مقدمةحبا الله عُمان موقعا جغرافيا استراتيجيا، حيث تقع على ثلاثة بحار، هي بحر العرب وبحر عمان والخليج العربي، والشواطئ العمانية تمتد لنحو 3615 كيلو مترا، وتختلف طبيعة هذه الشواطئ ما بين الرملية والصخرية، كما ان امتداد الجبال يلامس في مواقع كثيرة البحر، مما ساعد في نشوء الخيران، الأمر الذي أوجد الكثير من الموانئ الطبيعية، تمتد من خصب ودبا ومسقط وصور وخور جراما وخور الحجر ورأس مدركةٍ والجازر وسدح ومرباط وطاقة وريسوت، أما الموانئ الرملية فتنتشر في الباطنة مثل صحار وصحم وودام الساحل وشناص والخابورة والسويق، ويوجد في الشرقية رأس رويس وأصـيلة والأشخرة والجازر ومحوت و الدقم.في الجانب الآخر من طبيعة عمان تنتشر السهول الخصبة في ظفار والباطنة والداخلية والشرقية، أما الجبال فزادت من قسوة الطبيعة في عُمان مع الصحراء مما أعطى العمانيين دافعاً للاتجاه نحو البحر، يسبرون أغواره ويقطعون بحاره.لكل ما سبق من عوامل طبيعية،أحسن العمانيون عبر التاريخ التعامل مع البحر، فصنعوا السفن، وأبحروا إلى أفريقيا عبر البحر الأحمر وشرق و جنوب أفريقيا، بل استطاعت سفنهم الدوران حول رأس الرجاء الصالح فعبروا المحيط الأطلسي نحو أميركا في رحلة السفينة العمانية سلطانةٍ 1840م و إلى أوروبا في رحلة أخرى لذات السفينة عام 1842م، و أبحروا إلى آسيا عبر بحر العرب وبحر الصين الجنوبي فوصلت سفنهم الى الصين واندونيسيا وسيام والهند، وأبحرت السفن العمانية عبر الخليج العربي شمالا الى العراق والكويت والبحرين وفارس. جغرافية عُمان وبُعدها الحضاريإن للموقع الجغرافي أثره المباشر في كيان أي حضارة بشرية، فمن خلال الموقع الجغرافي يكون لهذه الحضارة أو تلك أبعادها مع بقية حضارات العالم القريب منهااوالبعيد، وموقع سلطنة عمان الجغرافي يعتبر مرتكزا أساســياً في حضارتها الموغلة في القدم، ويتضح لنا ذلك من خلال علاقاتها مع مختلف الحضارات في مختلف الأزمنة، إن موقع عمان الاستراتيجي مكّنها من أن تكون جسرا للتفاعل بين الحضارات القديمة من عراقية و هندية وصينية وفارسية ومصرية 1، فقبل آلاف السنين قبل الميلاد كانت هناك حضارات تنتشر في أفريقيا وآسيا وأوروبا، وكان لتلك الحضارات تواصلها وعلاقاتها السياسية والتجارية، سواء أكانت بصورة مباشرة مثل العلاقات مع حضارات الهارايا في الهند وتحديدا بالسند منها أو مع حضارات بلاد الرافدين مثل الحضارات السومرية والبابلية والآشورية و الآرامية، أو حضارة فارس والحضارة الفرعونية المصرية، كذلك كان لها علاقاتها في الاغريقية في عصر الإسكندر الأكبر، وأيضا من خلال تواصلها وعلاقاتها مع الحضارة الصينية في عهد حكم أسرة هان ( 206 ق م – 200 م ) وبالتأكيد علاقتها المباشرة والمؤثرة في عصر الحضارة الإسلامية منذ عهد النبوة وحتى عهد الدولة العثمانية، وما تلا بعد ذلك في عهد القرون الوسطى وعهد السيطرة الأوروبية على آسيا وأفريقيا وقيام الدولة الاميركية، كان ذلك العهد يمثل اوج الحضارة العُمانية، حيث قامت الإمبراطورية العمانية في عصر مؤسسها السلطان سعيد بن سلطان والامتداد السياسي والجغرافي لعمان ليشمل المنطقة الممتدة من البحرين وسواحل الخليج العربي الشرقية وحتى موزمبيق في افريقيا، بل وصلوا الى رأس الرجاء الصالح فقد أبحر الملاح الصوري العماني مسلم بن مسعود بن علي العلوي 2 إلى جنوب أفريقيا بسفينته رغبة في اكتشاف المجهول وبحثا عن أسواق جديدة لتجارته، فوصل الى كيب تاون وهناك تزوج وانجب ولديه حمد و فاطمة، والذي عمل على تنشئتهما تنشئة إسلامية عربية فاوفد ابنه حمد بعد ذلك للدراسة إلى جامعة الازهر بمصر.هذا الموقع المتميز لسلطنة عُمان، وعمق التاريخ العُماني الذي يعود إلى ما قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد، كان يمثل واسطة العقد بين المراكز الحضارية القديمة، ولارتباط تاريخ عُمان بالملاحة كما اثبتت ذلك العمليات الأثرية في عمان وغيرها من الدول التي ارتبطت معها عمان بعلاقات تاريخية منذ القدم، يعطينا مؤشرا صحيحا في الدور الحضاري لعمان عبر مختلف الازمنة.ويذكر (اميانوس مارسللينوسAmmianus Marcelinus، 363 م )3،وهو مؤرخ روماني رافق الامبراطور ( يوليان Julian ) في حملته وراء الفرات، وصف العرب المجاورين للعراق أن لهم موانئ ومراسي محمية، وأنهم قادرون على استغلال ثروات البر والبحر.الإبحار قديما ترك الربابنة العمانيون بصمتهم الواضحة و الجليلة في مجال العلوم البحرية في عددها وتنوّع علومها، هذه العلوم ارتبطت بالمهارة والتجريب، ولم تعتمد الجانب النظري فقط، مما زاد في إثراء العلوم البحرية في مجال الملاحة الفلكية، وما مؤلفات الربابنة المعلمين من أمثال أسد البحار أحمد بن ماجد والمهري وبن ماطر و خميس الغيلاني وناصر الخضوري و أبو إدريس الغيلاني وبن ماجد الظاهري والقعدوي إلا أمثلة بسيطة على هذه المؤلفات التي وثقوا فيها اكتشافاتهم العلمية كالإبرة المغناطيسية وتحديد المسافات والمواقع بالكمال، ورسموا الخرائط البحرية، ونذكر منها خرائط المرزوقي والعلوي.إن الإنسان العماني ـ وما عرف عنه من جَلَدٍ وصبرٍ ومثابرة ـ كان جديرا بارتياد البحار والمحيطات، وكانت هذه الجدارة تتحلى بالخلق العماني العربي الإسلامي الأصيل، مما ساعده على اكتساب عقول وقلوب جميع الشعوب والأمم التي وصل إلى موانئها، و كان أسلوبهم وأمانتهم وخلقهم الرفيع عاملا في انتشار الإسلام بين تلك الأمم والشعوب.صناعة السفن في عمان إن علاقة البشرية بالملاحة البحرية لم تبدأ من فراغ فقد كان للملاحظة والمشاهدة أثرها في توجيه الإنسان نحو البحث عن وسيلة تساعده على عبور البحار والأنهار. وكانت البداية أن اهتدى الإنسان الى العوامة الجلدية Skin Roft أولاً ثم الكنو الشجري augout cane وهو ما يقصد به الحفر في جذع شجرة يكون على شكل حرف U اللاتيني 4 و بطبيعة الحال فإن العمانيين أسوة ببقية الشعوب والأمم في تلك الفترة التاريخية لم يستعينوا في صنع سفنهم بالمخططات والرسومات بل كان اعتمادهم على الفطرة والذاكرة والمخيّلة الراقية لبناء السفن. ويذكر دونالد هولي "أن مقدمات السفن ومؤخراتها كانت تحفر حفراً جميلاً و دقيقاً ماهراً " 5.ونتيجة للموقع الجغرافي لعمان، كان لا بد للانسان العماني من ارتياد البحار كمصدر رزق، فبعد مرحلة الصيد بالقرب من الشاطئ بدأ العمانيون في التوغل في البحر ابتعادا عن الشاطئ للصيد أو الانتقال إلى مواقع أخرى.وتعتبر السفينة العمانية " القطمران " أقدم أنواع السفن العمانية التي عرفت حتى اليوم، وقد يكون هناك ما سبقها زمنيا، ثم تلتها سفن أخرى، وعموما أن السفن العمانية القديمة تتصف بتشابه مقدماتها و مؤخراتها.تطور صناعة السفن في عمانمرت السفينة بعدد من المراحل منذ أن تعامل الإنسان العماني مع البحر، ففي البدء كان العمانيون أسوة ببقية الشعوب لا تبحر بعيدا عن البر من جهة ولا تستطيع الإبحار لمسافات طويلة وإن كانت بالقرب من السواحل.كانت البداية مع قِرب الماشية، التي تخاط وتدهن بنوع من الدهن يتكون من شحوم الحيوانات إضافة إلى حبيبات شجرة القرط، ثم تعبأ بالهواء ويبدأ في الاستناد عليها ويعوم مستخدما قدميه كآلتي دفع، ثم اتجه إلى استعمال العوامات الخشبية مستخدما عموداً خشبيا للدفع ثم أضاف الدقل ( الصاري ) وأسند عليه الشراع المصنوع من سعف النخيل و أوراق الشجر، كأوراق شجرة الموز، بعدها اتجه إلى حفر القطع الخشبية مستخدما الأدوات الحجرية والحديدية المتوفرة، وهم ما يعرف باسم ( الكنو ) أو الهوري محليا، كانت كل تلك المحاولات لا تشبع حاجة الانسان العماني إلى الإبحار بعيدا.في المرحلة التالية قام الإنسان العماني بصنع سفينته الأولى والمكونة من ألواح خشبية مصفوفة مع بعض، وكانت هذه السفينة المتشابهة في شكل الطرفين أولى الصناعات العمانية للسفينة، والتي وجدت بقايا منها في حفريات رأس الجنز بولاية صور، ولمنع تسرب الماء قام الصانع العماني بدهن السفينة بنوع من الشحوم الحيوانية و شحوم الأسماك مخلوطة مع القار في مرحلة متقدمة بعد أن تم استيراده من بلاد الرافدين، ومن مميزات هذه السفينة التي بدأ حجمها مع الأيام يكبر حسب الحاجة، أنها بدون سطح، فقد كان وسطها مقعرا، ومن أمثلة ذلك سفينة البدن والجالبوت وغيرها.المرحلة الثالثة من تطور صناعة السفينة العمانية كانت في القرن السادس عشر الميلادي إذ استوحى الصانع العماني النماذج الأوروبية كالبرتغالية أولا ومن ثم الهولندية والانجليزية والفرنسية، فظهرت السفينة العمانية ذات المؤخرة المربعة والمعروفة محليا باسم ( الرقعة ) أو التفر، ولقد تميزت هذه المرحلة من الصناعة بعدد من المميزات منها:1. استخدام المسامير الحديدية في تثبيت الالواح.2. وجود اكثر من سطح مغطى بالألواح الخشبية.3. وجود أكثر من دقل ( الصاري ) فقد وصل في بعضها إلى أربعة صوارٍ.4. استخدام المقود الدائري ( السكان ).5. استخدام الشراع المكعب الشكل ( المثلث غير المكتمل ).6. وجود المخازن المحمية للبضائع في بطن السفينة لحمايتها من البلل من مياه البحر الذي تقذفه الأمواج أو الأمطار، والمعروفة محليا باسم ( الخن ).7. وجود المراسي الحديدية.8. وجود غرف خاصة للنساء ( الدبوسة ).9. الزيادة في حجم السفينة فقد أصبح بعضها يتسع لنحو ( 500 ) طن من البضائع، ومن أمثلة هذه المرحلة من السفن، سفينة البغلة والغنجة والشوعي والسنبوق.أضلاع السفينة:تتنوع اشكالها واسماؤها ( فهناك الحلقام، والشلمان و الحلقوم، والمضياق، والسيالي، والبطينة ) تبعا للدور الذي تقوم به، وهي تعمل على متانة السفينة وتماسك الواحها.الانتقال من الحبال إلى المسامير:اجمعت كل المصادر العربية والاجنبية القديمة أن السفن العمانية كانت تستخدم الحبال لتثبيت الألواح، وهي السفن التي عرفت باسم السفينة المخيطة، ومنها السفينة الكمباري التي لا تزال موجودة بمحافظة ظفار.واعتبارا من القرن السادس عشر الميلادي دخلت المسامير في صناعة السفن العمانية، خاصة بعد ملاحظتهم للسفن الأوروبية التي بدأت تتوافد بعد وصول البرتغاليين الى المنطقة، كما أنهم استفادوا من استخدام المسامير في صناعة السفن ذات المؤخرة المربعة والمرتفعة، كما اتضح ذلك في البغلة والسمبوق والغنجة والشوعي والشويعي، مما زاد في حجم السفينة وزيادة سعة حمولتها بالتالي.مراحل تطور صناعة السفن:المرحلة الاولى: الكنو و الشاشة.المرحلة الثانية: القطمران وما تلاها.المرحلة الثالثة: زيادة حجم السفينة المصنوعة من الالواح والمستخدم في صناعتها الحبال لتثبيت الواحها، مثل البدن، البتيل، والبقارة، المرحلة الرابعة: مرحلة استخدام المسامير، وزيادة حجم السفينة باضافة الرقعة في الخلف،مثل، السمبوق والبغلة والغنجة.تقنية مقاومة التيارات الهوائية:كانت السفن العمانية في مرحلتها الثالثة من التطور، وذلك باستخدام المسمار، واصبحت مؤخرة السفينة مربعة الشكل أو دائرية، وخاصة سفينتي الغنجة والبغلة حيث تمثل منطقة الرقعة مشكلة أثناء الابحار، وذلك لوجود الواح زائدة ما بين جارية الصنجريري و الكيتات، هذه الالواح تصطدم بها الرياح الجانبية اثناء شق السفينة مسارها، وللقضاء على هذه المشكلة، أضاف صناع السفن قطعا خشبية تسمى الجنادل، صنعت بانحناءات تساعد على انسياب التيارات الهوائية وبالتالي لا تتأثر سرعة السفن.تطور آلات وأجهزة السفينة:عرفت آلات السفينة و أجهزتها مراحل متعددة من التطور من حيث التقنية والشكل والحجم و التوظيف.التقنية:عرفت العديد من آلات السفينة وأجهزتها تطورا تقنيا مما ساعد على سهولة استخدامها، وتيسير عملها للبحارة والنواخذة، مما زاد من سرعتها، وتسهيل رفع الاثقال والشحنات الكبيرة، وزيادة مساحة الشراع.الشكل:بعض آلات السفينة كانت تأخذ شكلها الطبيعي عند قطع الاخشاب وتركيبها كالصاري والفرمال، بعدها بدأ صنّاع السفن في التدرج في طول محيطها مثلا من أعلى إلى الأسفل، مما ساعد في ثباتها وهذا الحال ينطبق على الصاري.أما الفرمال فأصبح اطول و أكبر حجما بإضافة قطعتين له نتيجة لتطور الشراع من حيث التركيب والحجم، وبالتالي الاستخدام.الحجم:الزيادة في حجم بعض الالآت كالصاري والفرمال، ساعد في توفير مساحة أكبر للشراع وبالتالي كمية أكبر من الهواء الدافع للسفينة، كذلك تطور شكل المرساة ومادتها وحجمها ساعد على تثبيت السفينة بقوة واحكام افضل.التوظيف:التطور الحاصل لعدد من الأجهزة الآلات المستخدمة في السفينة عمل على تطور ادوارها ووظائفها، وضربنا عددا من الامثلة كالصاري والفرمال والشراع والدوار والمرساة.الصاري: ( الدقل)التطور في الصاري تمثل في العدد والنوع ودور كل منها، فبعد أن كانت السفن العمانية تستخدم صاريا واحد وصلت إلى استخدام ثلاثة صواري للسفن الكبيرة.أما من حيث الشكل فقد كان الصاري يأخذ شكل القطعة في الاصل قبل قطعها، ثم بدأت مرحلة تشطيبها لتأخذ شكلها يصّغر تصادعديا محيطه، كما أن لكل نوع من النواع الثلاثة طولا يختلف عن الأخر وفقا للدور وحجم الشراع.* ورقة قدمت في فعالية "تاريخ السفن في عمان" بالنادي الثقافي الأسبوع الماضي* المراجع في الجزء الثاني من الورقة .حمود بن حمد الغيلاني