حسبته وافدا، كان يرتدي بنطلونا وقميصا داكنا أبيض اللون وربطة عنق أنيقة، استقبلني بابتسامة وهو يقوم بخدمة الضيافة بأريحية وحماس، حسبته وافدا فتحدثت إليه باللغة الإنجليزية لكنه تحدث إلى باللغة العربية مبتسما! اكتشفت من لغته ولهجته أنه عماني واسمه فياض. دار بيننا حديث عابر ألهمني كثيرا من المعاني والقيم، فهو شاب عصامي يعمل في مجال الضيافة والأغذية والمشروبات منذ سنوات، سألته: هل تخرجت من أحد المعاهد التدريبية؟ فأخبرني أنه التحق بأحد فنادق الخمس نجوم كمتدرب لمدة ثلاثة شهور ثم عمل في نفس الفندق ثلاث سنوات اعتبرها تأهيلا مهنيا رائعا، تعلم خلالها الكثير وهو على رأس عمله كمقدم خدمة بدءا من أصول الضيافة والخدمة والاتيكيت واللغة الإنجليزية وفن الاتصال مع الآخرين، شكرت في أعماقي ذلك الفندق الذي يقدم هذا التدريب للشباب العماني، وعندما عبرت له عن اعجابي بأريحيته وأخلاقه وحماسه في تقديم الخدمة والسعي إلى إرضاء الضيوف، شكرني وأخبرني أن ما ساعده على الاستمرار والنجاح هو استمتاعه وحبه لعمله وتقديره لما يقوم به، وهذا ما ساعده أن يلتحق بالمؤسسة المعتبرة التي يعمل فيها الآن، فقد خاض اختبارات ومنافسات مع العديد من المتقدمين. نظرت في ملامحه مرة أخرى وتابعت حركته بخفة بين الضيوف الذين يتلقون خدمته بالاحترام والتقدير. انتهزت الفرصة مرة أخرى وتحدثت اليه لمعرفة من أين يستمد حماسه؟ فاكتشفت أن حماسه ينبع من بحثه عن التفاصيل الجميلة في عمله اليومي، فهو يفتش عن المتعة والإثارة والابداع. فضلا عن ذلك فهو يعتز بما يعمل، ويقوم بوظيفته باستمتاع كأي صاحب مهنة يحبها. لقد ذكرني هذا بقصة سمعتها من أحد أساتذتي؛ فقد كان اثنان من أبنائه يدرسان في المرحلة المتوسطة، وكانا يرتادان ناديا للسباحة والفروسية في أوقات فراغهما، وهناك تعرفا على شاب الماني كان والداه يعمل خبيرا في ذلك البلد، فتعرف الشباب على بعضهم البعض ثم تطورت المعرفة إلى صداقة قوية، وكان كل منهم قد أخبر الآخر بحلمه وأمنيته. فكانت أمنية أحد الشابين أن يكون ضابطا في الجيش بينما كان أخوه يحلم بأن يكون مهندسا، أما صديقهما الألماني فكان حلمه أن يدرس فن الطهي لكي يعمل ( شيفا) في فندق فاخر. مرت الأيام واستمر التواصل بين الشابين وصديقهما الألماني الذي صار كبير الطهاة في فندق خمس نجوم، بينما لم يوفق أي منهما في تحقيق حلمه، لأنهما كما يبرر استاذي كانا يحملان توقعات وانطباعات المجتمع والأسرة.
من المهم جدا أن نزيل من ثقافتنا التمييز المهني بين وظيفة ,أخرى، فمن الأنبياء من رعي الغنم ومنهم من عمل حدادا ومنهم من عمل تاجرا وهكذا، بل إن بعض العلماء وأئمة المذاهب من كان يخسف نعله ويعمل اسكافيا لكي يعف نفسه ويعطي بقية وقته للعلم والعبادة.
إننا نحتاج لكي نكون أمة مبدعة ومنتجة أن نقدر ما نعمل ونحترم كل مهنة وحرفة وعلينا أن ندرك أن لكل وظيفة مستوى من الوعي والإدراك ومجموعة من القيم تمثل روح تلك المهنة أو الحرفة، وإذا لم يلتزم كل صاحب عمل بوظيفته فإن ذلك سينعكس سلبيا على صحته ومستوى دخله وسيقلل من ابداعه ويوقع في دائرة التخبط المهني. إن ما نلاحظه من ضعف في التزام بعض الموظفين وأصحاب المهن والحرف بأعمالهم يمكن أن يخلق تخبطا نفسيا وفوضى عقلية وعدم استقرار قد يذهب ببركة ما يتقاضى الشخص.
أتمنى أن يبحث كل منا عما يحببه في عمله وعما يُمتعه ويفجر حماسه ويدفعه إلى مزيد من الإبداع.


د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية