُدِر عليه رزقه لا يملك القدرة على ذلك، وقد لايملك الوقت أيضاً لانشغاله بوظيفة أو عمل طويل ونحو ذلك، يقول ابن عباس:(من مشى بحق أخيه إليه ليقضيه فله بكل خطوة صدقة والاسلام ينظر الى الوظيفة العامة باعتبارها أمانة وخدمة عامة، ففي هذا المجال يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):(من ولي من أمر المسلمين شيئا فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة) بل إن الوظائف وجدت من أجل قضاء حوائج الناس، فالموظف للوظيفة وليس العكس،
أسباب دوام النعمة
لكن كثيراً من المسلمين اليوم يجهلون ما في قضاء حوائج إخوانهم المسلمين من الأجر عند الله، أو يعلمون ولكنهم يغفلون عن ذلك، فلا يلتفتون إلى إخوانهم ولا يساعدونهم ولا يشفعون لهم، وينسون أن الله عز وجل هو الذي يقضي حاجة من يقضي حوائج إخوانه كما أخبر (صلى الله عليه وسلم):(ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته)، وينسون كذلك أن قضاء حوائج الناس من أسباب دوام النعمة على صاحبها، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل من حوائج الناس إليه فتبرم فقد عرض تلك النعمة للزوال وقد ورد في الحديث القدسي: يا ابن آدم أنفق ينفق عليك، وقيل: صنائع المعروف تقي مصارع السوء، ولقد أدرك ابن عباس فضل قضاء الحوائج فترك اعتكافه في المسجد ليمشي في حاجة أخ له، وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين فما أشد حرمان من لم يوفق لقضاء حوائج الناس وأشد منه خسارة وبؤساً من سعى في تعطيل حوائج الناس.