ان الحياة عبارة عن رحلة طويلة مليئة بالتجارب المختلفة والمغامرات والخبرات، تسير بنا عبر الزمن والاقدار. وكل منا تختلف رحلته عن الأخر، رغم تشابه تفاصيلها وتداخلها في نهاية الامر.تلعب العواطف دوراً كبيرا في حياتنا وهي ذلك الشعور الذي تشعر به في داخلك، يجعلك منجذبا نحو شخص ما، ليس بالضروري أن يكون من الجنس الاخر، ويدفعك للقيام بسلوكٍ خاص.وكما يعرفها علماء النفس فهي تتكون " نتيجة تكرار اللقاء بين شخصين حيث يغلب السّرور عليه ثمّ يتطوّر إلى إعجاب ثمّ احترام ثمّ صداقة فإذا كانت بين جنسين مختلفين تحوّلت إلى حبّ".لكن ماذا يحدث حينما تفشل تلك العلاقة بين احدهما، وتنقطع أوصالها؟العلاقات العاطفية في عالم السينما، خصصت لها مكتبة كبيرة تحمل عشرات الاعمال، التي تأتي اغلبها في قالب درامي رومانسي ذو طابع خاص، مؤلم، حزين وصامد.وبرغم من ان البعض يرى ان تلك الافلام تقدم صورة غير واقعية عن العلاقات العاطفية، في انها تحمل معايير محددة لا نجدها في عالمنا الواقعي، الا أن لها متابعيها وجمهورها الذي غالبا ما يكون ضحية احد العلاقات ويعاني من ذات المأساة بشكل أو أخر، وهي تكون له ملجأ له لمعالجة جروحه، في إعتقاد منه انها تعطيه شعورا مسكنا لآلامه وأوجاعه.بعيدا عن تلك الرؤى، فإن معظم هذه الافلام، يحمل رسائل ومضامين عن التفاؤل وكيفية تجاوز الآلم والمضي بقارب الحياة الى الامام، كـ " Eternal Sunshine of the Spotless Mind" الذي يعلمك النسيان، و" Silver Linings Playbook" المفضل لدي ضمن تلك النوعية من الاعمال.البعض الآخر يحمل نفس المواصفات لكن يغلب عليه طابع الغموض، خلفيات من العنف والجنس والانتقام. وغالبا ماتكون مقتبسة من عمل روائي كـ "Gone Girl" او الفتاة المفقودة، المقتبس عن رواية بنفس الاسم لجيليان فلين، وتابعناه خريف 2014، والذي يعتبر عمل اليوم قريب منه الى حد ما.الفتاة في القطار(The Girl on the Train): فيلم إثارة وغموض أميركي، مقتبس من رواية للكاتبة الانجليزية بولا هوكينز، التي عرفت تجاريا بإسم "فتاة القطار"، وصنفت كإحدى الروايات الأكثر مبيعاً ونجاحا منذ صدورها عام 2015، حيث تخطت مبيعاتها المليوني نسخة في العالم، وترجمت لـ 42 لغة.عن سيناريو ايرين كريسيدا ولسون، وإخراج تيت تايلور صاحب "The Help" الذي ترشح عنه لأوسكار أفضل مخرج، وبرغم اقترابه من أرفع الجوائز السينمائية في العالم، الا انه قد خسر الرهان تلك المرة.فمن المعروف عند القيام بتحويل الرواية الى عمل سينمائي، لابد من وضع بعض التفاصيل والخلطات المثيرة التي تملأ هذا الفراغ الروائي ونقاط ضعفها، وهي الفرصة التي اضاعها المخرج تايلور من بين يديه، عكس زميله دافيد فينتشر صاحب رائعة Gone girl، الذي اشرت اليه سابقا، واستخدم فيه المخرج تكنيكا يعرف بـ "التنقل المستمر" ، مقدما عملا متقنا وحبكة متماسكة.للأمانة انا لم اقرأ أيا من الروايتين، لكن من خلال متابعتي لمراجعتهما في الصحف والمجلات ومواقع الانترنت المختصة، تمكنت من معرفة نقاط ضعفهما، وماوصفت به أحداث "فتاة القطار" من هزال شديد وذلك من أحد النقاد السينمائيين، الذي تعجب أيضا من بقاء الرواية لنحو 3 شهور على رأس قائمة نيويروك تايمز لأفضل الكتب مبيعاً.بالطبع لم تكن تلك المشكلة الوحيدة التي يعاني منها الشريط، لكن يبدو ان الكاتبة ولسون، لم تبذل جهدا هي الاخرى، حينما اشتغلت على السيناريو، فالعمل عائم على مشاهد من المونولوج ــ الحوارات التي تقوم عليها الرواية ــ التي من المفترض أن تصاغ على نحو افضل وتقدم بصورة مختلفة عن الرواية، لكن ولسون اكتفت بنقلها حرفيا منها.نحن امام عمل، لم يحسن فيه المخرج التعامل مع النص، الذي لم يبنى جيدا من الاساس والذي جعل العمل يفقد توازنه، حتى ان طريقة تقديمه للشخصيات معقدة. كما أفتقر للموسيقى التصويرية الجيدة التي تعطي للفيلم أحساسا وبعدا وعمقا.ويبقى التداخل في المشاهد الغير صحيحة للأحداث من ذاكرة البطلة، وتلك الاخرى الحقيقية، هي حسنة الشريط الاولى وأفضل عنصر للتشويق به.اما الثانية فاعتبرها أداء الممثلة البريطانية إميلي بلنت، في دور البطلة المكسورة، المطلقة والمدمنة للكحول "رايتشل" ، هو ما اعجبني والأفضل على الاطلاق، فقد تمكنت من تجسيد الدور بثبات واقناعنا به ، اعتقد انها ستحجز به مكانا بقائمة الاوسكار هذا العام.يشاركها في الفيلم الممثل جاستن ثيروكس وهو زوج الفنانة جنيفر انيستون، ويقوم بدور زوجها السابق "توم"، والشقراء السويدية " ريبيكا فيرجسون " في دور زوجته الحالية وأم طفله "آنا"، فيما يقوم بدور جاريهما الزوجان "سكوت" الممثل لوك ايفانز و"ميجان" الحسناء هايلي بينت. ويجسد دور الطبيب النفسي "كمال عبدتش" الممثل إدجار راميريز. جميعا تعتبر اداءات مقبولة الى حد ما، فقد غلبت عليها النمطية....................................أحداثبنظرات حزينة بائسة، تطل علينا من نافذة القطار، شابة في الثلاثينات من عمرها، بدت عليها علامات الاعياء والشحوب والاكتئاب، فهي مطلقة واستسلمت لإدمان الكحول لنحو مفرط .حياة رايتشل محطمة بمعنى الكلمة، فهي لاتتجاوز كونها إيقاعا مضبوطا على ميعاد قطار تستقله مرتين يوميا، صباحا من منزلها التي تتقاسمه مع صديقتها بإحدى ضواحي نيويورك ، الى قلب المدينة، وتعود به مرة اخرى مساءا. ــ السيناريو استبدل مدينة لندن بنيويورك ــ .وهي ايضا خصصت مكانا محددا لها داخل القطار جهة النافذة ، حيث نتأمل معها، خلال توقف القطار قليلا، منزلا جميلا يقترب من السكة، اعتادت رايتشل التحديق فيه كل مرة خلال رحلتها، وعلى شرفته الزوجان سكوت وميجان يعيشان لحظات رومانسية.خلقت رايتشل لهذين الزوجين عالما خاصا في مخيلتها، ورسمت لهما حياة مثالية، تحسدهما عليها، تماما كتلك التي كانت تعيشها في الماضي مع طليقها في منزل لا يبعد كثيرا عن ذاك المنزل، قبل أن ينفصلا بسبب عدم قدرتها على الانجاب ومن ثم سقوطها في بئر الإدمان كوسيلة للنسيان.نغوص أكثر في اعماق الشخصية، لنجد أن قلبها وذاكرتها ظلا حبيسان داخل هذا المنزل الذي قالت انها اختارت كل شئ فيه، وعاشت فيه أجمل ايام حياتها بجانب زوجها توم، برغم خيانته لها مع عميلة العقارات آنا، خلال فترة زواجهما، وبعد الانفصال يتزوج توم وآنا ويعيشان في سعادة داخل نفس المنزل بجانب طفلتهما.كل تلك الأمور والتفاصيل نتابعها من خلال عيون وحوارات وذكريات، رايتشل المعذبة التي تجد ضالتها وبهجتها وراحتها النفسية في التلصص على الزوجان العاشقان، برغم مايسببه ذلك الفعل من آلم عميق يقطع أوصالها.على الجانب الاخر، نتابع حياة آنا الزوجة والام التي تعيش حياة مثالية لاتكاد الابتسامة تفارق وجهها، لم يكن ينغص عليها حياتها سوى وجود رايتشل، التي تمثل لها تهديدا لسعادة عائلتها الصغيرة خاصة بعد ان رصدت مكالمات عدة من ارقام مجهولة على تلفون زوجها....................................أوهام متبددةتتبدد أوهام رايتشل بشأن "الزوجين العاشقين"، وتتحطم تلك الصورة المثالية التي رسمتها لهما، حين تشاهد الزوجة في احضان رجل آخر، ويجن جنونها ويصرخ ذلك الصوت من داخلها، وتسترسل الاسئلة واحدة تلو الأخرى، كيف يحدث ذلك؟ هل تخون زوجها؟ ولماذا؟ ومن هذا الرجل؟ ويستدعى ذلك تجربتها السابقة وذالك الشعور حينما علمت بخيانة زوجها لها، وتمنت لو أنها ذهبت لمنزل ميجان وسحقت رأسها في الأرض بشدة وعنف.في صبيحة اليوم التالي، تجد رايتشل نفسها مثخنة بجرح كبير في رأسها وكدمات عدة بباقي أنحاء جسدها ودماء قد لطخت ملابسها، لكنها لاتجد تفسير مناسب فهي تنسى دوما ما يحدث لها، خاصة عقب اجتراع كميات كبيرة من الكحول.بعد أيام قليلة تتابع رايتشل في التلفاز خبراً عن اختفاء ميجان، فتشعر أنها ضالعة في الامر، يتزامن ذلك مع دخولها في دائرة الشبهات عقب استجوابها من قبل محققة تتولى التحقيق في الحادثة، والتي تخبرها أنها شوهدت بنفس المنطقة التي اختفت بها ميجان.من هنا استطيع القول أن الحبكة البوليسية للشريط تتمحور حول هذا الجزئية، حينما تختفي ميجان ولاتتذكر رايتشل ماذا حدث في تلك الليلة، بعد أن تفقد الوعي وتستيقظ في منزلها على تلك الهيئة المزرية. وتدخل في الخط آنا التي تتهم رايتشل بقتل ميجان بعد أن تركت الاخيرة عملها كمربية لطفلة آنا وتوم. ومنها تتصاعد احداث التشويق والغموض وتتداخل الافكار والذكريات مع بعضها البعض....................................جريمة وإنتقامتبدأ رايتشل بالبحث عن الحقيقة وتحاول ان تتذكر ماذا حدث معها تلك الليلة، وتذهب الى سكوت مدعية أنها كانت صديقة زوجته المفقوده وتحدثه بشأن ذاك الرجل الغريب الذي كان مع زوجته في المنزل، والذي يتضح فيما بعد أنه طبيبها النفسي ولم يقربها كما اعتقدت.وفي احد الايام، وخلال عودتها الى منزلها، تلتقي فتاتنا بسيدة تدعى مارثا، زوجة مدير زوجها سابقا قبل ان يقال من عمله، تحاول تلك السيدة ان تنعش ذاكرة رايتشل، لتكتشف الاخيرة أنها لم تكن بشعة او سيدة "نكدية" كما يقولون، وأن توم من كان يشعرها بذلك ويعاملها بقسوة، بل كان يوهمها ايضا بأنها لم تعد تتذكر شيئا. ويصف حياته معها بالمقززة. كما تخبرها مارثا بأنه تمت إقالته من العمل بسبب نزواته الجنسية مع كل من حوله، وليس بسبب تصرفاتها مع مدرائه كما ادعى عليها.تفضى تلك المقابلة الى الكشف عن جريمة "قتل"، فميجان تم قتلها على يد توم، حين أخبرته انها قد حملت منه، يتزامن ذلك مع وجود رايتشل في نفس المنطقة المعزولة ما دفع توم لضربها حتى اغمي عليها، ثم فعل فعلته مع ميجان وخبأ جثتها، لكي لايفضح أمره.تقصد رايتشل منزل آنا في محاولة لتحذيرها من توم، لنجد أن الاخيرة على علم بخيانة زوجها لها ايضا، مع ميجان حينما كانت تعمل لديهم، ويتضح انها صاحبة تلك المكالمات المجهولة.يحاول توم التخلص من رايتشل، عندها تغافله وتطعنه في عنقه بسكين عثرت عليه في المطبخ، بينما تتقدم آنا نحو لتغرز السكين أكثر.الفتاة في القطار.. لم ينجح في فرض نفسه طويلا داخل ذاكرة المتفرج، مقارنة بنظيره الفتاة المفقودة، او الزوجة المفقودة "تجاريا" الذي تميز بالتعقد الشديد للشخصيات والحبكة والغوص في اعماقها بعيدا عن التمسك بالسطحية التي اكتفى بتقديمها فتاة القطار، التي تمثلت في جريمة اختفاء ميجان، وترك الجزء النفسي المهم، وهو الأمومة، العامل المشترك بين الثلاث سيدات أبطال الشريط، والذي بنت عليه الكاتبة روايتها. فجميعهن كانت تتمنين حياة مستقرة هادئة بين زوج صالح وأطفال سعداء.لكن سيبقى العمل الأفضل في 2016 ، المندرج بين أعمال الثريلر المثيرة والغامضة.رؤية : طارق علي سرحان [email protected]