ثمة علاقة جدلية بين التعليم المعماري في المعاهد العلمية وبين الفكر الثقافي السائد وبين واقع الممارسة العملية. وهذه المعادلة التي تتشكل من هذه المتغيرات الثلاثة تنعكس إيجابا وسلبا بين قطبيها على متغيراتها وتتفاعل عكسيا أو طرديا بتمظهرات ظرفية محيطة تشكل البيئات الاجتماعية والمبنية - وليس البيئة الواحدة باعتبار البيئات الخفية التي لا تدرك بالحس وإنما بالحدس والتأمل العميق. ونظرا لأهمية القطب الأبرز وهو التعليم المعماري لما يشكله من حجر الزاوية والأساس في إعداد النشء المعماري وتقديم الخبرات المؤهلة للتفاعل مع الفكر الثقافي وتقديم محاولات تستلهم وتبتكر وتمزج الطرز المعمارية التي تنعكس مباشرة على تشكيل البيئة المعمارية – والتي تكون وللمفارقة أداة ومحتوى في ذات الوقت- بمعنى أن محاولات المعماريين وإنتاجهم يشكل البيئة المحيطة، والتي تعمل لاحقا على تشكيل إنطباعاتهم وأحاسيسهم مرة أخرى في دورة لا نهائية لا يمكن، حتى اليوم، تقييم آثارها بشكل نوعي علمي مخبري، فإن هذا المقال يسلط الضوء على واقع التعليم المعماري في الأردن في فترة الثمانينيات ودوره في التعامل مع التراث المعماري خصوصا والثقافي عموما.ظهور العمارة التراثية كطراز في الأردنلقد تأثر استخدام التراث في التعليم المعماري في الأردن بين مد وجزر على مدى العقود الأخيرة. وبعد بداية متواضعة جدا في فترة بداية الثمانينيات، فقد تسارعت وبطريقة ملفتة عملية العودة للتراث في مشاريع التصميم وفي التفكير المعماري بين بعض المعماريين، وتبعا لذلك بين أوساط الطلبة. ولعل من نافلة القول أنه قبل السبعينيات لم يكن التراث يعتبر لاعبا أساسيا في الدراسات النظرية، فضلا عن اعتباره كذلك في الممارسات التطبيقية. فالطرز المعمارية السائدة آنئذ كانت تنتمي بشكل أكبر للتلقيطية أكثر من أي طراز معين، عدا عن الطراز العالمي الذي ساد في فترة الستينيات وما بعدها ووجد له امتدادا وحيزا في فراغ فكري وثقافي احتل معظم الدول العربية في مراحل ما بعد الإستقلال وبدرجات متفاوتة ونسبية. وهذه الطرز أظهرت القليل من التعاطف، إن أظهرت أيا من التعاطف على الإطلاق، تجاه التراث المحلي أو تراث البيئة المبنية أو التراث الثقافي عموما. وبدلا من ذلك فقد اجتاحت منطقة الشرق الأوسط ودولها طرز العمارة العالمية ونظريات ما بعد الحرب العالمية وما تبعها من أفكار معمارية، بما فيها الأردن كما يبين كلترمان المؤرخ المعماري في بعض أوراقه المنشورة في مطلع الثمانينيات عن العمارة في الشرق الأوسط والأردن تحديدا. وبهذا الإطار، فقد عكست البيئة المبنية، مع وجود القليل من المعماريين الممارسين في الأردن مع نهاية حقبة الستينيات وبداية السبعينيات، عكست هذا التأثير الغربي دون تأثيرات العمارة المحلية أو الإقليمية.وخلال فترة الثمانينيات، ظهرت وتبلورت معالم وأطر حركة معمارية على أيدي نخبة من المعماريين العرب، والتي تبنت التراث في وقت كانت العودة له تشكل مخاطرة مهنية على الأقل. في الوقت الذي غابت فيه الأطر الثقافية الناظمة التي تحمي وتدعم من يتبنى هذا الإتجاه، وفي ظل بطء تناقل المعلومات والأفكار في تلك الفترة في فترة ما قبل العولمة، بما قد يعني دورة حياة عملية طويلة قد تختزل في محاولات وتجارب قد تودي بمن يتبناها إلى هامش جانبي في تاريخ العمارة العربية قد لا يعود بالنفع على صاحبه في حياته أسوة بمن سبقه من المبدعين والفنانين الذين حظوا بالتقدير والفهم بعد حياتهم. وأبرز مثال على ذلك شكلته تجربة المعماري المصري الفذ حسن فتحي الممتدة على عدة عقود ومعاناته المريرة الطويلة مع البيروقراطية من جهة لتبني أفكاره التي تستلهم التراث القروي البسيط ومع سيطرة رأس المال ودورة الاقتصاد المحلي والخاص والتي تشكل أبرز ملامح العمارة اليوم وبخاصة في عالم معولم يتمحور حول دورة رأس المال وحركة الاقتصاد كأساس للنجاح وتحقيق المكاسب والشهرة والثروة. في خضم تلك الفترة ومع تنامي خلجات من حراك نحو تبني التراث كطراز معماري يستلهم الأسس المجتمعية والثقافية والبيئة المحيطة التقليدية بدأت منذ منتصف السبعينيات، على أيدي معماريين أبرزهم قطبان مهمان وعملاقان من عمالقة العمارة العربية المعاصرة هما حسن فتحي في مصر وراسم بدران بالأردن، فقد كان من الملفت أن تبدأ عملية إحياء القيم التراثية واستعادتها واستعمالها بالإضافة لعناصر من العمارة التقليدية في المدن القديمة والتاريخية مثل القدس والقاهرة.هذه الحركة المعمارية المتنامية بدأت في النظام التعليمي في الأردن – خصوصا في الجامعة الأردنية كونها الجامعة الوحيدة في الأردن آنذاك تقريبا، وكإحدى الجامعات ذات التقدير المتميز في المنطقة آنئذ. هذه العودة للتراث كمرجع للتعلم والفهم كان يميزها العديد من المقومات التي أسهمت لظهورها وإعلاء شأنها: أولا، تقدير العديد من المعماريين العرب الرواد، والذين قادوا هذا الإتجاه، من قبل المعاهد الغربية مثل هارفارد ومعهد ماساشوشتس للتقنية من جهة، وبرنامج الآغاخان للعمارة الإسلامية من جهة أخرى. وهذا التقدير الأكاديمي والتطبيقي أدى إلى أن يحتل التراث والدراسات التراثية واستعمال المفردات التقليدية المعمارية مكان الصدارة تحت دائرة الضوء. ثانيا، خدمت المساهمات الناجحة والدخول في المسابقات المعمارية المحلية والإقليمية، بالإضافة لمجموعة أخرى من العوامل، كمجالات عرض للأفكار والنظريات المعمارية المستوحاة من التراث، بحيث أصبحت محط اهتمام مجموعة كبيرة من الطلاب والأكاديميين في الجامعة الأردنية – والتي كانت الجامعة الرئيسة في الأردن بقسم العمارة المتميز بها. ثالثا، أظهرت برامج التبادل الأكاديمي آنذاك بين الجامعة الأردنية وبين مؤسسة الآغاخان، والتي أدت لتأسيس وحدة الآغاخان بالجامعة الأردنية، الإهتمام بالتراث والدراسات الإسلامية، وقادت إلى المزيد من الإهتمام بتحليل ودراسة العمارة المحلية والإقليمية. رابعا، ساعدت عملية نشر المشاريع المتميزة المحلية والعالمية طلبة العمارة والأكاديميين لمزيد من الدراسة والتمعن وفحص التراث وكانت عاملا أساسيا لاستيعاب ونشر الفكر النظري المستوحى من التراث، والذي بالنتيجة حرك البحث التحليلي لفهم وتحليل أعمق للتراث. خامسا، بالرغم من البطء النسبي في تكنولوجيا الإتصالات ومحدودية التداول للمعلومات وندرة المنشورات (باستثناء مجلتين رئيستين هما معمار والبناء) إلا أن الحماس تجاه استعمال التراث في البرامج والدراسات الأكاديمية كان محركا بدرجة كبيرة ليصبح نتيجة لحصافة وبعد نظر بعض الأكاديميين الذين أشركوا الطلاب الموهوبين ممن سعى لفهم واستعمال التراث كطراز في تصاميمهم المعمارية على مقاعد الدراسة.البيئة المعمارية: الفرص والعقباتكان المزاج العام خلال فترة بداية الثمانينيات في الجامعة الأردنية تحديدا يميل لاحتضان طرز وأنماط معمارية، فكرا وتطبيقا، بما فيها التراث والعمارة التقليدية. وبهذا الإطار، فقد ساد مفهوم عام يميل للتجريبية. وهو ما كان يعني أن الطلاب والأساتذة على حد سواء قد تقبلوا حقيقة أن مراسم التصميم كانت مسرحا لاختبار الأفكار والمفاهيم التراثية المرتبطة باستخدام التراث في الأفكار التصميمية. وهذا تم دعمه أكثر من خلال التجارب العملية على أرض الواقع وفي البيئة المبنية من خلال معماريين جدد ورواد العمارة الممارسين. وقد تم تطوير وتحسين المناخ والخبرة في التعليم برمتها، لكن العلاقة المشتركة بين التعليم المعماري وبين الدعم من خلال الممارسة العملية وجدت طريقها من خلال العديد من الوسائل والمنهجيات، بعضها تجسد في مراسم التصميم، والندوات، والمحاضرات والمناقشات، وبشكل أقل في مكاتب التصميم المعماري بعد تخرج الطلبة. وهذا كان يعني أن التكاملية بين التعليم الأكاديمي والزيارات المستمرة المتتابعة من قبل الممارسين المهنيين المعماريين كانت منتظمة وتكاملت بشكل دقيق – ربما دقيق جدا. وبكلمات أخرى، فإن حقيقة أن المعماريين الممارسين كانت تتم دعوتهم للمناقشات وتحكيم أعمال الطلبة كان لها مفعول مضاعف بالإتجاهين، فمن ناحية كانت تعني علاقة لصيقة وارتباط بين الجيل الشاب من طلبة العمارة الذين سيصبحون لاحقا معماريين مبتدئين في مكاتب معمارية كبيرة في الأردن – وتحديدا في مدينة عمان. ومن ناحية أخرى، فقد كانت فرصة للمعماريين الممارسين لأن يصبحوا محاضرين غير متفرغين، أو حتى محاضرين زائرين في بعض الأحيان، وأن يشرفوا على أعمال الطلبة، فضلا عن التأثير على طريقة تفكيرهم باتجاه المزيد من الإلتصاق بالتراث والعمارة المحلية. وهذا كان يعني أيضا أن شهرة وشعبية المعماريين الذين تبنوا واحتضنوا العمارة التقليدية والمحلية كانت بازدياد، وأن مشاريعهم كان يتم دراستها من قبل الطلبة كحالات دراسية.وفي ذلك الوقت فقد كانت العلاقة بين الهيئة التدريسية والأساتذة والمدرسين في مراسم التصميم المعماري بالجامعة وبين المعماريين المهنيين الممارسين يؤطرها مصالح مشتركة واحترام متبادل. وهذه العلاقة تغيرت بشكل كبير ودراماتيكي بعد عقد أو اثنين لاحقا، حيث أمكن تبين نوع من تضارب المصلحة لدرجة أن هذه العلاقة تأثرت بشكل ملحوظ وتبعا لذلك سادت نظرة متحيزة ضد التراث والعمارة التقليدية والمحلية في الأردن بشكل عام. وكان لذلك العديد من الأسباب، أقلها انتشار الطرز العالمية، مثل التفكيكية تحديدا، والتي أثّرت على الشعور العام تجاه ما كان ينظر إليه على أنه "طرز تقليدية، حين أصبحت العمارة المحلية تحت المراجعة والنقد – ربما نقد لاذع وقاس جدا.اللاعبون الأساسيون المؤثرون في التعليم المعماريقبل القفز للنتائج، من الملحّ والضروري أن يتم إبراز المنهجيات والطرق المستخدمة في التعليم المعماري والمناهج في الجامعات الأردنية. وقد يكون من الحكمة أيضا مراجعة اللاعبين الأساسيين المسيطرين الذين سادوا وأثّروا في الساحة المعمارية – مع الأخذ بالحسبان حالة العلاقة التكاملية بين الممارسة والتعليم. ولكن فإن الفصل وتحديد الحدود بين الإثنين كان غامضا وصعبا في بعض الأحيان، حيث كانت البرامج المعمارية وتدريب الطلبة وإشراك المعماريين الممارسين في الندوات والمناقشات وحتى المحاضرات قد جرت في تناسق وتساوق وكانت تقصد لتشجيع مزيد من الطلبة لاحتضان التراث في تصاميمهم وبخاصة حين يتم إشراك معماري مشهور ومواظب في هذه النشاطات الأكاديمية.ولعلها كانت ضربة حظ أو ربما صدفة محضة، أن تشهد الساحة الأردنية في فترة بداية الثمانينيات ظهور العديد من المعماريين الرواد والذين لم يؤثروا في التعليم المعماري فحسب، لكنهم أيضا تركوا بصمات واضحة ومميزة على البيئة المبنية بحيث أصبحوا رموزا ونماذج تقتدى من قبل الجيل الجديد من الطلبة الذين سيصبحوا معماريي المستقبل. وعلى المستوى المحلي، فقد شهدت الساحة المعمارية الأردنية العديد من اللاعبين الأساسيين النشطين مثل راسم بدران، والمعماري جعفر طوقان، وبلال حماد، وفاروق يغمور، وأكرم أبو حمدان والمعماري الأرمني ديران بالإضافة لغيرهم. وهؤلاء كانوا ضيوفا منتظمين يترددون على الجامعات في ندوات ومناقشات تحكيم لمشاريع التخرج، فضلا عن كونهم أنفسهم متنافسين في مشاريع تطوير حضري ومعماري محلية وإقليمية. وعلى المستوى الإقليمي، فمنذ بداية الثمانينيات فقد شكلت المساهمات التي تقدم بها معماريون أمثال حسن فتحي من مصر، ومحمد مكية من العراق، وعلي الشعيبي من المملكة العربية السعودية، وعبد الواحد الوكيل من مصر (بريطانيا وأمريكا)، وأخيرا وليس آخرا عبد الحليم إبراهيم، كلها شكلت التربة الخصبة والخميرة لمناقشات دافئة ومحاولات من قبل الطلبة لدخول عالم "تبني التراث". ولكن كيف تطور شكل هذه العلاقة الجدلية بين واقع التعليم المعماري وبين تطور الطرز المعمارية وبين واقع الممارسة العملية وتأثير هذه المعادلة على مخرجات وواقع التعليم المعماري مع تعدد المرجعيات الأكاديمية الخاصة وانتشار "التعليم التجاري"؟ سؤال مهم برسم التدبر والإجابة. د. وليد أحمد السيد