د. أبو ياسر مبورالي كامي محاضر ورئيس كلية الآداب فرع الساحل جامعة موئي ألدوريت كينيا
يرى كثير من المؤرخين أن العلاقات العمانية الأفريقية، عرفت كوجود بشري عماني مقيم في شرق أفريقيا تعود إلى هجرة آل جلندى (سليمان وسعيد أبناء عباد الجلندى) إلى أفريقيا في الفترة من (65هـ 684م)، إلا أن العلاقة التجارية البحرية بين عمان وشرق أفريقيا، سبقت تلك الفترة الزمنية بفترة طويلة، ولا نبالغ إن قلنا إنها تعود إلى فترة مبكرة لهذا التاريخ.
وقد حظيت التجارة بالاهتمام الأكبر للسلطنة البوسعيدية بشرق أفريقيا، لأن البوسعيديين اعتمدوا على التجارة الاعتماد الكبير في بناء السلطنة اقتصادية وسياسيا، وسيطروا في سبيل ذلك على مياه المحيط الهندي وساحل إفريقيا الشرقي وداخل القارة الإفريقية حتى حوض نهر الكنغو.
وبعد أن حول السلطان سعيد عاصمته من مسقط إلى جزيرة زنجبار، فمنها امتد سلطنته على طول الساحل وعلى الجزر المتناثرة أمامه، كما امتد داخل البر الإفريقي، ومنها انتشر تجاره ووكلاؤه التجاريون في شبكة من النشاط التجاري الذي يغطي كل الساحل الإفريقي.
وأصبحت زنجبار مركزا تجارية وثقافيا انطلقت منه قوافل التجار المسلمين، تتاجر وتبشر بالإسلام في وقت واحد وسط قبائل الداخل.
وكانت التجارة العربية كثيفة إلى حد أن شاعت المقولة: إنهم حينما يعزفون على المزمار في زنجبار يرقص الناس على سواحل البحيرات الكبرى، وتمكن السلطان سعيد من تكوين دولة ذات قوة اقتصادية في شرق إفريقية، قاعدتها جزيرة زنجبار، فهي ذات موقع متوسط بين موانئ شرق إفريقيا، وكان المسلمون هم القوة المسيطرة.
إن منطقة شرق أفريقيا شهدت تغيرا ملحوظا منذ بداية القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع الميلادي، وذلك بسبب التوسع الاقتصادي الذي طرأ بسبب الحاجة غير المسبوقة إلى سلع شرق أفريقيا وطلب السيد سعيد من التجار العرب والمغامرين ارتياد الداخل أي البر الإفريقي، وتطوير تجارة القوافل في محاولة لربط الداخل بالساحل.
وعمل السيد سعيد على توفير كافة الضمانات لنجاح التجارة الداخلية، وعلى الأخص تجارة القوافل العربية التي تمر بداخل القارة الإفريقية، وسلكت هذه القوافل كافة الطرق التجارية الممتدة داخل القارة، وانتعشت الطرق القديمة.
وفي أواخر عهد السيد سعيد عام 1269هـ 1852م تم فتح طريق تجاري جديد يربط الساحل الشرقي لإفريقية بساحلها الغربي عبر بحيرة تنجاميقا.
لقد أدى التوسع التجاري إلى نشأة ثلاثة طرق رئيسية لتجارة القوافل العربية المتجهة من ساحل شرق إفريقيا نحو الداخل، وهي ذات أهمية خاصة فيما يتعلق بنسر الإسلام في المنطقة وهي كالتالي:
- الطريق الشمالي الممتد من ممباسا وماليدني إلى هضبة البحيرات الإفريقية، وكان ارتياد هذا الطريق محفوفا بالمخاطر بسبب تعرض القوافل التي ترتاده لهجمات قبائل الماساي المحاربة.
- أما الطريق الثاني الذي سلكه الإسلام إلى الداخل وسلكه العناصر الإفريقية إلى الساحل فهو الطريق الأوسط ويبدأ من الموانئ المواجهة لزنجبار مثل تانغة وبنغاني وبغمويو ويتجه وسط تنجانيقا مثل أروشا وموشي وتابورا، وقد زاد حجم التجارة على طول هذا الطريق ابتداء من أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي بسبب ارتفاع أسعار العاج العالمية.
- أما الطريق الثالث الذي اتبعه تجار العرب فهو الطريق الجنوبي من كلوة، عبر جنوب تنجانيقا وشمال موزمبيق، إلى بحيرة نياسا. ولم يكن العرب يسيطرون عليه إلى حد كبير؛ لأن الجزء منه كان يقع تحت الإدارة البرتغالية، وتمكن العرب من التحالف مع قبائل الياو التي كانت تجلب العاج والمنتجات الإفريقية الأخرى وتبيعها لتجارة القوافل العربية.

المطبعة السلطانية والحركات العلمية والتأليفية
يعتبر إنشاء المطبعة السلطانية في زنجبار من الأمور التي ساعدت على تطور ونهوض الحركة العلمية والثقافية ليس في زنجبار وحده. وإنما تعداها إلى شرق أفريقيا كلها وإلى عمان البلد الأم . لتلك الحركة العلمية الثقافية . كان ذلك بفضل برغش بن سعيد (عام 1870م -1888م).
وقد قامت تلك المطبعة بطبع الكتب العمانية وخاصة أمهات المؤلفات الدينية. وكان ذلك في سنة 1297هـ، وقد عبر المغيري مشيدا بجهود السلطان برغش بن سعيد قائلاً :وقد أنشأ في زنجبار مطبعة عربية لطبع الكتب الدينية والأدبية وسائر العلوم، ولو لم تطبع هذه المطبعة شيئا إلا كتاب هيمان الزاد وقاموس الشريعة وحاشية الترتيب ومختصر الخصال. ومختصر البسيوي وإزالة الاعتراض، ومنظومة الكمال لكفى فكيف وقد طبعت عددا كبير من الكتب، وقد بقيت المطبعة إلى زمن المغيري أي في عهد السلطان خليفة بن حارب 1911م، بالإضافة إلى هذه الكتب الجليلة التي تم طبعها وإخراجها إلى عالم النور فإن تلك المطبعة مهدت الطريق لتطور جديد كانت له آثار بعيدة المدى في مجال التوعية ونشر الثقافة العربية الإسلامية. وقد شهدت سلطنة زنجبار في العهد البوسعيدي ظهور الصحافة لآول مرة في تاريخها بل في تاريخ شرق أفريقيا بأسره.
وفي ذات تلك الحقبة عرف العمانيون في مهجرهم الإفريقي في جزيرة زنجبار تحديداً أول مطبعة حكومية عمانية، وهي المطبعة السلطانية التي تعد من أقدم المطابع العربية في شرق إفريقيا، والتي أنشأها السلطان برغش بن سعيد بن سلطان (1287- 1305هـ/ 1870- 1887م) بزنجبار سنة 1299هـ/ 1882م.
وإذا عدنا إلى الوجود العماني في شرق إفريقيا فما من شك بأنه ضارب في أعماق التاريخ. وبالنظر إلى المكونات الثقافية والرصيد الحضاري الذي تمتع به العمانيون بزنجبار خلال الحقبة التي سبقت إنشاء المطبعة السلطانية فإن جملة من علماء عمان قد هاجروا إلى الجزيرة تزامناً مع الهجرة التي نشطت بتشجيع من السيد سعيد بن سلطان (1804-1856م) وحملوا معهم الكثير من الكتب العمانية المخطوطة، وأسسوا لنهضة ثقافية معرفية تباينت عن الحالة العمانية نتيجة اختلاف البيئة واحتكاكهم بالأعراق والأجناس المختلفة التي احتضنتها جزيرة زنجبار. ومن أظهر النماذج هجرة الشيخ العلامة ناصر بن أبي نبهان الخروصي بصحبة السيد سعيد بن سلطان الذي قربه وأدناه إلى بلاطه، فانعكس ذلك إيجاباً على شخصية الشيخ ناصر ومكنه من تحقيق اتساع في منجزه المعرفي ليشتمل على الفلسفة وعلم النبات وأدبيات أخرى تتعدى علوم الشريعة الإسلامية.
ميلاد المطبعة السلطانية
نبعت فكرة إنشاء المطبعة السلطانية لدى السلطان برغش في رحلته السياحية في بعض البلدان العربية كمصر وبلاد الشام ثم بلدان أوروبا سنة 1294هـ/ 1877م، والتي وثقها زاهر بن سعيد النخلي الكاتب الأول في دار السلطان في كتاب (تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار) بإشراف: القس لويس صابنجي.
ونتيجة لما شاهده السلطان في تلك البلدان من دور تقوم به المطابع فقد قرر إدخال الطباعة لأول مرة إلى زنجبار، وهو ما تم بالفعل سنة 1299هـ/ 1882م وذلك باستيراده مطبعةً مُجَهَّزَةً بكل اللوازم من مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت. على أنه ثمة اختلاف في المصادر حول مصدر هذه المطبعة بين كونها جلبت من الهند أو أن السلطان جلبها من بريطانيا، ويذهب مصدر آخر إلى أنها جلبت من سوريا عقب زيارة السلطان لها عام 1872م.
وقد استقدم السلطان للمطبعة عُمَّالا لبنانيين للإدارة والتشغيل وتدريب الموظفين على استعمالها. وأشرف بنفسه على أعمال الطباعة، وكلَّف عدداً من العلماء العمانيين المعتنين بالتراث بالإشراف على الطباعة، ومراجعة الكتب وتصحيحها، منهم الشَّيْخ يَحْيَى بن خَلْفَان بن أبِي نَبْهَان الْخَرُوصِيّ (ت1322هـ/ 1904م) والشيخ سَيْف بنِ نَاصِر بن سُلَيْمَان الْخَرُوصِيّ (ت1341هـ/ 1923م) والشيخ أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني الرواحي (ت1339هـ/ 1920م).
وفي إحدى رسائل الشيخ يحيى بن خلفان بن أبي نبهان الخروصي إلى عمه الشيخ خميس بن جاعد بن خميس الخروصي، المؤرخة في 8 جمادى الأولى 1298هـ أشار إلى نشأة المطبعة السلطانية وأن السلطان قد جلب عمالا أربعة من بيروت بعد أن فشل من قبلهم في تشغيل المطبعة فأشار إليه الشيخ يحيى بأن ذلك غرم لا طائل منه فكانت النتيجة أن أرسل السلطان لجلب أولئك العمال الأربعة من بيروت، وأشار الشيخ يحيى إلى أن بدء العمل في طباعة أول كتاب وهو الجزء الأول من كتاب قاموس الشريعة كان في شهر رمضان وهو هنا يشير إلى سنة 1297هـ بما أن الرسالة مؤرخة في شهر جمادى الأولى من سنة 1298هـ، كما أشار إلى عدد النسخ وكلفة الورق في معرض ذكره لما أمر به السلطان برغش من طباعة 200 نسخة وأن كلفة الجزء ألف قرش للورق (القرطاس).
وذكر الشيخ يحيى أيضاً تقريظه للكتاب وفهرسته له في قصيدته التي وضعت في الجزء الأول. ونقرأ في سطور الرسالة مشاعر السرور التي تملكت الشيخ يحيى بنشأة أول مطبعة عمانية، واعداً الشيخ خميس بن جاعد بأن يرسل له نسخة من أول كتاب مطبوع بعد اكتمال عملية الطباعة

الإنتاج العلمي للمطبعة السلطانية
تحتل التآليف الدينية النصيب الأوفر من المنجز الثقافي العماني فيما مضى، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة كما يرى الشيخ أحمد بن سعود السيابي منها كون الجهود التأليفية في عمان اقتصرت أو كادت تقتصر على علماء الدين، بمعنى أن أفراد المجتمع إما أن يكونوا في عداد العوام أو النخبة والتي تكون غالباً علماء الدين أنفسهم، وتكوين عالم الدين يكون عادة من خلال العقيدة والفقه.
ويرى السيابي أنه قلما نجد في الحضارة العمانية عالماً في فن من الفنون مستقلاً عن الوسط الديني، خلافاً للبلدان الأخرى التي نجد فيها المؤرخ البحت والأديب المستقل بأدبه والفيلسوف المستقل بفلسفته.
لذا كان من الطبيعي أن تتصدر العلوم الدينية إنتاج المطبعة السلطانية، فكان كتاب قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة للشيخ جميّل بن خميس بن لافي السعدي (ق13هـ/ 19م) وهو أضخم موسوعة في الفقه الإباضي أول كتاب يطبع في المطبعة، وقد صدر منه خمسة عشر جزءا بين سنتي 1297هـ/ 1880م - 1303هـ/ 1886م.
"قد أوقف سيدُنا ومولانا الأجل الأكرم المحترم المعظم الهمام برغش بن سعيد بن سلطان بن الإمام جميع الكتب المطبوعة من أجزاء قاموس الشريعة أولها وآخرها على طلبة العلم المتعلمين والراغبين فيه المجتهدين، ابتغاء ما عند الله تعالى من الثواب، وهَرَبًا من أليم العقاب، وإنه قد أخذ عهد الله وميثاقه على من صار في يده شيء من هذه الكتب أن لا يبيعها ولا يهبها ولا يرهنها ولا يتملكها، وأن لا يمنعها من كان مستحقا للقراءة منها، وأن لا يعطيها من هو غير مأمون عليها خوفا من ضياعها، وإن احتاجت إلى إصلاح فليصلحها مَنْ صارت في يده وأجره على الله تعالى؛ وقفا مؤبدا صحيحا شرعيا لا يُحال ولا يزال، ولا تباع هذه الكتب ولا تورث ولا توهب ولا ترهن ولا تملك حتى يرث الأرض وارثها. أُشْهِدُ الله تعالى على ذلك وكافة المسلمين ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 181).
وكتب هذا عن أمره خادمه الفقير لله يحيى بن خلفان بن أبي نبهان الخروصي بيده في 10 رمضان 1299هـ .صَحَّح ذلك السيد برغش بن سعيد".
كما كان لتجليد الكتب بالمطبعة السلطانية ثيمة خاصة تتميز بلون أحمر وختم مذهب ذي طابع عماني عرف بها وشاع استخدامه حتى في تجليد الكتب المخطوطة التي نسخت في زنجبار خلال تلك الحقبة.
وقد كانت حركة نشر الكتب في المطبعة خلال حقبة حكم السلاطين :
1ـ برغش بن سعيد وهو مؤسس المطبعة.
2ـ خليفة بن سعيد بن سلطان (1305هـ/1888م - 1307هـ/1890م) الذي استلم حكم زنجبار بعد وفاة أخيه السلطان برغش، وقد وقع على معاهدة مع شركة شرق أفريقيا الألمانية منح بمقتضاه الألمان الحق في تحصيل الرسوم الجمركية والضرائب على طول ساحل تنجانيقا، وحصلت في دولته ثورة الشيخ بشير بن سالم الحارثي ضد الألمان في باغ مويو وبنغاني في الساحل الأفريقي، وكان يمده بالآلات الحربية والمأكولات حتى يتقوى على مقاومتهم .وقد نال وسام فارس الصليب الكبير الفخري (وسام القديس مايكل والقديس جورج) من بريطانيا.
3ـ علي بن سعيد بن سلطان (1307هـ/1890م - 1310هـ/1893م) وفي عهده تم وضع أول دستور للسلطنة وتشكيل حكومة دستورية عام 1891، بالإضافة إلى تشكيل مجلس الوزراء وفصل السلطات.
4ـ حمد بن ثويني بن سعيد (1310هـ/1893م - 1313هـ 1896م) وكان قد قرّب العلماء وأجلّهم، وللشيخ الشاعر أبي مسلم البهلاني الرواحي قصائد بليغة في مدحه وذكر مناقبه.
وفي عهد السلطان علي بن حمود بن محمد اقتصر دور المطبعة السلطانية على إصدار الأوراق الرسمية للدولة، كالمراسيم والقرارات وأوسمة الشرف وسجلات القضاء والعهود الدولية وعقود المعاملات والمراسلات السلطانية.
وقد كان لإنشاء السلطان برغش للمطبعة الفضل في تأسيس وانطلاق النهضة الثقافية العلمية الفكرية في جزيرة زنجبار وشرق أفريقيا عامة لتكون جسراً للتواصل المعرفي مع بلدان العالم، فقد أعقب إنشاء المطبعة إنشاء أكثر من عشر مطابع أهلية في زنجبار.
كما كان لمجمل تلك المطابع كبير الدور في الصحافة العمانية بزنجبار وذلك بصدور قرابة 12 صحيفة امتدت لحقبة أكثر من 60 عاماً أشهرها: (النجاح - النادي - الفلق - النهضة - المرشد - الأمة - الإصلاح – المعرفة).

• ورقة مقدمة إلى المؤتمر الدولي الخامس علاقات عمان بدول القرن الأفريقي الذي أقامته هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية في جزر القمر خلال الفترة من 6 إلى 8 ديسمبر 2016م.