اشتهرت نظرية النقد الأدبي الكلاسيكية بمقولتها "إن النص الأدبي، ومنه الرواية، هو ابن شرعيٌ لمؤلفه، حيث أنها مرآة له؛ تعكس ثقافته وبعضاً من حياته، وأنه يمكن من خلال النص هذا الوقوف على مقربة من تجربة المؤلف وتمحيص شخصيته النفسية وأبعادها الاجتماعية والأيديولوجية، ويتمحور دور الناقد بجمع معلومات متعلقة بسيرة المؤلف ليستشهد بها حين دراسة النص. واستمر العمل بذلك حتى جاءت نظرية موت المؤلف) (Death of the Author للناقد الفرنسي الشهير رولان بارت(Ronald Barthes) ، والتي تدعو للتركيز على لغة النص وعلى القارىء نفسه بمعزل عن المؤلف الذي لم تعد له سلطة تهيمن على مفردات ومعاني نصه ودلالاته، حتى قال بارت في ذات السياق: إن النص ممارسة دلالية يوظف فيها كل طاقاته بلا توقف ولا أناة، فيصبح النص تناصاً، والتناص هو حضور فعلي لنص في نص آخر يقدم سيرورة الإنتاج عبر لغة البناء.
ومن خلال هذين الاتجاهين المتباعدين حدّ التناقض، نحاول الخوض والتمحيص في نظرية "موت المؤلف"، ونحاول أيضاً إسقاطها على نصّين مختلفَين وربما متباعدَين جداً، ولذلك، فإننا سنقسم الموضوع إلى أربعة محاور، وسيكون المحور الأول استدلالاً من آيات القرآن الكريم، والمحور الثاني من خلال رواية "حكومة الظل" للكاتب السعودي د. منذر القباني، والثالث يبحث عن إمكانية الإيمان والعمل بهذه النظرية الجدلية. أما الرابع فيخصص لآراء النقاد والمخالفين لنظرية موت المؤلف.
إننا في هذا الموضوع الحسّاس، نحاول أن نضع مقاربة فكرية من خلال تطبيق النظرية ونقيضها على تلك النصوص المنتقاة، ونطرح تحليلاً مبسطاً حول تأصيل نظرية موت المؤلف .. وهل يُعد مصطلحُ موتِ المؤلف منهجاً إجرائياً صرفاً أم أنها إشكالية فكرية فلسفية فقط تمس جميع المستويات الأدبية؟
المحور الأول: القرآن الكريم
- المثال الأول: قال تعالى في مطلع سورة البقرة ﴿الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ .. ومن خلال التمعن في الآية الكريمة، نجد أن الحروف القرآنية المقطعة ودلالاتها هي موضع اختلاف بين المفسرين، فقيل إنها من علم الغيب حيث لا يطلع على دلالاتها غير الله تعالى، وقيل إنها أسماء من أسماء الله الحسنى، وقيل إنها من أسماء النبي محمد (ص) ، وهذه الـ (قيل) تفتح النص لباب الاجتهاد، أي أن النص القرآني وبحسب نظرية موت المؤلف صار مفتوحاً لجميع الاحتمالات والدلالات، وتعطي الحق للقارىء العادي والمفكر والمفسر المتبحر والمبدع أن يستنطق النص ويعرف مجازاته، ويعي بعد انتهائه من قراءة النص (الآية) أن اللغة كانت إلهية غيرَ إنسانية، وأن الله تعالى من خلال القرآن لا يخاطب الناس بأشياء لا يريد أن يعرفوها ويطلعوا عليها بل يحثهم على تدبر القرآن؛ فقال في سورة محمد الآية 24 ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ وعليه يمكننا القول أن النظرية الأنسب لفهم آيات القرآن الكريم هي نظرية موت المؤلف وليس النظرية الكلاسيكية. وبالعودة للآية الكريمة، نجد قوله "هدى للمتقين، الذين ..." فيه دلالة واضحة أنه لم يكن الغرض من هذه الآيات أن يبين الله لنا ما في الطبيعة من حقائق علمية؛ لأن ذلك موكول لعقل الانسان وتجاربه، وإنما الهدف الأول من ذكرها هو أن نسترشد بالكون ونظامه إلى وجود الله سبحانه، وإنما يدرك منها كلُ عالم (قارىء) ما تتسع له مؤهلاته ومواهبه، فإن اكتشف عالِمٌ معنى منها فإنه يكتشف طرفاً من أطرافه فقط.
وفي التفسير الكاشف، يضيف مغنية قوله: " إني ما مضيت في تفسير القرآن إلا قليلاً، حتى أيقنت أن أي مُفسِر لا يأتي بجديد لم يُسبَق إليه، ولو بفكرة واحدة في التفسير كله يخالف فيها مَن تقدمه من أهل التفسير، إن هذا المفسر لا يملك عقلاً واعياً وإنما عقلاً قارئاً"
من هنا ندرك، أن النص القرآني مفتوح الدلالات، وأنه يمكن معرفة قدسيته من خلال النص ذاته، ومن خلال القارىء المثقف النهم والمفسِر المبدع، وإنه يمكننا معرفة الله تعالى من خلال هذا النص البليغ، وهو قولٌ يتناسب في إطلاقه مع نظرية موت المؤلف.
- المثال الثاني: سورة الكوثر ونقيضها:
وفي ذات السياق، يمكننا أيضاً أن نستشهد بمثل آخر، وأن نقف أمام نصّين آخرين لمعرفة الغث والسمين.. ونستذكر هذه القصة المشهورة، فلما بلغ مسيلمةَ الكذاب سورةُ الكوثر ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر ﴾ ادّعى أنه أُنزلَ عليه قرآنٌ آخر .. فقيل له : وما أُنزلَ عليك؟ فقال: أُنزلَ عليّ سورةُ الوحواح .. ثم تلا إفكه عليهم فقال:(إنا أعطيناك الوحواح، فصل لربك وارتاح، إن ربك هو الخروف النطاح).
إن التأمل في الآيات الثلاث لسورة الكوثر يرسم صورة لا متناهية لدى القارىء، فلفظ الكوثر من حيث الإعراب مفعول ثان للفعل أعطيناك، ومفعول انحر محذوف، أي انحر ضحيتك.. فالتركيب البنيوي (structure) في ذاته يدفع القارىء إلى التفكر ومحاولة وضع نهايات للنص المفتوح. وأما من الناحية الدلالية، فالكوثر هو مبالغة في الكثرة، واختلفوا في المراد منه، فقالوا (أي أنهم فتحوا النص للتأويلdenotation ) إن الكوثر هو جميع نعم الله، وقالوا إنه نهر في الجنة، وقالوا إنه الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى لنبيه محمد (ص) ويراه الطغاة لا شيء أبداً.. ونلاحظ هنا انفتاح النص الدلالي عبر استخدام المجاز وقبوله للتأويل من حيث المفردات النحوية ومن حيث المعنى. ثم جاءت آية (فصل لربك وانحر)، فالصلاة هي الفعل الذي يقوم به المسلم، وهي علاقة الصلة بخالقه، وهي وسيلة الشكر ... والنحر جاءت بمعاني الذبح ورفع اليدين حذاء الوجه عند الصلاة ... والأبتر هو المقطوع من النسل والتارك لكتاب الله.. نلاحظ أن كلام الله تعالى كثير الدلالات والمجاز ولا يمكن تجاوز البلاغة في ترسيخ الصورة في عقل القارىء، فالنحر يشبه النهر في التدفق الناتج عنه، والأبتر إنما جاء لفظاً في آخر السورة ليعطى معنى الانقطاع للتدفق المجازي ولنهاية السورة لفظاً .. إنك تجد التأويل في النص القرآني دائم الانفتاح للتأويل والاجتهاد وهذا ما أعطاه عظمة وقدسية تدفع غير المسلم قبل المسلم للتفكر فيه والتصديق به، فهو نصٌ مترابط المفردات مفتوح الدلالات، يحيلك إلى معرفة قدسية الله تعالى، وأنه على الإطلاق ليس بكلام بشر.
وعند مقارنة الآيات السابقة مع (آيات) مسيلمة الكذاب، فإننا نجد أنه تناص ترادفي يصل لحد السرقة اللفظية الفاضحة حيث استخدام ذات المفردات (إنا أعطيناك، فصل لربك)؛ وهو ما يضعف النص حسب نظرية موت المؤلف، لأن التناص عند بارت قائم على الدلالة والمجاز لا على السرقة الحرفية، وبالتمحيص في نص مسيلمة فإننا نجده هكذا: الوحواح مفعول به ظاهري بمعنى الشدة والبأس والقوة، وارتاح فعل أمر، الخروف خبر إنّ والمرتاح صفة لها؛ إن النص المكون من الآيات المزعومة هي ألفاظٌ مغلقة من حيث التركيب النحوي والدلالي، فلا تترك للقارىء المبدع أن يلهث خلف المعاني والدلالات، فليس هناك مجاز وليس هناك نصٌ مفتوح. إن القارىء المبدع (حسب بارت) هو القادر على أن يصل لمعرفة المؤلف من خلال التعاطي مع النص، أما القارىء العادي فهو الذي يعرف المؤلف ثم يدرك النص.
وبما أن الحديث مايزال في نطاق ألفاظ القرآن الكريم ودلالاته، يجدر القول أن هناك منطقة مشتركة بين دلالة العقل ودلالة النص القرآني يتشاركان فيها كما يستقل كل منهما فيها عن الآخر، تلك منطقة النصوص المتعلقة برؤية الله سبحانه وتعالى، يدل الدليل العقلي على استحالتها، وكذلك يدل الدليل النقلي السمعي، وليس أحدهما بأسبق من الآخر ولا أولى منه في هذه الدلالة، ولكنهما متساويان.
المحور الثاني: رواية "حكومة الظل"
أولاً: لابد من الحديث باختصار حول رواية "حكومة الظل" التي تدور أحداثها في عصرَين مختلفين ومتباعدين، قصة معاصرة تسير في موازاة قصة قديمة جداً، بطل القصة المعاصرة هو نعيم الوزان التاجر الشاب السعودي الذي يسافر للمغرب للقاء أستاذه الجامعي السابق د. عبدالقادر، وخلال أيام الزيارة يُقتل عبدالقادر ويُعلقُ في منزله بعد أن يَتركَ لضيفه خيوط القضية الغامضة، ويتتبعها بعد ذلك نعيم بكل حذر في المغرب ومصر..
وفي موازاة ذلك، تسير أحداث القصة الأخرى العام 1908 مع خليل الوزان(جد نعيم) الذي يسافر لأسطنبول ليعيَّن في مجلس المبعوثان ممثلاً للمدينة المنورة، وذلك خلال حكم السلطان عبدالحميد الثاني، أي في السنوات الأخيرة لانهيار الدولة العثمانية .. وبتتبع أحداث القصتين، نجد أن الماسونية هي أحد أسباب سقوط الدولة العثمانية بعد سيطرتها على جماعة الاتحاد والترقي المعارضة، وهي ذاتها – أي الماسونية - هي التي تقف خلف الجرائم التي لا يُعرف فاعلوها ... أي أن الماسونية هي حكومة الظل العالمية وهي التي تسير العالم كيفما تشاء.
ثانياً: كيف يمكن للقارىء أن يتبنى النظرية الكلاسيكية أو البارتية من خلال قراءته "لحكومة الظل"؟ نستعرض هنا عشر نقاط ينادي بها رولان بارت ، وهي من مقومات نظريته، ولنرى إن كان النص الأدبي فاعلاً في أي من النظريتين..
1. يرى بارت، وعلى النقيض من النظرية الكلاسيكية، أنه لا يوجد إطار للنص يحدده وليس له مؤلف ولا عنوان ولا وحدة كلية.. وبالعودة إلى "حكومة الظل" نجد أن في صفحتيها الأخيرتين على سبيل المثال، نجد (خاتمة البداية) وهي تخبر عن بداية أحداث جديدة تناط بالقارىء لتوقعها والبحث عنها في ختام الرواية الأصلية، ويختم المؤلف روايته بهذه الجملة "العالم يتغير. لم يعد كما كان. ولكن أكثر الناس لا يدركون." وهي دعوة صريحة للقارىء المبدع كي يجري خلف دلالات النص ولا يتوقف عند المؤلف.
2. يعتبر بارت أن النص الواحد هو (مستقر) لمجموعة عريضة من النصوص تحدث نتيجة عملية استيعاب بالغة الذكاء، فمعانيه كثيرة ودلالاته واسعة ومجازاته غير منتهية، ويمكن ملاحظة ذلك عبر تتبع المعرفة التاريخية الواسعة التي امتلكها النص وتنوعت فيه مصادره، حتى يُخيل للقارىء أنه يقف أمام مكتبة متنقلة.
3. يخفي النصُ أصلَ الأشياء ويجعلها في قالب جديد، ومعروف لدى العامة أن الأسباب التي أدت لسقوط الدولة العثمانية هي الحروب مع الجيران، وكثرة الولاة والفساد الإداري .. إلخ، ولكن القباني يذهب إلى أكثر من ذلك، يذهب- ومن خلال معرفته - إلى أن الماسونية هي من تقف وراء سقوطها، ويرى أنها تقف خلف الجرائم التي تقع في أنحاء العالم حالياً.
4. ويؤكد بارت على أن النص الحقيقي يختزل العالم بين جوانحه ويعتبر ذاته مكتبة معرفية واسعة النطاق وهو جلي في عدة أبعاد في حكومة الظل، ومنها التنوع الجغرافي الواسع، فتدور أحداث الرواية في المدينة المنورة، المغرب، مصر، كندا، اسطنبول... ويفصل بين أحداثها ما يصل إلى قرن من الزمان.
5. وتقول النظرية أيضاً، إنّ النص الناجح مفتوح على جميع الاحتمالات من خلال مراوغاته الدلالية، ولكن يمكن هنا معرفة أهداف المؤلف الذي يريد أن يوصل رسالة واضحة مفادها أن الماسونية تعمل بجد واجتهاد ضد الدول الإسلامية، وإنها تعمل على دحرها كما فعلت سابقاً مع الدولة العثمانية.
6. ويشير بارت إلى أن النص دالٌّ يفتح فجوة بين الدال والمدلول، بين ظاهر النص وباطنه، وفي "حكومة الظل" نجد القباني يدعو كثيراً للتأمل في الأحداث سواء المعاصرة أو التاريخية لمعرفة من يُسيُر العالم، ومن يقف خلف الأزمات التي تعصف به.
7. ويقول البنيويون أتباع بارت، إن النص دائم الحياة بعكس المؤلف الذي ينتهي دوره بمجرد إصدار عمله، فهذا العمل مثلاً يدفع القارىء للبحث والتقصي حول الحقائق الضائعة والمعلومات المفقودة.
8. ويكرر بارت أن النص تناصٌ في جميع مكوناته، ولعلنا نجد الكثير من النصوص السابقة من قراءات القباني في حكومة الظل، ومنها: قصر الدولمة بهجة، مجلس المبعوثان، حركة الاتحاد والترقي...
9. وتؤكد النظرية على أن التناص يحدث داخل وعي القارئ، ودون إدراك من المتلقي، وهو يفرض استحالة الوصول للحقيقة المطلقة بل ويجعل النهاية مفتوحة فعلاً، وهو أمر قد أشرنا إليه سلفاً.
10. ويكررون أن النص يحمل في طياته بقايا سلسلة معارف طويلة من الكتب والقراءات. وأنه يحمل بين طياته رماداً ثقافياً يدفع القاريء ليكون في المنطقة المحايدة بين الحقيقة ونقيضها.

رسول درويش
باحث بحريني