” .. الأمر يحتاج إلى آلية عمل مختلفة حتى نتمكن من التعامل مع الأزمات التي تواجهنا بل والأمر يحتاج أيضا إلى التعرف بشكل من التفصيل عن الأزمة وما هي العناصر المكونة لها وما هي المسببات الرئيسية وراء هذه الأزمات والعجيب أننا إذا أمعنا النظر يمكننا أن نجد الحل لهذه الأزمة التي تؤرق علينا حياتنا ونظن أنه لا يوجد أي مجال إلى حلها وتجنب تبعاتها...”

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/salahdep.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. صلاح الديب[/author]

يصعب على الكثير منا التعامل مع المشاكل والأزمات وينظرون إليها وكأن الأمر يحتاج إلى تدخل قوى أكبر منا بكثير للتعامل مع هذه الأزمات لأن الأمر كما يظنون يحتاج الكثير من الإمكانيات والقدرات وأيضا يحتاج إلى الكثير من الاحتياجات المالية التي تمكن من يقوم على حل هذه الأزمات من القيام بالمهام المطلوبة ويبحثون جاهدين ويمعنون في البحث بغية العثور على من يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان ويخرجهم من هذه الأزمات وللأسف الشديد لا يتعلمون كيف قام من عثروا عليه في إخراجهم من هذه الأزمة ولكن يكتفون فقط بأن يلقوا على عاتقه مسئولية نجاتهم من هذه الأزمات وكفى ويكونوا عرضة أيضا في القريب العاجل للوقوع في أزمات وأزمات أخرى دون أن يعوا أن الأمر يحتاج إلى آلية أخرى في التعامل وليس فقط الاعتماد على من يستطيع العمل على أن ينجينا من هذه الأزمة هذه المرة أو المرات القادمة ولكن الأمر أخطر من ذلك بكثير .
وعليه فالأمر يحتاج إلى آلية عمل مختلفة حتى نتمكن من التعامل مع الأزمات التي تواجهنا بل والأمر يحتاج أيضا إلى التعرف بشكل من التفصيل عن الأزمة وما هي العناصر المكونة لها وما هي المسببات الرئيسية وراء هذه الأزمات والعجيب أننا إذا أمعنا النظر يمكننا أن نجد الحل لهذه الأزمة التي تؤرق علينا حياتنا ونظن أنه لا يوجد أي مجال إلى حلها وتجنب تبعاتها ولكننا عندما نظر إلى الأزمة بشكل فيه صعوبة نتصدى لها أو حتى مجرد التفكير أنه يمكننا الاقتراب من محاولة التفكير في الحل وكأنها أصبحت شبح يستحيل علينا الاقتراب منه .
ومن العجيب أيضا أن العديد من الأزمات التي واجهت الإنسان على مر العصور قد تم التعامل معها بنفس الآلية التي نقدمها الآن والغريب أيضا أن أصعبها وأكثرها تبعات على الإنسان والإنسانية إذا لم يتم التعامل معها بآلية التعامل مع الأزمة بالطرق التي تجعل من حلها أمرا ممكنا وليس مستحيلا .
ولقد ذكرت الكتب السماوية العديد من هذه الأزمات التي تكاد وأن تكون أكثر خطورة عن الكثير من الأزمات التي تواجهنا في عالمنا الحديث وتم التعامل معها بكل جدية وبما يضمن القضاء عليها بل وعلى العكس أيضا تم الاستفادة من بعضها والخروج منها أفضل مما كانوا عليه قبل الأزمة .
ودون التعرض للجانب الديني سوف يتم عرض الأزمة من جانب إدارة الأزمة بأسلوب علمي جيد .
وقعت هذه الأزمة في مصر في عهد يوسف عليه السلام، لمدة سبع سنوات سميت بالسنوات العجاف، لعدم سقوط الأمطار وقلة منسوب مياه النيل التي تعتمد عليه الزراعة في مصر لإشباع حاجات الإنسان الضرورية.
وهنا يتضح أن الأزمة كانت واضحة المعالم تم تحديد الأسباب وراء هذه الأزمة وأيضا الأضرار التي سوف تنتج عنها ويتضح أيضا أن هذا كان مبكرا قبل التعرض للأزمة مما جعل أنه بالإمكان التعامل مع الأزمة والسيطرة عليها مما جنب المصريين آن ذاك التعرض إلى خطر المجاعة .
بدأ التنبؤ بالأزمة من رؤيا رآها ملك مصر ولم يجد أعوان الملك من يفسرها إلا يوسف الصديق عندما تذكر ساقي الملك يوسف في السجن (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).
ففسرها يوسف عليه السلام بسنوات رخاء وسنوات جدب، ووضع لهم العلاج بأن يخزنوا المحصول في سنوات الرخاء وهي السبع الأوائل ليمكنهم من توزيعه في سنوات الجدب، ثم نبأهم بان السنة الخامسة عشرة ستكون رخاءً وهذا لم يأت في رؤيا الملك.
يقول الحق: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
ومعنى ذلك أنه للتعامل مع الأزمات ينبغي أن يجدوا ويتقنوا العمل كدأبهم أي كعادتهم، ويعتبر هذا أحد أهم الشروط للتعامل مع الأزمات أن من يتعاملون معها يجب أن يكونوا جادين ملتزمين يقدسون العمل ويضاعفون العمل الجاد المستمر حتى يكون المحصول كبيراً يكفى للاستهلاك الآدمي والتخزين، ثم يدعون القمح في السنابل حتى لا يأكله السوس أو يتعفن فلا يصلح للاستهلاك بعد ذلك، وذلك لأن حنطة مصر ونواحيها لا تبقى أكثر من عامين إلا بحيلة إبقائها في السنابل فإذا بقيت فيها حفظت ويكون قصبها علفاً للدواب، فلما فسر لهم يوسف عليه السلام الرؤيا ولاه الملك على خزائن الأرض ليعالج الأزمة بما لديه من علم في إدارة الأزمات واحتوائها ومعالجتها والخروج منها دون حدوث مجاعة أو خسائر بشرية أو مادية.
وهنا يتضح ان الأمر لم يكتف فيه فقط يوسف عليه السلام بالجانب الديني فقط أو ما انعم الله عليه من تأويل الرؤى ولكن بدأ في تحديد آلية للتعامل وأيضا العمل بكل ما يحتاجه التعامل مع الأزمة من مقومات واحتياجات ودراسة بما يجعله يصل إلى النجاح في إدارة هذه الأزمة وتجنب كل أثارها وبالعكس أيضا يخرج من هذه الأزمة محققا مكاسب جديدة وهذا ما يجب علينا أن نعلمه جيدا .
لقد أمر يوسف ببناء المخازن الكبيرة حتى يمكن حفظ كمية كبيرة من سنابل القمح والشعير فيها.
وتقول التوراة: وخزن يوسف قمحاً كرمل البحر كثيراً جداً. وهذا يعنى أنه أحسن استخدام ما يحتاجونه فقط من القمح والباقي تم تخزينه للاستخدام بالشكل الأمثل .
ولما أجدبت الأرض في السنوات العجاف ذهب المصريون إلى المخازن ليشتروا القمح الذي خزنه يوسف عليه السلام في السنوات الخضر، كل فرد له نصيب محدد، حتى يكفي أهل مصر ومن جاورها من البلاد.
وتقول التوراة: وابتدأت سني الجوع في جميع البلدان، أما جميع أرض مصر فكان فيها خبز .، وفتح يوسف جميع ما فيه من طعام وباع للمصريين.
ويدل شراء إخوة يوسف للقمح على انتفاع جيران مصر بالمخزون.
ولقد تم تحديد قدر معين لكل فرد ، ويستلزم ذلك إحصاء الأفراد وتدوين أسمائهم في الديوان، وحضارة مصر تستوعب كل ذلك فهم أول من دون المعلومات عن المعارك وأعمال الملوك والرعية والرحلات التجارية على الأحجار رسماً أو كتابة، كما ضبطوا الموازين والمكاييل " أني أوفي الكيل". والنقد.
وفي السنة الخامسة عشرة نزل المطر كم تنبأ يوسف عليه السلام: (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ، وعاد المصريون إلى الزراعة ثم جني المحاصيل والقيام ببعض الصناعات كعصر الزيوت والعنب والزهور بعد أن كانت الصناعات قد توقفت أثناء الأزمة في السنوات العجاف، وقد استمروا كما كانوا في بناء الحضارة.
ومن هنا يتضح لنا انه تكونت لديهم خبرة في معالجة الأزمات وتعلموا أن للدورة الزراعية وجهين هما الرواج والجدب كما حددوا الأهداف قبل القيام بالأعمال وأيضا خططوا للأعمال قبل تنفيذها كما عملوا على ملاحظة ودراسة الظواهر وتدوينها كما وضعوا مقياساً للنيل ولاحظوا وعرفوا من قياسه سنوات الفيضان من عدمه للاستعداد لها كما أدركوا أن قيادة الأزمة تحتاج إلى قائد له صفات محددة كالعلم والحفظ والأمانة والصدق وأيضا أيقن الجميع أهمية التعاون والتكافل في الأزمة.
ومن هنا نرى بوضوح أن حل الأزمة يحتاج إلى تحليل كل عناصرها وأيضا تحديد الموارد المتاحة ومواجهة الأزمة بشكل جاد وحازم وتدوين كل مراحل التعامل مع الأزمة وتدوين كل مراحلها للاستفادة من كل الإيجابيات والسلبيات لتفاديها في المرات القادمة ولا ننظر على أن هذه الأزمة لا يمكننا التعامل معها بل نستطيع إذا أحسنا إدارتها ولا نترك للأزمة مجالا إلى أن تديرنا وتتحكم فينا وتعصف بنا .