[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/03/must.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أحمد مصطفى[/author]
بينما أجري مكالمة من بيتي في غرب لندن مع صديق في كامبردج بدأت أسمع أصواتا غريبة كل فترة على الخط، وتذكرت أنها تشبه إلى حد كبير أصوات أجهزة التنصت على الهاتف في بلادنا. لم يهدأ لي بال حتى سألت زميلا من مواطني البلد الذي أنا فيه عن الأمر فأجاب ببساطة: "هواتف كل الصحفيين ومن يعملون في أي مجال يؤثر في الرأي العام يتم التنصت عليها روتينيا".
عندما انفجرت فضيحة تجسس الأجهزة الأمنية الأميركية على هواتف قادة وزعماء أوروبيين في خريف 2013 لم يكن الفزع من التنصت، فالعالم كله يتنصت على بعضه، وإنما من حجم العمليات الأميركية التي تنسف أي ثقة متبادلة بين دول حليفة فيما يسمى "المعسكر الغربي". ولعل الألمان وقتها كانوا الأكثر غضبا من التنصت على هاتف المستشارة أنجيلا ميركل الذي نشر وقتها أن الرئيس الأميركي باراك أوباما أقره بنفسه منذ عام 2010. وبالنسبة للبعض في دول العالم الثالث، التي يتهمها العالم الأول دوما بأنها تفتقر إلى الحرية كثيرا، كان الكشف عن تنصت أميركا على حلفائها بهذا الشكل والحجم مثار سخرية صفراء.
في خريف عام 1985، وكنت في الجامعة وقتها وكانت هناك مظاهرات طلابية حاشدة في جامعة عين شمس بالقاهرة، كانت قضية اختطاف السفينة اكيلي لاورو قد حلت باتفاق يقضي بنقل الخاطفين على طائرة مصرية إلى تونس. إلا أن الرئيس الأميركي وقتها رونالد ريجان أمر الطائرات الحربية الأميركية من على حاملة طائرات في المتوسط باعتراض الطائرة المدنية المصرية للقبض على خاطفي اكيلي لاورو الفلسطينيين. وعندما سئل ريجان من الصحفيين كيف عرف الأميركيون بأن الخاطفين على متن طائرة الركاب المصرية قال ببساطة: "من مكتب الرئيس (المصري)، نسمع ما يدور فيه". وبينما كنا نتعرض للغاز المسيل للدموع في الجامعة، ألح الصحفيون على الرئيس المصري حسني مبارك أن يرد على تصريح ريجان، لكنه التزم بعبارة "لا تعليق".
ولنعد إلى ما قبل ذلك من أيام تنصت أجهزة الأمن في كل بلدان العالم تقريبا على كل من له نشاط عام، بغض النظر عن مدى كون الشخص جيدا أم سيئا حتى بمعايير الأجهزة الأمنية ـ المهم يظل تحت المجهر. وكنا في ذلك الوقت نظن أن أجهزتنا وأجهزة الدول الماثلة لبلدنا هي التي تتنصت على الناشطين والرموز العامة، وأن الغرب هو بلاد الحرية التي لا تسمح فيها القوانين بمثل تلك الممارسات. إلى أن هاجرت للعمل في بلد أوروبي عريق في مسار الديموقراطية، وحدث معي أمر في مطلع التسعينيات جعلني أفتح عيني على أن التنصت في "بلاد الحرية" ربما كان أكبر وأوسع منه في بلادنا وأمثالها. لم تكن الهواتف المحمولة منتشرة كما هي اليوم، وكان الناس يعتمدون أساسا على الهاتف الأرضي.
بينما أجري مكالمة من بيتي في غرب لندن مع صديق في كامبردج بدأت أسمع أصواتا غريبة كل فترة على الخط، وتذكرت أنها تشبه إلى حد كبير أصوات أجهزة التنصت على الهاتف في بلادنا. لم يهدأ لي بال حتى سألت زميلا من مواطني البلد الذي أنا فيه عن الأمر فأجاب ببساطة: "هواتف كل الصحفيين ومن يعملون في أي مجال يؤثر في الرأي العام يتم التنصت عليها روتينيا". واكتشفت بعد ذلك أن ذلك البلد المتقدم يستخدم تقريبا ذات الأجهزة التي تسجل المكالمات كالتي في بلدان العالم الثالث، لذا تحدث ذلك الصوت الذي سمعته في المكالمة. المثير هنا أن أحدا لا يعترف رسميا بذلك، رغم أن الجميع يعلم أنها حقيقة لكن لا أحد يقر بها.
ولنتخيل الآن، مع الهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت وسهولة اختراق الشبكات من قبل مراهقين مغامرين والتطور التكنولوجي الهائل الذي يأتي بجديد كل يوم، إلى أين وصل التنصت نطاقا وتعقيدا. إذ أصبحنا في وضع يتجاوز بمراحل رهيبة ما تخيله جوروج أورويل في روايته (1984) عن دولة الأخ الكبير التي ترصد همسات مواطنيها وتشكل عقولهم بمعلومات مغلوطة. ولا عجب هنا أن التنصت من قبل الأجهزة على مواطني البلد أكبر في بلاد الديموقراطية والحرية منه في بلادنا وأمثالها. وأصبح ذلك الآن بالقانون، مع تعديل القوانين التي تتغول على الحريات الشخصية حتى أصبح كل ما يخص المرء متاحا لكافة الأجهزة وعلى شركات الاتصالات والتكنولوجيا أن تنصاع لطلب الحكومات في توفير المعلومات عن مستخدميها حتى دون مبررات قضائية في بعض الأحيان. وقد يحاجج البعض بأن ذلك مبرر في دول "تواجه خطر الإرهاب" لكن يصعب قبول التوسع في انتهاك الخصوصية بهذا الشكل في بلاد تعظ غيرها ليلا نهارا بمبادئ الحرية.
يقودنا ذلك للحملة ضد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لاتهامه الإدارة السابقة برئاسة باراك أوباما بالتنصت على هاتفه خلال الحملة الانتخابية للرئاسة العام الماضي. صحيح أن مثل ذلك الاتهام له تبعات خطيرة، وتذكر الناس بفضيحة ووترجيت التي أطاحت بالرئيس نيكسون، لكن الاتهام يظل منطقيا في سياق ما أصبح حقيقة شائعة حول التنصت في زمن الحرية والتكنولوجيا. ربما لا يستطيع الرئيس ترامب إثبات أن أوباما أقر شخصيا التنصت على هاتفه، لكن لا يشك المرء كثيرا في أن أجهزة الأمن الأميركية ـ أو أحدها على الأقل ـ تنصت على هاتف ترامب وفريقه وغيرهم. حتى لو أجري تحقيق ولم يثبت ذلك اجرائيا، فلا يعني أنه لم يحدث. إذ يسهل على الجهاز أو الإدارة التي قامت بالتنصت أن تتلف الأدلة التي في حوزتها "بشكل سري"، كما تجري كل تلك الأمور بسرية.