معلم معماري إسلامي بديع في شبه القارة الهندية

زاره ـ مؤمن بن قلم الهنائي
قليلة هي المعالم التي تظل ذكراها ساكنة في الوجدان حيث التفاصيل تتجلى بروائع ما تحويه من خصوصية وتفرد ومواقف تسمو بالقيم، وتاج محل احد هذه المعالم التاريخية الجميلة الخالدة بكل تفاصيل الجمال. يقع المعلم التاريخي تاج محل بمدينة أغرا بمقاطعة أوتار براديش شمالي الهند على ضفاف نهر يامونا في شبه القارة الهندية، ومدينة أغرا كانت عاصمة المغول في ذلك الحين إلى أن قام الإمبراطور المغولي شاه جهان الذي حكم الهند قبل أكثر من 300 سنة بنقل العاصمة من أكرا إلى مدينة دلهي والتي هي عاصمة الهند حتى اليوم.
ان هذا البناء الضخم قد شيده الإمبراطور شاه جهان تكريماً لزوجته وشريكة حياته والتي كان اسمها "ممتاز محل" حيث كان الإمبراطور يحب زوجته كثيراً لأنها كافحت معه وكانت مخلصة له وأنجبت له ستة أولاد، وفي احدى الروايات انها انجبت له اربعة عشر ولدا ولما توفيت في عام 1630 حزن عليها زوجها الإمبراطور حزناً شديداً وقرر أن يقيم لها أجمل مقبرة يمكن أن يشاهدها إنسان، فاستدعى المهندسين المعماريين من كافة أنحاء العالم من الهند وتركيا وفارس والجزيرة العربية ليتعاونوا في وضع تصميم مميز لهذا البناء، يعتقد أن المعلم عيسى أفندي من تركيا كان هو المسئول عن تصميم المبنى. أما محمد خان من شيراز وعبد الغفار من مولتان فكانا خطاطي المشروع. بينما كان المسئول عن النواحي الفنية والتصميم الداخلي كان قادر زمان خان من الجزيرة العربية.
واستخدم في البناء أكثر من أربعين نوعاً من الأحجار الكريمة..بني منحدر بطول عشرة أميال عبر أغرا لسحب مواد البناء إلى قمة القبة في موقع البناء..
وللتمكن من رفع القبة شيدت سقالة هائلة حيث تطلب هذا الجزء من المبنى على وجه الخصوص الكثير من الجهد والمال. ويقال إن القبة وحدها كلفت أكثر من باقي المبنى كله. وتقول الأسطورة إن شاه جيهان حين اقتراب تاج محل من النهاية قيل له إن تفكيك السقالة سيستغرق خمس سنوات. فما كان منه إلا أن أعلن أن كل من يرفع قرميدة تصبح ملكاً له، وإذ بالمهمة تنتهي بين ليلة وضحاها..
وبعد 18 عاماً من العمل المضني أصبح البناء جاهزاً بعد أن اشترك في تنفيذه أكثر من 20 ألف عامل، وقد جلبوا له الحجارة الجميلة والرخام الأبيض المصقول من الهند ومصر والجزيرة العربية واضاف محدثنا ان ارتفاع المبنى يبلغ حوالي 61م وهو مرصع بالرخام الأبيض ومكتوب عليه آيات من القرآن الكريم باللون الأسود وقد تم ترصيع وتزيين جدران المبنى بالأحجار الكريمة والعقيق وزهور عباد الشمس وأحجار الفيروز في تنسيق رائع يبهر الأبصار ويسلب العقول كما تحيط بالمبنى من كل جانب مجموعة من القباب الكبيرة والصغيرة غير المتصلة والتي يبلغ ارتفاع بعضها 41 متراً.
وكانت تحيط بالمبنى حديقة كبيرة تعتبر قمة في التخطيط والتنسيق الرائع حيث كانت تضم النافورات الجميلة والأشجار العالمية المشكلة بطريقة هندسية جميلة وبعد وفاة الإمبراطور دفن في نفس البناء إلى جانب زوجته.
وانت تحدق بعينيك في هذا المعلم المعماري الاسلامي البديع تطوف بخيالك الى حكايات متواترة تحكي اسرار ممتاز محل او سيدة التاج، التي توفيت وكان هذا الصرح العظيم آخر أمنية طلبت من زوجها تحقيقها. وممتاز امرأة هندية مسلمة ضربت أروع الأمثلة على الوفاء والإخلاص فتفتحت لها أبواب التاريخ الواسعة وأصبحت سيرتها تتردد على الألسنة ، وصار ضريحها إحدى عجائب الدنيا السبع وتعني كلمة تاج محل (قصر التاج) بينما لا تعرف حتى الآن أصل تسمية القصر بتاج محل، وذلك لأن المؤرخين في عهد الشاه كانوا يطلقون عليه (روزا) ممتاز محل ، أي ضريح ممتاز محل ، وبعدها شاع اسم تاج محل ويترجم على أنه قصر التاج أو تاج القصر. وتعود جذور قصة بنائه إلى زواج شاه جيهان من ممتاز. وعلى الرغم من أن هذا الزواج كان الثاني للشاه إلا إنه كان نابعاً من قصة حب حقيقية وتجربة عاطفية سامية ، وكانت ممتاز رفيقة دائمة لزوجها لا تتركه في كل رحلاته وسفرياته وجولاته وزياراته ومهماته العسكرية بل ومستشارته وصديقته وكانت الدافع القوي لقيامه بالكثير من أعمال الخير والبر وخاصة مع الضعفاء والفقراء والمحتاجين وقد توفت ممتاز بعد ثلاث سنوات من خلعه من العرش عندما كانت ترافقه في حملة عسكرية وعندما عاد إلى السلطة اعتزم شاه أن يخلد ذكرى زوجته ،التي كانت آخر كلماتها له وهي تودع الدنيا: لا تتزوج من بعدي، لن تحب امرأة مثلي، لا تنسى أن تزور قبري.. وكان يزور قبرها وهو حر طليق وظل يزوره عبر المرآة وهو سجين حتى أغمض الموت عينيه سنة 1666 وتشير الروايات انه بعد موت ممتاز حبس شاه جيهان نفسه ثمانية أيام في قصره ليخرج للناس بعدها رجلاً آخر يختلف عن الذي كان عليه قبل أربع سنوات حينما اعتلى العرش. وبقي لعامين وهو يعيش الحداد عليها. حين إحضار رفات ممتاز محل من برهانبور حيث فارقت الحياة إلى أغرا عاصمة الإمبراطورية المغولية، وضع في حجرة دفن مؤقتة تحت الأرض على ضفة نهر جومنا. أما ضريحها الدائم فقد وضعت أساساته عام 1631 لينتهي بناؤه عام 1653.
وأشرف على تشييد تاج محل المهندس المعماري عيسى خان الذي جاء من شيراز بإيران لبناء هذا الصرح التاريخي. ويعتبر تاج محل رمزا للحب الخالد، حيث دفن شاه جاهان الى جانب زوجته الراحلة ممتاز. وشارك في عمليات تشييده 20000 عامل واستغرق بناؤه عشرين عاما. انتهى تجوالنا في هذا المعلم التاريخي بعد استقراء فصول وتفاصيل قصة الحب والوفاء بين جيهان وممتاز وتتويجه بقصر تاج محل ليظل اسطورة الزمان تشير الى حجم الرباط المقدس والتأثر البالغ بعد الرحيل.