رؤية : طارق علي سرحان
[email protected]

كثيراً ما يتوه الأطفال الصغار، ولا يتمكنون من العودة إلى أهلهم، أو حتى يميزوا الطريق الى منازلهم، خصوصاً حينما يكونون في أماكن عامة مزدحمة كالأسواق الشعبية وشوارع التسوق وغيرها.
في الهند، "تفقد العائلات نحو 80 ألف طفل من أبنائها كل عام، ويظل 11 ألفاً منهم تائهين عن أسرهم بقية عمرهم". كما تشير الأرقام والاحصائيات العالمية. ومن المعتاد في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه نحو 1.27 مليار نسمة، أن يتوه العشرات من الأطفال عن أسرهم، في رحلة البحث عن لقمة العيش، حيث يجبرهم الفقر على العمل في سن مبكرة، وغالبا مايتوهون خلال التنقل عبر شبكة خطوط السكك الحديدية الهندية الواسعة.
كثير من تلك الحوادث يلهم صناع الأفلام، وتصلح لأن تكون سيناريو لعمل سينمائي جيد، بعد الإعداد لحبكته ورسم شخصياته، فهناك العشرات من التجارب المريرة التي تروى على لسان أصحابها الذين تمكنوا من التعايش معها واجتيازها، وينتهي بها المطاف على شاشات التلفزيون والسينما.
من بين أولئك الـ88 ألف طفل هندي التائهين عن أسرهم، يحكي لنا الطفل "سارو" أو شارو باللغة الهندية وتعني الأسد، قصة معاناته التي ألهمت صناع السينما، حينما ضاع عن أهله طفلا صغيرا، وهي مذكرات حقيقية وثقها صاحبها في رواية حملت إسم " طريق طويل إلى الوطن"، أو "a long way home"، وترجمت الى لغات عدة.
ليون (Lion) : فيلم دراما وسيرة ذاتية، صاغه السيناريست الكبير لوك ديفيس، بالتعاون مع الروائي لاري بوتروسو، وصاحب الرواية المقتبس منه العمل، سارو بريرلي رجل الاعمال الاسترالي الشهير، والهندي المولد.
أخرج الشريط المخرج التلفزيوني البريطاني غارث ديفيس، وتعد تلك اولى تجاربه السينمائية. الا أنه وبرغم ذلك فقد نجح في خلق تحفة فنية، متوازنة بعيدا عن أجواء الميلودراما الخانقة.
عمل فني مبهر على كافة الأصعدة، بداية من موسيقاه الساحرة للثنائي داستن أوهارولان وفولكر بيرتيلمان ، التي تأتي متناغمة مع مشاهد الشريط، مرورا بتصوير عالي المستوى تحت قيادة كريج فريزر، خاصة تلك التي تتبعت الطفل لحظة ضياعه ووثقت نظرات وجهه الحائرة والخائفة في نفس الوقت، ولحظات ضعفه شابا حين يفكر في عائلته التي تاه عنها. وصولا الى الاخراج بقيادة المايسترو ديفيس الذي دخل عالم السينما من اوسع أبوابه، حينما وقع الاختيار عليه لإدارة تلك النوعية من الاعمال الروائية المكتوبة بعناية والثرية بالقيم الانسانية والمعاني القوية.
الفيلم من بطولة الممثل الإنجليزي من أصل هندي ديف باتل، العائد بقوة بعد مرور ثمانية اعوام منذ أول أدواره بـ "المليونير المتشرد" او " Slumdog Millionaire" الذي حصد 8 جوائز أوسكار مستحقة آنذاك منها افضل فيلم وأفضل إخراج، ويقوم بدور "سارو"، شخصية العمل الرئيسية في أداء رفيع رشح به لأوسكار أفضل ممثل مساعد.
يجسد "سارو" خلال طفولته، الطفل الهندي العبقري صاحب الخمسة أعوام سوني باور. وتعتبر عفوية الطفل وأداؤه الاستثنائي المقنع والمعبر جدا، ومجازفة المخرج ديفيس بالدفع به نحو الشاشة بدون تلقي أي تدريب، من أكثر الأشياء التي أحببتها في العمل والتي أعطته القوة في جزئيته الأولى بالهند.
الحسناء الأميركية روني مارا بطلة فيلم " The Girl with the Dragon Tattoo"، تجسد دور صديقته "لوسي"، في حين تقوم بدور أمه التي تتبناه "سو بريرلي" النجمة الاسترالية نيكول كيدمان في أفضل أدوارها منذ سنوات والذي منحها ترشيح لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة، وزوجها "جون" ويقوم بدوره الممثل ديفيد وينهام . بالإضافة الى مجموعة من الممثلين الهنود الذين يقومون بأداء مميز كل على حسب مساحة دوره.
ليون من إنتاج استرالي، ورشح لخمس جوائز أوسكار عن أفضل فيلم ، أفضل ممثل مساعد ، افضل ممثلة مساعدة أيضا، أفضل تصوير، وأفضل موسيقى تصويرية.

...................................

أحداث

تبدأ الحكاية في مدينة خاندوا الهندية عام 1976، حين يذهب الطفل سارو مع أخيه الاكبر جودو، لسرقة الفحم من القطارات ومقايضته مقابل الحصول على الحليب.
يعيش سارو مع أخيه وأخته ووالدتهما التي تعمل في جمع الحجارة بأحد المحاجر في احدى القرى الفقيرة في الهند تسمى " جانيش تالاي".
ذات يوم، يطلب سارو من جودو الذهاب معه في جولاته الليلية داخل القطارات الخالية الواقفة على رصيف المحطة، فجودو يذهب هناك كل ليلة ليبحث عن أي مفقودات بين مقاعد القطار من الممكن مقايضتها لتوفير الطعام.
هناك، تنهار حياة الطفل صاحب الخمسة أعوام، رأسا على عقب، بعد أن يغالبه النعاس ويتركه جودو نائما على مقعد المحطة لكنه يأمره بأن لا يتحرك حتى يعود.
الا انه عندما يستيقظ لا يجد أخاه، فيركب أحد القطارات بغرض البحث عنه، لكن لسوء حظه يتحرك القطار الخاوي، ويصرخ سارو مناديا أخيه تارة، وطالبا المساعدة من أي شخص يسمعه تارة أخرى، لكن دون جدوى.
يظل الطفل المسكين في القطار لمدة يومين، متنقلا بين مقاعد القطار، يقتات على فتات الطعام الملقى تحت تلك المقاعد، ويقطع نحو 1600 كم عبر الهند الواسعة، منتظرا أن يتوقف ذلك القطار الذي فرق بينه وبين عائلته.
...................................
نحو المجهول

يتوقف القطار في محطة مدينة كلكتا عاصمة ولاية البنجال الغربية، ليبدأ سارو رحلته نحو المجهول. رحلة المعاناة والآلم، بدءا من مصارعة زحام المسافرين بجسده الضئيل المنهك، مرورا بلغته الهندية التي لم يفهمها أحد ـ الجميع في كلكتا يتحدث البنغالية ـ ، وصولا لمطاردات منتصف الليل من عصابات خطف الأطفال، التي تهاجمه مع مجموعة من اقرانه المشردين الذين سمحوا له بالافتراش والنوم معهم داخل احد الأنفاق القريبة من محطة القطار.
يكافح سارو ويواجه العديد من التحديات، وبفضل ذكائه الفطري ينجو من أهوال جمة، ويظل يستعطي في شوارع كلكتا، الى ان يلمحه أحد سكان المدينة، ويقرر أن يأخذه الى مركز الشرطة الذي بدوره يقوم بتحويله الى ملجأ للأيتام، ومنه الى موطنه الجديد، حيث يطير سارو الى تاسمانسا باستراليا بعد أن يتم تبنيه من قبل عائلة استرالية غنية، ومن هنا تنطلق تفاصيل جديدة ومختلفة تماما عن جزء الشريط الماضي، وكأن المخرج قد قصد تقسيم العمل لقسمين متناقضين، فبعد ان ينتقل سارو للعيش مع الزوجين جون وسو بريرلي الرقيقين المحبين، بدت الحياة تبتسم له وتعوضه عن ما فات، فعائلته الجديدة تفرغت لرعايته وتربيته، وكان قرارها منذ البداية عدم الإنجاب، واختيار طفل بحاجة للرعاية كسارو.

...................................

نوستالجيا

يكبر سارو ويصبح شابا في الخامسة والعشرين من عمره، ويقرر دراسة علوم الفنادق في ملبورن وهي قريبة من مدينته الحالية. وهناك يتعرف على مجموعة من الطلبة في نفس القسم ومنهم الفتاة لوسي التي سيقع في حبها فيما بعد.
في احد الأيام يتم دعوته الى تناول العشاء في منزل احد اصدقائه ذوي الأصول الهندية، لتقع عينا سارو على تلك الحلوى الهندية " تشبه المشبك المصري" التي اشتهاها صغيرا مع أخيه جودو ولم يتمكنا من شرائها انذاك، ليتذوقها ويقرر بعدها مصارحة أصدقائه بأنه تائه عن أهله الحقيقيين منذ طفولته، فتقترح عليه أحدهم البحث عن منزله بواسطة برنامج الـ Google earth.
تبدو المهمة مستحيلة، فذاكرته لا تحمل الكثير عن مكان منزله سوى بعض الأمور المشوشة والمتداخلة، لكنها تحمل الكثير عن حب عائلته، خاصة اخيه الذي كانت بينهما علاقة قوية، على الرغم مما شاهداه من مشقة ومتاعب جراء الفقيرة، وهو مايدفعه لأن يستكمل رحلة البحث التي تصبح شغله الشاغل في حياته.
بعد ليال طويلة من البحث المرهق المكثف، يهتدى سارو إلى مكان قريته في الهند، وسرعان مايذهب الى هناك، ليلتم شمله مع عائلته الاصلية في لقاء مؤثر، لكنه يبكي كالأطفال حينما يتبين له أن شقيقه الأكبر قد لقى حتفه في حادثة قطار بعد ضياعه بشهر واحد، كما يتضح له أن اسمه كان شارو وليس سارو وتعني الأسد.

ليون .. شريط إنساني بامتياز، يسحرك منذ افتتاحيته المباشرة التي تأتي دون تمهيد، فهو يضعك أمام الشخصية ويتركك لتتعرف عليها وتدخل عالمها وبعد قليل تتفاعل معها.
ليون لا يقل جمالا وروعة عن " مليونير متشرد" برغم اختلافهما تماما من حيث الموضوع والاسلوب، فهو من الاعمال التي ستبقى طويلا في الذاكرة، برغم حبكته العادية التي تدور عن مأساة يومية تحدث لآلاف الأطفال الذين يفقدون ذويهم، والتي من المؤكد أن نكون تابعناها مرارا وتكرارا حتى في السينما العربية، الا أن أي عمل اخر لن يقارن بذلك المستوى من الواقعية، كأنك تشاهد أحد الأعمال الوثائقية.
وللمرة المائة، إشادة حقيقية للإخراج الذي تمكن ببراعة من تقديم تلك المأساة ونجح في نقل الآلم والوجع للمشاهد، والرعب من فقدانه أعز ما يملك كوالدة سارو والمئات من حولها.