يا دارُ أَرواحُ المنازل أَهلها .. فَإذا نأَوا تبكيهمُ الأَبدانزار أطلالها ـ خلفان الزيدي عدسة : قبل حوالي شهر أو يزيد قليلا، انهارت في ولاية الحمراء بعض منازل حارة مسفاة العبريين، كان تداول الخبر يومها "عاديا" مثل أخبار كُثر تتوارد عن انهيار حارات هنا، وسقوط منازل طين هناك، أو تهاوي سور، وتلاشي ذاكرة.. فكم من الحارات والمنازل تنهار دون أن تحرك ساكنا، أو تسكن متحركا، أو تقطع موصولا وتوصل مقطوعا، تنهار دون أن تستوقف أحدا ليقول كلمته انقاذا لما تبقى من ذاكرة خبئت تحت جدرانها، وبين نوافذها وأبوابها.وحدها الصورة من يرثي المكان، حينما تجوب العدسة اطلاله، وتزور ما تبقى من معالمه، وهي الصورة ذاتها التي حركتني وأنا أنظر لحارة أخرى على مقربة من حارة مسفاة العبريين، وكأني اسمع نشيجها:هل بالديار سوى صَداكَ مُجيبُ أم هل بهِنَّ على بُكاكَ مُثيبُومن العجائب أن تسائلَ دارَهمْ عنهُمْ وقلبُكَ فيهِمُ مَجنوبُ.كانت الحارة القديمة في ولاية الحمراء، صورة متناسلة من صور حارات في ولايات نزوى وبهلاء ومنح وأدم وسمائل وإبراء والقابل وعبري وولايات عمانية أخرى، شكلت الحارة فيها مكونا رئيسيا، وكانت نموذجا للمعمار العماني التقليدي، تختزن احتياجات الإنسان من المرافق والتكوينات المعمارية، وتضم كل المرافق العامة من مساجد ومدارس تعليم القرآن وطرق، وسواقي أفلاج ومنشآت تحصينية كالقلاع والحصون والأبراج والبوابات وغيرها، بتخطيط هندسي، يستجيب لحاجة الحارة إليه، وأهميته وقيمته لدى السكان.ولذلك حين عبرت إلى الحارة القديمة أول مرة، وقد كان ذلك قبل زمن ليس بعيدا، وجدتني أطالع صور البيوت المتلاصقة بعضها ببعض، والدروب الواصلة بينها، وأناظر الشرفات والأبواب، دون أن تحدثني نفسي حينئذ أن أطرق أحد الأبواب، وأدخل إلى هذه الديار لأرى إن كانت الحياة ما زالت تسكن بين جدرانها، أم أنها تولت وزحفت بعيدا عنها.وكان أن عاودتني صورة الحارة لتحدثني من جديد، عن الجفاء الذي وجدته مني أول مرة، وتستحثني العودة للعبور في دروبها، وتقصي خطوات الراحلين، والوقوف على اطلالها، ولذلك حثثت المسير نحوها، ووقفت على الربوة البعيدة، اناظر الصورة الكاملة للحارة وهي تنام في حضن الجبال، وتتلحف بساتين النخيل، وتشرب من ماء الفلج.كانت حارة الحمراء القديمة، صامتة إلا من صفير ريح، أو خرير مياه، أو حفيف شجر، وعلى طرقاتها آثار الذين عبرو الدروب، الذين سجلوا شواهدهم هنا، وشيدوا معالم حضارة بلغ صيتها الآفاق، ثم الذين أتوا من بعدهم، الذين وجدوا في الحارة ملجأ للهروب عن الأعين، وارتكاب المحرمات.أعبر دروب الحارة القديمة، اصفح المنازل، دارا بعد أخرى، ثمة أبواب مصفدة، وأبواب أخرى انهارت، وكشفت عن خبايا الدار وتفاصيلها من الداخل، وأبواب لم تعد موجودة، وديار لا يعرف أين مكان أبوابها، فقد تهدم بنيانها، وخرت جدرانها، فيما بدت بعض المنازل مليئة بالقمامة، ومتكدسة بالزجاجات والعبوات الفارغة، وكأن حال المنازل حينئذ يرثي مصابها وما آلت إليه.اقترب من دار تسكن على مفترق دروب الحارة، اطالع كتابة على الباب تحكي عن تاريخه، وزمانه، حيث نقش عليه أيات قرآنية، وتاريخ الانتهاء من صنعه، ينبيء نقش الباب، أنه "فرغ من صنعه في رجب سنة 1316هجري"، وأنه منذ ذلك الحين ظل صامدا أمام تقلبات الزمن، يحرس الدار، ويرحب بالزائرين لها، ويصد المعتدين عنها.مثل هذا الباب، وجدت أبوابا مثله كثيرة، بعضها بدأت تتلاشى حروفها، وتنطمس نقوشها، وتختفي كتاباتها، فيما نخرت الرمة اجزاء كثيرة من بعض الأبواب، حتى أن بعضها تهاوى ولم يبق إلا قطعة صغيرة منه، تدل على كينونته، ومهارة صناعته.أما النوافذ، فكما الأبواب، بدت في أحوال مختلفة، بين من يقاوم السقوط، ومن استسلم وانهار تاركا مكانه مشرعا على الفراغ، ونوافذ مغلقة، تبكي الذين رحلوا، وأخرى مفتوحة تتلمس عودتهم، وتترقب رؤيتهم.كانت الحارة القديمة تغوص في الصمت، وحدها خطواتي من تقطع سكون المكان، ثم صوت خطوات أخرى يتقاطع مع خطواتي، وتبدو الحارة ساحة للزوار والسياح يعبرون منها وإليها، وهم يلتقطون الصور تلو الأخرى، مكتفين بصورة تسرد كل ما يمكن أن تقوله الحارة القديمة في ولاية الحمراء.ربما يمكن فعل الكثير في هذه الحارة، وقد كان ذلك من قبل، فما زالت صورة منازل الحارة حاضرة في الذاكرة، تُجمل مشاهد مسلسل عماني قديم صور في رحابها، كانت الحارة القديمة، أجمل ما ظهر في مسلسل "قراءة في دفتر منسي"، كما كانت كذلك في مشاهد ومقاطع عديدة اتخذت من المكان مسرحا لحكاياتها.يمكن فعل الكثير.. ففي حارات أخرى امتدت يد العون، لتزيل جفاء الزوار، ومخلفاتهم في الطرق وداخل المنازل، كانوا يجملون الحارة، ويحسنون إليها، حتى وإن لم يقطنها أحد.. كان يكفي أن تكون زاهية، وهي تستقبل زوارها، وكان ذلك أهون الأمور بعد هجرانها.يمكن فعل الكثير، فهناك حارات شُرع في ترميمها وتحديثها، وكل ما تحتاجه هذه الحارة وحارات كثيرة في عمان، أن يكون لها نصيب من العناية والاهتمام، وأن يحافظ على ما تبقى منها، وإن بدت للكثيرين اطلالا، ومنازل خاوية على عروشها.في آخر الدرب بدأ لي مشهد الفلج وهو يعبر من مسجد الصلف نحو ابنيتها، ثم ينعطف جهة المزارع والبساتين القريبة، مشهدا جميلا، يأسر الألباب، ويشد الأنظار إليه، وقفت أمام صفحة الماء الجارية، طويلا وأنا أنظر نحو الصورة المتشكلة منه، وكأني في تلك اللحظة بالشيخ ماجد بن خميس العبري يتوضأ من الفلج، قبل أن يصعد إلى المسجد، ليواصل حلقات التدريس، وتبصير الناس في أمور دينهم ودنياهم.كان مسجد الصلف شاهدا على الكثير من المشاورات السياسية، وتبني المواقف التي كتبت فصولا في حياة أهل الحمراء ورؤيتهم للأحداث المحيطة، وكأني بصرح المسجد يضج بنقاشات المجتمعين فيه، ويدوي بتسابيح العاكفين، وابتهالات الركع السجود، وبين أركانه كانت حلقات الذكر والعلم ودروس النحو تلتئم حول علماء الحمراء وفقهائها ومن العلماء الذين يأتون إليه من الأمصار القريبة.كان المسجد على حالته الأولى، بقبته الصغيرة، يراقب الحارة وهي تتبدل من حال إلى حال، ويهمس في العابرين إليها، ينبئهم عن تاريخ الحارة، وعن الذين سكنوا فيها، وعن الذين نسوا حارتهم، وهاجروا لديار فسيحة، الذين لم يعد يصافح وجوههم، وهم أبصروا الحياة أول مرة هنا، وترعرعوا في دروب الحارة ومنازلها، قبل أن يهاجروا المكان، ويجعلوه في ذاكرتهم نسيا منسيا.لم يكن المسجد وهو يشير إلى حال الحارة بأفضل حال منها، والتحسينات البسيطة التي ادخلت عليه، لم تغير أيا من معالمه، أما توسعته فلم يعد في حاجة إليها، فالمصلون ما عادوا بالكثرة التي كانوا عليها ذات زمن غير بعيد، والحارة التي كانت تضج بالحياة، ما عادت تتنسم انفاسها، ولا تعيش صخبها، الكل أغلق بيته، وقليل من يتذكر أن له منزلا وذكرى في الحارة القديمة، فيعوده.. ويطمئن على احواله ومآله.كانت حارة الحمراء "القديمة".. واحدة من الحارات التي تئن من الهجر والجفاء، لم تكن في حاجة إلى أكثر من يد حانية، تعيد إليها الألق وتحفظ الأرث المسكون بين زواياها.وحده بيت الصفاة من يمكن الاشارة بفخر إلى كينونته، وكيف تبدل إلى حال أحسن من البيوت القريبة، إذ غدا صوت التاريخ، وهو يروي للذين يزورنه من قريب أو بعيد، عن العادات والتقاليد العريقة، ويخبرهم عن الفنون الشعبية والأكلات وعن الأدوية الشعبية، وعن أقسام البيت العماني القديم، ويطلعهم على الصورة الزاهية التي يشتاق إليها كل من زار هذا المكان، وتعرف على محتوياته وتفاصيله.وغير بيت الصفاة.. لا تبدو صباحات الحارة ضاحكة كما كانت، فالسوق القديم صار مهجورا هو الأخر، والأبراج التي تحرس الحارة بدأت تندثر.. ويوما ما سنبكي الحارة القديمة، كما بكينا حارات كثيرة من عمان.. وحينها لن يجدي البكاء، ولن يرمم دارا، أو يعيد بابا إلى موضعه، أو نافذة إلى شرفتها.