يشير إلى أن أدب الأطفال أدب ناشئ... واللغة العربية في تاريخها الطويل لم تلتفت له

دمشق ـ من وحيد تاجا
في حديث أقرب للبوح استعاد الشاعر الفلسطيني صالح هواري، ذكريات طفولته في بلدة سمخ على بحيرة طبريا...وتحدث لـ "أشرعة" كيف كان يرافق والده أحيانا عندما يذهب مع الثوار للتصدي لهجوم دوريات إسرائيلية على قريتهم، وكان يحمل له "الفشك" في كيس من الخيش يناوله واحدة واحدة.. ويعيد، بداية تألقه الشعري إلى قصيدة (الفحمة والماسة) التي فاز بها بالدرجة الأولى في مسابقة الشعراء الشباب (مهرجان أبي فراس الحمداني) في حلب عام ١٩٦٣.
ويؤكد انه اختار لنفسه الوسطيه والهوية، فهو الأقرب إلى التراثي، والأكثر بعدا عن التجريب لخوفه على الهوية. وهو في الوقت الذي لا ينفي " تهمة" الوضوح والمباشرة في قصيدته.. ويرى أن ( الجمال في البساطة).. صالح هواري من مواليد بلدة سمخ على شاطئ بحيرة طبرية- بفلسطين عام 1938. يحمل إجازة في الحقوق. وإجازة في اللغة العربية.. يكتب الأغنية، والمسرحية الشعرية للأطفال. بدأ يكتب الشعر من عمر يناهز الأربعة عشر عاماً، ونشر في الصحف والمجلات العربية واستمر بالكتابة إلى الآن.
أصدر ديوانه الأول عام 1972 تحت عنوان: (الدم يورق زيتوناً) ثم تتالت منشوراته حتى بلغت اثني عشر. يتميز بإبداع خفي وبراعة في توليد الصور الفنية إضافة إلى البساطة والمزاوجة بين الفن والفكر وتمتعه بالروح القومية التي تجلت في عدة أناشيد وأغانٍ قومية. كما حاز على عدة جوائز في الشعر. وأعد لمدة عشر سنوات البرامج التعليمية الموجهة إلى طلاب الأرض العربية المحتلة. من أهم دواوينه: الدم يورق زيتوناً، المطر يبدأ العزف، بطيئاً يمر الدخان، الموت على صدر البرتقال، أم أحمد لا تبيع مواويلها، أغاني أيوب الكنعاني، مرايا الياسمين، ومن فرحٍ بكينا، ماقاله الغيم للشجر. كما اصدر للأطفال: عصافير بلادي، و هنادي تغني. فضلا عن مسرحية شعرية بعنوان: قتلوا الحمام.

* تقول في قصيدتك "قالوا انتسب": تلك الطفولة هل أنسى مواجعها.. وكيف ازهارها اغتيلت بلا سبب، وسؤالي ما الذي بقى عالقا في ذهنك عن أيام الطفولة ومواجعها بعد كل هذه السنوات؟
** في بلدة "سمخ"على شاطئ بحيرة طبريا ولدت عام ١٩٣٨، وكانت دراستي الأولى في مدرسة "سمخ الابتدائية" ومازالت أسماء بعض المعلمين عالقة في ذهني كالأستاذ محمد لافي، والأستاذ امين.. والأستاذ فرج، كذلك لم انس زميلي (( فواز عيد)) الذي كان معي في الصف وكنا نتضايق جدا من درس الحساب.
وكثيرا ما كنا ننال عقوبة الحبس في الصف لعدم حفظنا جدول الضرب (تلك هي علامات النبوة المبشرة بولادة شاعرين أنا وهو...)....
واذكر أننا نحن الأطفال كنا بعد الانصراف من المدرسة ظهرا نهرع إلى السباحة في بحيرة طبريا وكنا نصطاد سمك(المشط) بعلبة معدنية مثقوبة نضع فيا قطعة خبز فيهجم السمك الصغير عليها، وحين يدخل فيها نحبسه بأكف أيدينا الصغيرة..
_ ومن ذكريات الطفولة أيضا أننا كنا نتصدى للزورق الإسرائيلي المسمى (باللّنش) والذي كان يجوب البحيرة ونرشقه بالحجارة.
وقد وردت هذه الصورة في قصيدة لي عنوانها "بعيني تنامين يا طبريا" القول فيها:
سقى الله ياسمك المشط رملا سقانا / صغارا صغارا..
وكنا نرد/ على " اللّنش " نيرانه بالحجارة، ومن خيوط ذكريات الطفولة العالقة في ذهني إنني كنت أحيانا أرافق والدي عندما يذهب مع الثوار للتصدي لهجوم دوريات إسرائيلية على قريتنا، وكنت احمل له ( الفشك) في كيس من الخيش أناوله واحدة واحدة، وقد شهدت إحدى التي خاضها مع الثوار الذين كانوا يتمركزون.
خلف سكة الحديد لرصد جنود الاحتلال، ومازالت العبارة التي سمعتها من قائد دورية يهودية لجنوده ( كديما سماخ) بالعبرية ومعناها تقدموا إلى سمخ، هذه العبارة مازالت تطن في أذني حتى اليوم.
هذه بعض ذكريات الطفولة التي لن أنساها أبدا، وقد حملتها معي في بلاد الشتات التي تحملت قساوتها ومرارة عذاباتها ومواجعها في خيام البرد والتشرد والجوع.
* يعيد بعض النقاد بداية تألقك الشعري إلى عام ١٩٦٨ مع قصيدتك (أنشودة الفارس الغريب) التي فازت بالجائزة الأولى في جامعة دمشق آنذاك..ما رأيك..
وهل يمكن الحديث عن الحراك الثقافي على صعيد الشعر في تلك الفترة ؟
** قصيدة (أنشودة الفارس الغريب) كانت فعلا مفتاحا ذهبيا لدخولي منطقة التألق الشعري..
وقبلها كانت قصيدة (الفحمة والماسة) التي فزت بها بالدرجة الأولى في مسابقة الشعراء الشباب (مهرجان أبي فراس الحمداني) في حلب عام ١٩٦٣ م.
وفي تلك الفترة كان الحراك الثقافي في أوجه: أمسيات..
ندوات – جمهور يحضر ويناقش...
وآنذاك ظهرت كوكبة رائفة من شعراء الستينات أمثال: (ممدوح عدوان، علي كنعان، فايز خضور، فواز عيد..) والشاعر الذي لم يمهله الزمن لمواصلة مسيرة الإبداع الشاعر ( تيسير سبول) وغيرهم.
ولا أظنني أبالغ إذا قلت في تلك الفترة تجلى سلطان الشعر الأبهى على عرش الجامعة.
.وكان لا يمضي أسبوع دون أن تقام أمسية شعرية يحضرها جمهور غفير يتحرك في فضاء واسع من الإبداع الحر.
هذا وقد استطاع جيلنا بما قدمه من إبداعات أن يترك لمساته الواضحة على تجارب جيل مبدع جاء بعدنا..
وقد ظهر جليا الإقبال النهم على قصيدته التفعيلة.
حيث قام صراع حاد بين القصيدة الكلاسيكية والقصيدة الحرة (الشعر الحر)، ولم ينته حتى اليوم..وكان القرار الأخير للشعر الحقيقي بأي ثوب فني ظهر بغض النظر عن الوزن والشكل..
الإبداع في ما يتجلى في النص من الشعر.
*وأين أنت من هذا الصراع..مع القصيدة الكلاسيكية أو مع قصيدة النثر..؟
** لا أنكر أنني كنت وما زلت ارفض اسم " قصيدة النثر"..
لان كلمة قصيدة أساسا تعني انتظام النص في خيوط التفعيلة...
وإلا كان نثرا متحللا من الإيقاع..
وبالتالي يمكن أن نسميها (النص الفني النثري)، وليس في هذا أي انتقاص منها أو ممن يكتبها..
فانا لست ضد هذا النوع من الكتابة، وأعترف أن كثير من نصوصها تحوي من الشعرية ما لم تقو أي قصيدة موزونة على توفيرها..
وهذا يعود إلى قدرة الشاعر الفنية والفائقة على خلق الومضة الإبداعية في النص..
*يرى الناقد الدكتور خليل موسى، أن الشاعر صالح هواري هو صلة الوصل بين محمود درويش ويوسف الخطيب،" لقد اختار لنفسه الوسطيه والهوية، فهو الأقرب إلى التراثي، والأكثر بعدا عن التجريب لخوفه على الهوية، ما قولك ؟
**نعم.. كلام الناقد الدكتور خليل موسى صحيح مئة بالمئة.
وهذا الرأي نتاج سبره العميق لتجربتي الشعرية عبر تلك السنوات المديدة..
فأنا شاعر حريص جدا على الحفاظ على التراث والنهل من منابع ضوئه الصافية..هذا مع الجنوح نحو التجريب الذي لا بد منه لتطور عملية الإبداع والشاعر الحقيقي هو الذي يجمع بين الأصالة المحافظة على التراث ككنز يثرى هوية المبدع بمخزونه
الثقافي الأصيل..
وبين المعاصرة المكتنزة بأضواء الحداثة...
*يستوقف القارئ لأشعارك ذلك التفرد والتميز في توليد الصور الفنية الجميلة المشبعة بالدلالات والإيحاءات والرموز..؟
** لا أبالغ إذا قلت أنني ومنذ مفتتح تجربتي الشعرية وأنا شديد الاختفاء بالصورة الفنية والتي لا بد منها لتوليد المعنى الجميل..
وتراوح الصورة في النص الإبداعي الذي اكتبه بين صورة تقليدية يشترك فيها المشبه والمشبه به بصفة مناسبة، وبين صورة تركيبية تنهدم من خلالها العلاقة بين طرفي التشبيه فيرتبك المتلقي حينئذ في شباكها كطائر يريد أن يضرب بجناحيه رأس الفضاء ليعانق الحرية.
وهنا تكمن الدهشة اللاهثة وراء الحلم.
هكذا الصور الشعرية عندي والشعور هو الذي يحدد هذه الصور الفنية ودائما أسعى إلى أن تكون هذه الصور موظفة في سياق النص وليس مترفة لمجرد الفن للفن...
*يلاحظ، أحيانا، طغيان قصيدة الفكرة " فكر المقاومة " عندك على قصيدة الحالة الشعرية..؟
** قد تكون محقا..
ولكن الشاعر صاحب القضية إنسان لا يمكنه إلا أن يطرح فكرة واضحة كالشمس لأنه يبشر بقضية واضحة كالشمس أيضا..
ولا مجال في هذا السياق أن يميل إلى الرموز والتلاعب بالألفاظ أو إلى التهويم في الخيال..
فانا من منطلق كوني شاعرا تغرب عن وطنه لا يمكنه إلا أن يكتب قصيدة توصل أفكاري التي اطرحها بأسلوب فني مشرق لا يكتنفه الغموض، وعادة أميل إلى التصوير لا إلى التقرير والمفردة عندي موظفة في سياق العبارة وفكر المقاومة جوهر قصيدتي الأساسي ولكن ليس على حساب الجانب الفني ابدا، وأنا حريص دائما على أن أزاوج بين الفكر والفن فلا اجنح بأفكاري كثيرا ولا أفرط بالعناصر الفنية التي هي وعاء هذا الفكر...وما يهمني في عملي الإبداعي هو التعبير عن مكنونات ذاتي بفن عالي الجودة بعيدا عن الصنعة البديعية التي تطفئ أحيانا ومض الشعر في القصيدة..
*قلت في أحد حواراتك أن الديوان الذي يشدك باستمرار إلى محاكاته هو" أم احمد لا تبيع مواويلها " والذي كتبته في فترة الانتفاضة الأولى...
لماذا..؟
** ديوان " أم احمد لا تبيع مواويلها " هو من الدواوين التي تشدني بشوق جارف.
لأنه ولد في خضم الانتفاضة الأولى..
وفيه من الصدق الفني والسبك اللغوي المبني على مداميك فنية متميزة ماجعله يتميز عن غيره وليس فيه شيء من التنويم الشعري المنفلت الذي لا طائل منه سوى الجنوح مع خيال واهم..
وأم احمد هي كل امرأة فلسطينية اشتركت في الانتفاضة دافعة أبناءها إلى قتال الجنود المحتلين الغاصبين.
لذا حملت (لجن العجين) مليئا بقطع الحجارة لتوزعها على الأطفال..
ودائما أردد من هذا الديوان هذه الأسطر:
تباركت يا وردة العاشقين تبارك كف يشد على حجر في الخليل وكفّ ولا نطلب الآن من أحد حجرا واحدا العصافير يا أم احمد في خان يونس كفوا ووفّوا نسور "الدهيشة " والامعري إذا مات رفٌّ على الرمل لطار الى الموت رفٌّ تبارك عرس فلسطين:
نسر يزفُّ أخاه ونسر يُزَفُّ ولا نطلب الآن من احد حجرا واحدا عندنا من حجارة غزة كسارة لا تجف
*بالتالي كيف تنظر إلى شعر المقاومة الآن....؟
** لم تعد القضية الفلسطينية مقتصرة على شعبنا العربي الفلسطيني وحده..
إنها قضية إنسانية تتطلب من كل عاشق للحرية في العالم أن يعبر عنها بكل ما لديه من شعور إنساني وان يدافع عنها ويتصدى لدعاة الباطل الذين يتنكرون لحقنا المشروع في فلسطين...ان معظم دول العالم تدري أن للشعب الفلسطيني حقاً في وطنه فلسطين، ولكنها مقموعة من الدول الاستعمارية الظالمة الغاشمة التي تؤيد الباطل على مرأى العالم كله وتكيل بمكيالين وميزانها أعرج تتخبط كفتاه في يد ريح آثمة منحازة إلى الظلام.
ولم يقتصر الشعر الفلسطيني على الشعراء العرب والعالم دافعوا بالكلمة عن الحق الفلسطيني ووقفت إبداعاتهم إلى جانب الرصاصة في المعركة المؤيدة الشرعية للحق الفلسطيني،غير أن انحياز الغرب إلى الباطل الصهيوني أطال امض الحل لهذه القضية..
ولن تكون الحل إلا على يد المقاوم الفلسطيني والمقاومة مفتاح الدخول إلى الشمس الفلسطينية التي لن تغيب..
*يعتبر البعض عودة الشاعر الفلسطيني إلى الذات انسلاخا عن مجتمعه وقضيته، في الوقت الذي تطالب أنت بخروج القصيدة الفلسطيني من الخنادق إلى فضاء الحياة الإنسانية..؟
** لا يمكن أن تكون عودة الشاعر الفلسطيني إلى الذات انسلاخا عن مجتمعه وقضيته فهو أمر تقتضيه العملية الإبداعية التي يستهويها التنوع في مضمار التعبير، إذ أن المبدع لا يستطيع أن يكرس قلمه لجهة أو قضية واحدة لئلا يقع في التكرار والتقليد لذا جنح إلى التعبير عن القضايا الإنسانية بما فيها من الحالات الوجدانية التي تجدد وسائل التعبير والتفكير لدى المبدع..
وكل شعر يعبر عن الحياة بما فيها من ايجابيات وسلبيات وتناقضات هو شعر مقاوم، فالشاعر الذي يصف فراشة تحوم حول ضوء المصباح بدافع عشقها الصوفي الذي يؤدي إلى الموت الجميل هو شعر مقاومة والذي يكتب عن الجمال والقبح فكأنما يدافع عن الحق ويهاجم الباطل..
وفي رأيي أن على شاعر المقاومة ألا يبقي قاموسه التعبيري محصورا في الخندق بل أن يسعى جاهدا إلى التحليق في فضاء الحياة الإنسانية ليكتب عن المضطهدين في العالم والمقموعين والفقراء و....
حتى ينال شهادة المقاوم الشاعر الحقيقي.
* كيف تنظر إلى علاقة الشاعر بالسلطة السياسية..؟
** الشاعر الحقيقي هو الذي تشير بوصلته دائما إلى مرفأ الحرية، رافضا القيود ليستطيع أن يتحرك في فضاء ذاته كطائر يجوب الآفاق..
ولكي يتحقق له ذلك فانه يرفض الانطواء تحت سلطة سياسية مهيمنة، وإلا فان نصوصه الإبداعية التي يكتبها استجابة لـ أيديولوجية معينة تخرج مبتورة هزيلة تتكئ على عصا واهية، وسرعان ما تسقط، وما السلطة السياسية المهيمنة إلا خنق لروح النص وسجنه في قفص لا يليق بالمبدع الحر...
وعلى الشاعر تأكيد حضور جوهره الإنساني صافيا من كل شوائب القمع والانقياد..
وما الخضوع للسلطة إلا تدمير لمفهوم الإبداع من خلال فرض نمط وحيد خانع يؤدي دوره المرسوم له سلفا في خدمة الهيمنة السلطوية (عدوة الإبداع). وقد اثبت الزمن أن الشعراء الذين تزلفوا لإغراءات السلطة السياسية أنتجوا نصوصا فجة تطفو على سطحها رغوة مؤقتة سرعان ما انطفأت عند أول هبة ريح..
وأما الشعراء الذين افتكوا زمام الحرية وخرجوا عن طاعة الأدلجة ولم يتملقوا فقد افرزوا أعمالا أدبية يفتخر الإبداع بها.
* " تتهم " قصيدتك بالوضوح والمباشرة..
ما قولك ؟
** اعترف بهذا، وهذا دأبي في معظم قصائدي، ذلك ان الوضوح الذي يهبط إلى الدرك المباشرة والتقريرية هذه اللمعة الجمالية التي تضفي على النص ظلالا من الضوء والعطر..
وأنا أدعو دائما إلى الوضوح الموضح بالغموض الشفيف لان وراءه تكمن مسحة الإبداع..( الجمال في البساطة) ولكي يتوفر هذا الجمال على الشاعر وأن يقدم نصه على طبق من الضوء المغلف بأوراق شفيفة نتوهم أننا من ما ورائها ولا نراها...أما أولئك الشعراء الذين يوغلون في الرمزية ليوهموننا بأنهم مجددون وقادرون على التجديد والإتيان بالأصعب الذي لا يقوى عليه آخرون فواهمون..
لان الإيغال في الرمزية هو إيهام واستغلاق يؤدي إلى طريق مسدود...
ويحدث هوة عميقة بين الشاعر المتلقي...
وقد سئل احد الشعراء: لماذا تميل كثيرا إلى البساطة؟ فأجاب لأن الذين يجيدون البساطة قليلون..
فالشعر في رأيي ليس أبوابا تترنح عليها الإقفال...بل هو بساط تتأرجح عليه الظلال..
يهزك بشفافيته ويقودك إلى أقصى نبع
أبدعته أنامل الخيال..
وإذا دعوت إلى البساطة فلأنني اعتبرها السهولة المتحللة من قيود الصنعة...السهولة المتجنحة، المشجرة بقناديل من الضوء الذي نراه ولا يرانا..
* كتبت العديد من القصائد والمسرحيات الغنائية للأطفال.
هل تعتبر الكتابة للأطفال فنا قائما بذاته له أدواته الخاصة، أم انه اجتهاد خاص من الكاتب ينجز فيه متى شاء؟
** أدب الأطفال أدب ناشئ...
ولغتنا العربية في تاريخها الطويل لم تلتفت إلى هذا الجنس الأدبي الجديد..
ذلك أن أدب الكبار اخذ الحيز الأكبر في أدبنا العربي ونتاجنا التراثي كله...
والمرحلة التي تم فيها البدء بالكتابة للأطفال هي مرحلة مابعد نكسة عام ١٩٦٧ م.
والذين كتبوا في سوريا هذا الأدب قلة..
ثم بعد ذلك اخذ هذا الأدب منحنى ايجابي لعد مؤتمر ١٩٧٩ الخاص بالأطفال حيث اهتمت وزارة الثقافة السورية واتحاد الكتاب العرب بأدب الأطفال من خلال الإصدارات المتنوعة والندوات والمؤتمرات...والكتابة للأطفال تتطلب ثقافة عالية، ومعرفة فائقة باللغة التي يجب انه يتعامل معها الكاتب لإيصال النص إلى الطفل بسهولة ومتعة..و الكتابة للأطفال من أصعب أنواع الأدب كونها تقتضي القدرة على التعامل مع قواعد العمل الإبداعي الموجه للأطفال.
وإيفائه حق من الشروط الفنية التي تؤهله ليكون عملا يصل إلى الطفل بسهولة مع كثير من المتعة والفائدة.
*توقف العديد من النقاد أمام اللغة البسيطة والسلسلة المستخدمة في قصائدك الموجهة للأطفال.
ماهي خصوصية اللغة التي يجب أن نتوجه من خلالها للأطفال؟
** لعل أول الأسس التي يجب أن يقوم عليها النص الطفلي هو اللغة المناسبة للطفل والقادرة على تجسيد الفكرة بانسيابية وعذوبة..
وقد لاحظت من خلال خوضي لضمار الكتابة للأطفال أن لغة بعض الذين اقتحموا هذا المضمار تلبس لغة الكبار وتتوشح بالصور التقليدية التي تعبر عن قصور باع كاتبها..
ومن سمات لغة أدب الأطفال اختيار المفردات الرشيقة التي تخفق بالحركة.
لان الطفل بطبيعته مفطور على الحركة والنشاط والغناء..
وهذا لا يتحقق إلا من خلال توفير المناخ القادر على إثارة كل هذه المكنونات التي تجيش في نفسه بالفطرة.
أما اللغة الصعبة فينغر فيها الطفل لعدم قدرته على التعاطي معها وإذا كان الإبداع كما يقول (بودلير) هو الطفولة المستعادة قصدا فإن كثيرا من الأعمال الإبداعية الموجهة للطفل لا تمت بصلة إلى الطفولة لعجزها عن التعبير الصافي الصادق عن مشاعر الطفل..
* تحدث الكثيرون عن التربية العنصرية التي تتبعها إسرائيل في تربيتها لأطفالها.
والسؤال: كيف يجب أن نربي أطفالنا..
وماهي أوجه الاختلاف في ما نريده من أطفالنا في الداخل وفي الشتات ؟
** تزخر مناهج التعليم الإسرائيلية بالكراهية والحقد على العرب وتزويد الجغرافية..
وتشويه التاريخ العربي.
وقد وصفت الخبيرة التربوية المصرية (صفاء عبد العال) في كتابها (التربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية) مناهج التعليم في الكيان الصهيوني بأنها تهدف إلى تعبئة النشء الإسرائيلي نفسيا باتجاه الحرب.
وترسيخ عناصر الكراهية والحقد في نفوس الأطفال.
واعتبار أن لا وسيلة لمواجهة العرب إلا بالقتل والإبادة..
كذلك قامت سلطات الاحتلال بتشكيل لجان تولت فحص الكتب المدرسية العربية في مدارس الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان المحتل وجعلها ملائمة مع أهداف الصهيونية.
وحذفت من الكتب الجديدة كل ما يتعلق بالعدوان الصهيوني على فلسطين والأراضي العربية.
كذلك قامت بحذف جميع القصائد التي تتحدث عن نكبة فلسطين أو التي تتطرق إلى موضوعات وطنية وقومية..كل ذلك من اجل اقتلاع الطفل العربي من أصوله وجذوره وفصله عن ترابه وكنزه الإنساني المليء بالمفاخر والأمجاد لكي يصبح أنسانا بلا هوية خاصة به..
غير آن الإنسان العربي في الأرض المحتلة بوعيه القومي أدرك ما تحوكه الصهيونية فتشبث أكثر بانتمائه من وعي وإصرار وقوة.
وبالمقابل، فان مناهج التعليم الفلسطينية قد أكدت شهادات دولية على يد كثير من الخبراء الدوليين أنها مناهج سليمة وليس فيها تحريض أو حض على كراهية اليهود كما تدعي الأوساط الصهيونية هذا..
وقد اصدر الاتحاد الأوروبي تصريحا رسميا أوضح فيه أن الادعاءات الإسرائيلية ضد المناهج العربية في الأرض المحتلة لا أساس لها من الصحة..
وعلى ضوء هذا أكدت الدكتورة ( يسرى زيدان) المتخصصة في المناهج وطرق التدريس إن الكتب الفلسطينية ليس فيها أي شيء يتعلق بالعنف والتحريض.
ومن خلال هذه المقارنة والشهادات يظهر الافتراء الإسرائيلي واضحا بخصوص ما يسمى التحريض على الإسرائيليين في المناهج الفلسطينية مقابل حقوق دافعة تتعلق بإشكال متعددة من التحريض والكراهية تعج بها المناهج الإسرائيلية..
هذا وأعداؤنا يدركون تماما مدى أهمية الطفل العربي أكثر منا..
فالجنود الإسرائيليون يعملون جاهدين لإصابة الطفل العربي في الأرض المحتلة في الرأس مباشرة لاستئصال المستقبل في كل طلقة يطلقونها..
كذلك أدركت " إسرائيل" أن الاستيلاء على الأرض وإقامة المستوطنات لامعنى لها مادام هناك جيل فلسطيني ينمو كل يوم مطالبا بحقه في الوجود والأرض والتاريخ وعلينا نحن العرب أن نعرف كيف نربي أطفالنا ونقوي من عزائهم ونزودهم بالكنز المعرفي الذي يقوده إلى القبض على المستقبل المهدد من أعداء الحياة ومغتصبي الحقوق..
*عملت لمدة عشر سنوات معدا للبرامج التعليمية الموجهة إلى طلاب الأرض العربية المحتلة،ما الذي يمكن قوله عن خصوصية هذه البرامج وأهميتها..؟
** معروف إن " إسرائيل " كانت تراقب دائما المناهج العربية وتحذف منها مايتعلق بفلسطين وتاريخها وجغرافيتها..
وتستبعد من كتب الأدب العربي النصوص القومية التي تتغنى بأمجاد العرب وانتصاراتهم وتضحياتهم، وتقوم بالترويج للهجات العامية بدل الفصحى لفصل الطالب العربي عن جذوره..
وكانت السلطات الإسرائيلية تصور فلسطين قبلا صحراء خالية إلا من الجاليات اليهودية وهم أحالوها إلى جنة..
وقد ألغت " إسرائيل" بعد ١٩٦٧ وزارة التربية والتعليم العربية، وضمت المدارس العربية إلى وزارة المعارف الإسرائيلية بعد ضم القدس.
وطبعت كتبا من المنهاج الإسرائيلي وأجبرت المدارس العربية على التقيد به..
وكنت من خلال برنامجي ( شعاع من المعرفة) من دمشق أقوم بالرد على كل هذه الادعاءات الإسرائيلية والإجراءات الهجومية الغاشمة على تاريخنا وآرائنا وديننا..
فأقدم مثلا القصائد القومية الشهيرة في أدبنا العربي وكتبت العديد من الحلقات التعليمية حول أدب المقاومة العربية والفلسطينية..
وأدب الانتفاضة ضد العدو المغتصب إسرائيل هذا ولا زالت هذه الحلقات التعليمية والتي تزيد عن ألف حلقة موجودة ومحفوظة في مكتبة الإذاعة السورية في دمشق..