”الحقيقة"، ومهما كابَد المرء في بحثه عنها حتى كشفها واكتشافها، هي دائمًا "بسيطة"، وأبسط مَمَّا نظن لدى بَدْئِنا البحث عنها؛ وبما يؤكِّد ذلك، عرَّف آينشتاين "الأحمق" و"العبقري"، قائلًا إنَّ "الأحمق" هو الذي يجتهد في جَعْل "البسيط" من الأشياء يبدو "معقدًا"؛ أمَّا "العبقري" فهو الذي يَعْرِف كيف يُبسِّط ما يبدو معقَّدًا. هل فَهِمْت، واستوعبتَ، وتَمَثَّلْت، نظرية ما، أو فكرة ما؟”[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]أعداء "الحقيقة" كُثْرُ؛ وبعضهم يتعصَّب لمبدأ، أو قانون، "عدم اليقين (أو الريبة)"، لهايزنبرج؛ فالبشر ممنوعون بقوَّة هذا القانون، من معرفة الحقيقة بكليتها؛ وما علينا، من ثمَّ، إلا أنْ نكتفي بمعرفة نصف، أو رُبْع، الحقيقة؛ والبشر لا يمكنهم أبدًا تخطِّي "جدار بلانك"؛ ولا يمكنهم، من ثمَّ، أنْ يعرفوا من الحقيقة الكونية إلا أجزاء منها."الحقيقة"، وما أدراك ما "الحقيقة".حتى أعداء "الحقيقة"، في أمْرٍ ما، يجتهدون في طلبها، والبحث عنها، ويرغبون في الوصول إليها؛ لكنَّ "مصلحة" لهم هي التي تحملهم على إبداء العداء لها، وإنكارها، وتزويرها، وحجبها عن أبصار وبصائر كل من له "مصلحة" فيها؛ فلو أنَّ "بديهية هندسية" عادت "مصلحة" ما، لشَنَّ أصحاب هذه المصلحة الحرب عليها.جميعنا ننشد "الحقيقة"، وننفق كثيرًا من الجهد والوقت في البحث عنها؛ لكنَّنا لم نتواضع بعد، ولن نتواضع أبدًا، على إجابة سؤال "ما هي الحقيقة؟"؛ وكأنَّ لنا مصلحة في تعريف "الحقيقة" بما يَخْدُم، ويُوافِق، "مصلحة" المتوفِّر على "تعريفها".ولآينشتاين تجربته في "الحقيقة"؛ فهو القائل "إذا النَّظرية (الجديدة) لم تُوافِق (تُطابق) الواقع؛ فلا بدَّ، عندئذٍ، من تغيير الواقع نفسه".إنَّها لـ"أفلاطونية خالصة" أنْ يدعو المرء (وأنا أعلم أنَّ آينشتاين يهزل في قوله هذا) إلى "تغيير الواقع بما يجعله موافِقًا للنَّظرية"؛ فـ"الموضوعي" في النَّظر إلى الأشياء يُعدِّل، ويُغيِّر، "النَّظرية (الجديدة)" بما يجعلها تُوافِق "الواقع (الموضوعي)"، أو بما يجعلها أكثر تَوافقًا معه؛ فكلَّما توافقت "النَّظرية (أو الفكرة)" أكثر مع "الواقع (الموضوعي)" ارتفع فيها "منسوب الحقيقة".وشتَّان ما بين مَنْ يَقْبَل "النَّظرية"؛ لكونها متوافقة مع "الواقع"، ومَنْ يرفض "الواقع"؛ لكونه غير متوافق مع "نظرية ما (أو فكرة ما)".حتى "الغباء" عرَّفه آينشتاين بما يؤكِّد أنَّه يفهم "الحقيقة" بما يناقِض "الطوباوية (في التفكير)"؛ فهو قال، في تعريفه له، إنَّه أنْ يُكرِّر المرء التجربة "نفسها"، متوقِّعًا (أيْ معلِّلًا النَّفس بوهم) تمخُّضها عن "نتائج مختلفة"؛ فـ"النتيجة (أيْ النتيجة العملية الواقعية)" تأتي متوافقة مع "التوقُّع" إذا ما كان "التوقُّع" واقعيًّا موضوعيًّا، وتذهب به إذا ما كان "ذاتيًّا (غير موضوعي)"."الحقيقة"، ومهما كابَد المرء في بحثه عنها حتى كشفها واكتشافها، هي دائمًا "بسيطة"، وأبسط مَمَّا نظن لدى بَدْئِنا البحث عنها؛ وبما يؤكِّد ذلك، عرَّف آينشتاين "الأحمق" و"العبقري"، قائلًا إنَّ "الأحمق" هو الذي يجتهد في جَعْل "البسيط" من الأشياء يبدو "معقدًا"؛ أمَّا "العبقري" فهو الذي يَعْرِف كيف يُبسِّط ما يبدو معقَّدًا.هل فَهِمْت، واستوعبتَ، وتَمَثَّلْت، نظرية ما، أو فكرة ما؟آينشتاين يجيب عنكَ (خير إجابة) قائلًا: "إذا لم تستطعْ شرح فكرتكَ لطفلٍ عمره 6 سنوات، فأنتَ نفسكَ لم تفهمها بعد".نحن اعتدنا أنْ نَفْهَم "الخيال" على أنَّه ضديد "الحقيقة"، و"المعرفة (مع المنطق)" على أنَّها صنو "الحقيقة"؛ لكنَّ آينشتاين، والذي أنعم الله عليه بـ"عبقرية الخيال"، دعانا إلى الأخذ بطريقة جديدة في التفكير، توصُّلًا إلى "الحقيقة"، إذ قال إنَّ "الخيال" أهم من "المعرفة"، وإذ قال أيضًا إنَّ "المنطق" يُوْصِلكَ، إذا ما سِرْت في دربه، من "الألِف" إلى "الياء"؛ لكنَّ "الخيال" هو العربة التي تُوْصِلكَ إلى أيِّ مكان.لكنَّنا ما أنْ نتوصَّل بـ"الخيال" إلى "نظرية ما" حتى يتأكَّد لنا أنَّ هذه "النَّظرية" لن تتآخى مع "الحقيقة" إلا إذا أتى "الواقع (الموضوعي)" بما يؤيِّدها؛ فلا مهرب لنا من "المنطق (المنطقي)"، الذي يُلْزِمنا أنْ نفهم "الحقيقة" على أنَّها "كل فكرة تُوافِق (تُطابق) الواقع (الموضوعي)"؛ فليس من ميزان نزن به "الحقيقة" في كل "فكرة"، ولا من مقياس نقيسها به، إلا "الواقع الموضوعي (الممارَسة، والتجربة العملية الواقعية)".ويعود آينشتاين، الذي طالما تَنَقَّل بين "الذاتية" و"الموضوعية"، إلى وَضْع إحدى قدميه في "الذاتية"، فيقول إنَّ كل علومنا التي نقيسها بالواقع بدائية وطفولية (فبماذا نقيسها حتى ترتقي وتنضج؟!).ثمَّ يُخْرِج آينشتاين قدمه من "الذاتية"، ليقول، في فَهْم "الحقيقة"، إنَّ "القوانين (أو المفاهيم، والأفكار، والنَّظريات)" كلَّما قارَبَت، أو لامست، "الواقع" اهتزَّت وتزعزعت، وكلَّما ثَبَتَت ورسخت (بتحليقها بعيدًا عنه) فقدت واقعيتها؛ فالفكر "سكوني"؛ أمَّا الواقع فـ"دينامي"؛ والفكر، مهما ارتفع منسوب الحقيقة الموضوعية فيه، يظلُّ "رماديًّا"؛ أمَّا الواقع فهو "الأخضر" أبدًا.وبعدما يُثَبِّت قدمه في "الموضوعية"، يَقْفِز آينشتاين قفزته الكبرى في فَهْم "الحقيقة"، فيقول إنَّ "الحقيقة" هي ما يَثْبُت أمام امتحان التجربة؛ فلا مقياس نقيس به "الحقيقة"، في الأفكار والنَّظريات، إلا "الممارَسة"، أو "التجربة العملية"؛ فكل ما يُوافِق منها "الواقع الموضوعي" لا بدَّ له من أنْ ينتمي إلى "عالَم الحقائق".الناس، على وجه العموم، منقسمون مختلِفون في أمر "الحقيقة"، بعضهم لا يعترف إلاَّ بـ"الحقائق النسبية"، وبعضهم لا يعترف بفكرة ما على أنَّها "حقيقة" إلا إذا كانت في منزلة "الحقيقة المُطْلَقَة".وهناك من المتطرِّفين في إنكارهم لوجود "الحقيقة المُطْلَقَة" من يُعبِّر عن موقفه هذا قائلًا: إنَّ "الحقيقة المُطْلَقَة الوحيدة" هي أنْ "لا وجود للحقيقة المُطْلَقَة؛ فكل الحقائق نسبية".ولقد أُسيء فَهُم "الحقيقة النسبية" كما أُسيء فَهْم "الحقيقة المُطْلَقَة"؛ فإنَّ "نِسْبية الحقائق" تُشَوَّه عند كثيرين بـ"الذَّاتِيَّة"، فيُضْرَب صَفْحًا عن أمْرٍ في منتهى الأهمية هو أنَّ "الموضوعية" هي جوهر وأساس "النِّسْبي" من "الحقائق".وخَيْر مثال، على ما أرى، نُوضِّح فيه "النسبية (الموضوعية) للحقيقة" هو الآتي:جَلَسَ اثنان إلى طاولةٍ، وكان كلاهما في مواجهة الآخر. وَوُضِع على الطاولة إبريق وفنجان، وبما يسمح لكليهما بإجابة السؤال "أَيُّهما موضوع أمام الآخر؟"أحد الجالِسَيْن أجاب قائلًا إنَّ الإبريق موضوع أمام الفنجان؛ أمَّا الآخر فأجاب قائلًا إنَّ الفنجان هو الموضوع أمام الإبريق؛ فأيَّهما نطق بـ"الحقيقة"؟كلاهما نَطَق بها؛ لأنَّ الحقيقة "نِسْبية"؛ فالذي أجاب الإجابة الأولى أصاب، ولم يُخْطئ، والذي أجاب الإجابة الثانية أصاب، ولم يُخْطئ.إنَّه لمثال بسيط؛ لكنْ مُفْعَمٌ بالمعاني؛ ويَحضُّكَ على أنْ تُفكِّر فيه مليًّا، وعلى أنْ تُحْسِن وتجيد التفكير فيه.هذا التناقض الموضوعي في إجابتيهما لن ينزل بردًا وسلامًا على كثيرٍ من الناس الذين اعتادت أذهانهم أنْ يفهموا "الحقيقة" بما يُوافِق المبدأ "إمَّا.. وإمَّا..".وعملًا بهذا المبدأ (غير العملي، وغير العلمي) سيقولون إنَّ تضارُب أو تناقض الإجابتين لا يعني إلا أنَّ كلتيهما لا تمتُّ بصلةً إلى مفهوم "الحقيقة"؛ ولسوف يتساءلون، في هُزْءٍ وسُخْريةٍ، قائلين: كيف للحقيقة أنْ تقوم لها قائمة إذا ما قُلْنا إنَّ الإبريق موضوع أمام الفنجان، وموضوع وراءه، في الوقت نفسه؟!"الواقع الموضوعي" لـ"الإبريق" يهزأ ويسخر من قولهم قائلًا: لكنَّها الحقيقة؛ فهذا هو "الواقع الموضوعي (المتناقِض)" للإبريق؛ إنَّه موضوع أمام الفنجان، وموضوع وراءه، في الوقت نفسه؛ فهل في مقدور أيِّ شخصٍ ثالث أنْ يَحْسِم الأمر، فيقول مثلًا إنَّ الحقيقة، كل الحقيقة، أو إنَّ الحقيقة التي لا ريب فيها، هي أنَّ الإبريق موضوع الآن أمام الفنجان، لا وراءه؟!صاحبا الإجابتين لم يتناقضا في إجابتيهما لأسباب ذاتية، أو لكونهما، على سبيل المثال، "يرغبان في" أنْ تتناقض إجابتيهما؛ فكلاهما، وبكل ما لديه من أساليب وطرائق "الاختبار الموضوعي"، يتوصَّل إلى أنَّ إجابته صائبة، صحيحة، تُمثِّل "الحقيقة".في مثالنا البسيط ذاك، وَقَفْنا على معنى "نسبية" الحقيقة، وَوَقَفْنا، في الوقت نفسه، على ما يُمْكنني نَسْبه إلى "المُطْلَق" منها؛ فـ"نسبيتها (الموضوعية)" نراها واضحة جلية في قول أحدهما إنَّ الإبريق موضوع أمام الفنجان، وفي قول الآخر إنَّ الإبريق موضوع وراء الفنجان؛ أمَّا "المُطْلَق" منها، والكامِن في "النِّسْبي" في الإجابتين كلتيهما، فَنَقِف عليه في "الإجابة الثالثة" الآتية: الإبريق موضوع أمام الفنجان، وموضوع وراءه، في الوقت نفسه.ثمَّة "مُطْلَقٌ" في "النِّسْبي"، أيْ في نظريتيِّ "النسبية الخاصة" و"النسبية العامة" لآينشتاين؛ فأين هو هذا "المُطْلَق"؟قَبْل الإجابة، أقول إنَّ كثيرًا من الناس لا يروقهم أنْ تُفْهَم "النِّسْبية" على أنَّها نَفْيٌ مُطْلَق لـ"المُطْلَق"؛ لكنَّ بعضهم لم يُوفَّق في اكتشاف ورؤية "المُطْلَق" في "النِّسْبية"، فَمَالَ، من ثمَّ، إلى الارتياب فيها.لا وجود لمراقِبٍ كونيٍّ إلا بصفة كونه جزءًا من "إطارٍ مرجعيٍّ"، يتِّحِد معه اتِّحادًا لا انفصام فيه؛ فكلُّ مراقِبٍ هو ابن "إطاره المرجعي"، القابِل للتغيُّر؛ فإذا تغيَّر، تغيَّر المراقِب في رؤيته لـ"العالَم الخارجي"؛ وقد يَنْفَصِل المراقِب عن "إطاره المرجعي"؛ لكنَّه لا يَنْفَصِل، ولا يُمْكنه أنْ يَنْفَصِل، إلاَّ إذا ارتبط، في اللحظة عينها، بـ"إطارٍ مرجعيٍّ آخر"؛ فلا وجود لمراقِب مُجرَّد من "إطاره المرجعي"، أو يَقَع في "فراغٍ"، أو "منطقة محايِدة"، بين "إطارين مرجعيين".ضِمْن "إطاركَ المرجعي" المتغيِّر، والذي مهما تغيَّر، لا شيء فيه يتغيَّر، من وجهة نظرك؛ فكل شيء، وكل حادث، يَحْدُث كالمعتاد، ويَسْتَغْرِق حدوثه الزمن نفسه، وتراه، بكل أبعاده وجوانبه، كما اعتَدتَّ رؤيته، وكأنَّكَ ضِمْن "الثابت" في كلِّ ما تغيَّر، ويتغيَّر؛ فَهُنا "المُطْلَق" الكامِن في "النِّسْبية"."إطاركَ المرجعي" هذا تغيَّر في استمرار، بالحركة تارةً، وبالجاذبية طورًا؛ وتغيَّر، في استمرار، أيضًا، "الزمن" لديك، لجهة سرعة جريانه، و"المتر"، مع "الأطوال".نتائج وعواقب هذا التغيُّر (في "السَّاعة" و"المتر") لا تراها أبدًا في "إطاركَ المرجعي"؛ لكنَّكَ تراها في "العالَم الخارجي"، أيْ في كل ما يَقَع في خارج "إطاركَ".وحده المراقِب الخارجي، أيْ الموجود في خارج "إطاركَ"، وبعيدًا عنه، هو الذي في مقدوره رؤية تلك النتائج والعواقب لديكَ؛ فهو الذي يرى (مثلًا) أنَّ الثانية الواحدة عندكَ تَعْدِل ساعات، أو سنوات، عنده، وأنَّ قَلْبَك ينبض 70 نبضة في السَّنة الواحدة، وأنَّ عُمْرَكَ الآن ألف سنة، وأنَّ طول حُجْرَتِك قد تقلَّص، وأنَّ كل شيء عندكَ يَسْتَغْرِق حدوثه زمنًا أطول بكثير من المعتاد.أنتَ، وفي "أُطركَ المرجعية المختلفة"، ترى "المُطْلَق" مُقيمًا أبديًّا ضِمْن "إطارك المرجعي"، مهما تغيَّر؛ وترى "النِّسْبي" يتَّخِذ من "العالَم الخارجي" مسرحًا له.في شأن إشكالية "الحقيقة"، لا بدَّ من جلاء أهمية التجربة العملية، فمن هذه التجربة ليس إلا تَعلَّم الإنسان أمرًا في منتهى الأهمية وهو أنه لا يمكنه فعل أي شيء يرغب في فعله، أي لكونه فحسب يرغب في فعله؛ فثمَّة قوانين موضوعية مادية ينبغي للإنسان موافقة فكره معها إذا ما أراد لفعله النجاح.الإنسان، في سعيه المعرفي، إنَّما يبتغي الوصول إلى "الحقيقة"، أي إلى فهم الأمور فهما يمْكن، عبر الممارسة والتجربة العملية، إقامة الدليل على صحَّته.وتوصُّلا إلى "الحقيقة" لا بدَّ من إنشاء وتطوير منهج، يتأكَّد، عبر الممارسة والتجربة العملية، أنَّ أخْذَنا به يُوْصلنا إلى "الحقيقة"، التي ليس من ميزان نزنها به سوى ميزان الممارسة والتجربة العملية.وهذا المنهج هو ما تواضع الفلاسفة على تسميته "المنطق"، متوفِّرين على إنشاء وتطوير قواعد ومبادئ له.و"الفكر"، أو "التفكير"، ينبغي له أن يراعي، تلك القواعد والمبادئ، وأن يستمسك بها ويتقيَّد، إذا ما أراد صاحبه الوصول إلى "الحقيقة"؛ فمِنْ أين أتى "المنطق"، بقواعده ومبادئه، إلى رأس الإنسان؟لم يأتِ إلا من مَصْدَرٍ واحد هو "التجربة العملية (الممارسة)" للإنسان في سياق صراعه مع الطبيعة.إنَّ "النجاح" و"الفشل" في التجارب العملية للإنسان هما ما فرضا عليه أن يكون "منطقيًّا في تفكيره"؛ و"المنطقية في التفكير" لم تنشأ لدى البشر إلا بصفة كونها "شرط بقاء".هيجل في حديثه عن "الحقيقة" أوضح أمرًا في منتهى الأهمية هو أنَّ كل ما هو "حقيقي (واقعي)" يجب أن يتَّسم بـ"العقلانية (المنطقية)"، أي يجب أن يكون متوافقًا مع "العقل"؛ لكن، هذا "الحقيقي (الواقعي)" لا بدَّ له، في مجرى التطوُّر، من أن يغدو شيئًا "غير عقلاني"، فـ"الواقعي" يبدأ "عقلانيًّا" وينتهي "لا عقلانيًّا"."النَّظرية" هي في الأصْل، أيْ في أصلها "الواقعي الموضوعي"، "ظاهرة (طبيعية، مثلًا)"، مُدْرَكَة حِسِّيًّا؛ لكنْ يَسْتَغْلِق على البشر (مِنْ مُدْركيها حِسِّيًّا) فهمها وتفسيرها وتعليلها، أو الوقوف على أسبابها، فَتَنْشَط فيهم، وتَتَّقِد، "المُخَيِّلة"، التي بمعونتها "يَفْتَرِضون (أو يتصوَّرون)" تفسيرًا، أو يتوصَّلون إلى "تفسير افتراضي"، لا بدَّ من اختباره، وَوَضْع نتائج الاختبار، من ثمَّ، في "ميزان الحقيقة (الموضوعية)"؛ فلا ميزان غيره نَزِن به "الحقيقة الموضوعية" في نظريَّاتنا وأفكارنا.ولنا في "تُفَّاحة نيوتن" الشهيرة خير مثال؛ فلقد شاهَدَ ما شاَهَدَه من قبله ملايين البشر، ألا وهو تُفَّاحة انقطعت صلتها بشجرتها، فسقطت أرضًا؛ لكنَّه انفرد بالسؤال "لماذا سقطت هذه التُّفاحة ولم ترتفع؟"."الظاهرة" هذه لا ريب فيها؛ فإنَّ أحدًا لا يستطيع أنْ يُنْكِر حدوث هذا الحادث؛ لكنَّ "التفسير" اسْتُغْلِق وتَعسَّر؛ فافْتَرَضَ نيوتن، إذ أطلق العنان لمُخَيِّلته، وجود "قوَّة (ما)"، في سطح الأرض، أو في مركزها، هي التي تَشُدُّ إليها، أو إلى أسفل، تلك التُّفاحة.إنَّ "لماذا (وفي تصاعُدِها على وجه الخصوص)" هي "سؤال العِلْم"؛ لأنَّها تَطْلُب التفسير والتعليل؛ وفي هذا المسعى، لا بدَّ لـ"المُخَيِّلة" من أنْ تكون "نقطة الانطلاق"؛ فـ"المنطق الذي يخالطه كثير من الخيال" هو الذي من رَحْمِه خَرَجَت كبرى النَّظريات العلمية.ولتبيان أهمية "لماذا التصاعدية"، أُوْرِدْ المَثَل الآتي:أحد الفلاسفة سأل مريضًا "لماذا تتناول الدواء؟"، فأجابه قائلًا: "حتى أشفى"؛ فسأله "ولماذا تريد الشِّفاء؟"، فأجابه قائلًا: "حتى أسْعَد في حياتي"؛ فسأله "ولماذا تنشد السعادة؟"، فاستعصت عليه الإجابة، هذه المرَّة، واسْتَغْلَقَت.ولو سُئلْتَ "لماذا الأرض هي التي تدور حول الشمس (وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض)؟"، لَشَعَرْتَ بوطأة وثِقَل السؤال.إنَّه "الفراغ (أو النَّقْص) المعرفي"، الذي حيَّرني أمْره، فتساءلْتُ قائلًا: "هل هو وليد السؤال أم وليد الجواب؟ولقد توصَّلْتُ إلى الإجابة الآتية: "إنَّ الفراغ (المعرفي) هو دائمًا وليد الجواب (لا السؤال). أمَّا السؤال فهو الذي به نملأ هذا الفراغ".إنَّكَ ما أنْ تُجيب عن سؤالٍ حتى تَكْتَشِف (أو يَكْتَشِف غيرك) فراغًا (أو ثغرةً، أو نقصًا، أو ثقبًا) في إجابتك؛ ولا بدَّ لهذا الفراغ من أنْ يُمْلأ سريعًا؛ لأنَّ "الطبيعة" تَكْرَه "الفراغ"، ولو كان في "المعرفة"، أو في "إجابات الأسئلة".وفي مسار المعرفة (الصاعِد أبدًا, والذي لا نهاية له) نرى دائمًا "السؤال" يقود (ولو بعد حين) إلى "جواب"؛ و"الجواب" يقود إلى "فراغ"؛ و"الفراغ" يقود إلى "سؤالٍ جديدٍ؛ وهذا "السؤال الجديد" هو الذي به يُمْلأ ذاك "الفراغ"."النَّظرية"، وبصفة كونها "تفسيرًا افتراضيًّا" يبدو منطقيًّا أكثر من غيره، تظلُّ في حاجة إلى ما يقيم الدليل (العملي) على صوابها وصدقيتها، أيْ تظلُّ قَيْد الاختبار.ومع استجماع ما يكفي من الأدلة (العملية والواقعية) على صوابها وصدقيتها، تُتَّخَذ "النَّظرية" أداة تفسير وتعليل لِمَا عداها، فتبدو لنا (أيْ "النَّظرية") صحيحة.لكن، ما أنْ نتوسَّع في اختبارها واستعمالها حتى نكتشف الثغرات والنواقِص وأوجه العجز فيها؛ فثمَّة ظواهر نعجز عن تفسيرها بهذه النَّظرية، وكان يُفْتَرَض أنْ نتمكَّن؛ فيتأكَّد لنا، عندئذٍ، أنَّ لكل قاعدة استثناء (ولا يُسْتَثْنى من ذلك حتى قاعدة "لكل قاعدة استثناء").وعندئذٍ، نَجِدُ أنفسنا بإزاء تَحَدِّي "شرح وتفسير هذه الاستثناءات"؛ فيتمخَّض الجهد المبذول في سبيل ذلك عن "نظرية جديدة"، تَصْلُح تفسيرًا لهذه "الاستثناءات"؛ وهذه "النَّظرية الجديدة" لن تكون "نفيًّا خالصًا" لـ"النَّظرية القديمة".