يعقوب بن محمد بن سالم الشعيليلا يحتاج الفرد للكثير من الوقت والجهد من أجل التأكد من تأثير ظاهرة العولمة في حياتنا اليومية بشكل عام وفي الأنظمة التعليمية بشكل خاص. كما أن الحديث عن هذه الظاهرة لهو أمر شائك وغير واضح لأننا نعيش في عالم يتغير بسرعة جنونية. وقد كثر الحديث عن هذه الظاهرة منذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا لكن لا يزال معناها يشوبه نوع من الضبابية. ولو نظرنا إلى العولمة سوف نلاحظ أن هناك رأيين حولها: منهم من يؤيدها ويرى أنها طريق للتحرر والبعد عن القيود السياسية والاجتماعية والتقدم في جميع مجالات الحياة، وادعى بأنها العملية التي بمقتضاها تلغى الحواجز بين الدول والشعوب وتصبح دول العالم كقرية واحدة وخلالها تنتقل المجتمعات من حالة التفرقة والتجزئة إلى حالة الاقتراب والتوحد ومن حالة الصراع إلى حالة التوافق. وهناك رأي مخالف وهذا الفريق يرى أن العولمة هي صورة من صور الاستعمار كما يرى أن مفهوم العولمة مرتبط بتطبيق السياسة الغربية تجاه العرب، وكلاهما يرى العولمة بنظرة متطرفة إما نأخذها كما هي أو نتركها ونتجنبها، ومن خلال الاطلاع على الأدبيات التي تحدثت عن التبعية الفكرية يظهر أن هناك من يرى أن التبعية الفكرية هي التمسك التام بما هو لدى الغرب من أفكار ومناهج بدون أي انتقاء منها، بل النظر إلى هذه المبادئ والأفكار على أنها هي أساس التقدم والرقي وهذا يعني أن يتغير فكر العالم العربي الإسلامي كليا بما يتوافق مع الغرب وبالتالي تلغى الحدود وتختلط الأفكار ولا يوجد تمييز للحضارة والأصالة. أما الانفتاح الفكري فهو الاستفادة من كل الثقافات العلمية بما لا يتناقض مع مبادئ الإسلام. إن الانفتاح الفكري المتوازن هو المطلوب لأنه يساعد على أمرين، أولهما التعرف على مكامن الخير والاستفادة منها وثانيا التعرف على مواضع الشر وتجنبها، وأن أهم تأثيرات التبعية الفكرية على المجتمعات العربية هي أحد الآثار السلبية والمصاحبة للعولمة والغزو الفكري والتي بالإمكان اعتبارها محاولة من بعض الدول القوية للسيطرة على جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في الدول النامية. إن أغلب الكتاب كرسوا كتاباتهم حول التبعية الاقتصادية وأهملوا في المقابل التبعية الفكرية على المجتمعات النامية وأشهر مثال على ذلك نجاح المستعمر الفرنسي في بث لغته وثقافته في بلاد المغرب العربي وأصبحت اللغة الفرنسية لغة العديد من المؤسسات الوطنية. ومن أمثلة تأثير هذه التبعية الفكرية على الفكر العربي الإسلامي مظاهر عدة منها ثقافة الاستهلاك وهي إحدى الثقافات التي بدأت تنتشر بشكل كبير في المجتمع العربي، فأصبح هم العرب الملبس والمأكل والشرب في أرقى الأماكن وصارت الماركات هي الهم الأول والأخير والاستهلاك لا يقتصر على الماديات فقط وإنما كذلك الاستهلاك في استخدام التكنولوجيا، وبالمقابل نفتقد ثقافة الإنتاجية. وثقافة العنف والتي ظهرت مؤخرا في المجتمعات العربية بما يسمى "بالربيع العربي". كما تروج وسائل الإعلام المختلفة من أفلام وأخبار تتعلق بالجريمة والعنف وشهدت المجتمعات العربية أشكالا مختلفة من العنف مثل: الجريمة، والعنف ضد المرأة والعنف ضد الأطفال. أما العنف الثقافي فهو يتمثل في إنكار ثقافة الآخرين ومحوها عن طريق وسائل الإعلام والاتفاقات والمنظمات الدولية. وظهر أيضا نوع آخر للعنف والذي يسمى العنف الرمزي والذي عرفه كل من بورديو وجان كلود باباسرون في كتابهما إعادة الإنتاج "إن كل سلطة عنف رمزي، أي كل سلطة تطال فرض دلالات، وتطال فرضها على أنها شرعية وقادرة على أن تواري علاقات القوة التي هي بمقام الأس لقوتها". وفي مقام آخر يعرفه بورديو بأنه "أي نفوذ يفلح في فرض دلالات معينة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعية، حاجبا علاقات القوة التي تؤصل قوته". ويمكن القول إن العنف الرمزي له القدرة على بناء معطيات فكرية جديدة عبر عمليات التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها وبناء تصورات جديدة تتوافق مع " الهيمنة والسيطرة والتي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية بعينها. وتخلخل القيم حيث أن التبعية الفكرية أثرت على القيم والعادات والتقاليد. فقد انصرف الأم والأب عن تربية الأبناء وأوكلوا هذه المهمة للمربيات الأجنبيات. كما زادت الفجوة بين الآباء والأبناء. .المجتمع العماني تأثر فكريا أيضا وانعكس ذلك بشكل واضح على الهوية الثقافية خاصة في المدن والمقصود بالهوية هنا هو الكيان الشخصي للفرد وهي ما يميز لشخص عن الآخرين. إن هدف التبعية الفكرية خلق نمط واحد للأفراد بينما تتميز الهوية بخصائص التفرد والتعدد والاختلاف. ويمكن تلخيص تأثير التبعية الفكرية على الهوية الثقافية العمانية، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، من خلال التأثير اللغوي واستعمال اللغة الإنجليزية في الاتصال والتواصل داخل البيت وخارجه واعتبارها لغة التحضر والتقدم. إن تعلم اللغات الأخرى هو وسيلة للانفتاح على الآخر عندما لا يُربك مناعة اللغة الوطنية وثقافتها لدى الأفراد والجماعات في المجتمع الكبير. والتأثير الخلقي وذلك بظهور سلوكيات غير مقبولة في المجتمع وخاصة في المدن الكبرى.التأثير القيميكما هو معروف أن المجتمع العماني يشتهر بالكرم والإيثار ولكن للأسف بدأت هذه القيم تختفي، وبالمقابل ظهرت قيم أخرى ترتبط بالذاتية والفردية. كما أن ثقافة الاستهلاك بدأت حاضرة وبدأت بنشر بذورها على المجتمع العماني في ظل ارتفاع الرواتب ودخل المواطن. التأثير الثقافيكما هو معروف أن الشعب العماني يعتز ببعض العادات والتقاليد والتي تعتبر موردا ثقافيا، وأيضا يعتبر اللباس التقليدي من أهم ما يميز الهوية الثقافية لهذا البلد. لكن ما هو ملاحظ اليوم أن الكثير من العادات والتقاليد تٌركت وأيضا استبدل الكثير من الشباب العماني ملبسهم بلباس غربي لا يمت للهوية العمانية بشيء.ومما تقدم يتبين توغل الأفكار الغربية في المجتمعات العربية بصورة كبيرة وقد جاءت هذه الأفكار بالعديد من المسميات والمفاهيم منها: التبعية الفكرية والعولمة الثقافية والغزو الفكري والاستعمار الفكري وجميعها تنصب في قالب واحد وهي التحرر من مبادئ المجتمع المحلي لتذوب في بوتقة أفكار الغرب التي لا تتناسب مع مبادئ الإسلام. قد يكون المخرج من هذه التبعية التي تؤسسها العولمة في المجتمعات الإسلامية يكون في أمرين، الأول استعادة الوعي بالهوية وتخليص العقل من الاختراق الفكري الذي ناله في الفترات الماضية، والأمر الثاني الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال التقنيات وذلك من أجل امتلاك المعرفة والقوة. إن التغير الاجتماعي والحراك الاجتماعي أمر محتوم ومعالجته تكون بالجمع بين الأصالة والمعاصرة. كما أن على المجتمع العربي أن يستفيد من هذه التغيرات بدلا من مقاومتها وهذه الاستفادة تكون من خلال المراقبة الدقيقة والمتابعة لمجريات الأحداث ووضع حدود في وجه التغيير الذي يمس الأصول والثوابت والمبادئ العليا للأمة الإسلامية، والترحيب بكل ما هو جديد ويساعد في طريق الإبداع من أدوات ووسائل وتساهم في تحقيق الآمال والأهداف. قال الله تعالى "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" صدق الله العظيم.