الأزهر معلم عبدالله امدوهوما
الوجود العماني في جزر القمر عريق وأصيل1، وجلاء ذلك يتضح في أدبيات البلد ولغته وثقافته. فالأدب القمري في مجمله ما هو إلا أدب عماني أصيل تأثر عبر السنوات بموجات من العوامل 2، وانحرف عن أصالته. فعلى المستوى الرسمي، استخدم الحكم العماني اللغة العربية ـ بطبيعة الحال ـ أثناء تواجده في جزر القمر، حتى أن بعض المسميات الإدارية ـ كعبارة "مدرية" (أي: مديرية) لازالت مستخدمة حتى اللحظة. وعلى مستوى الشعبي، أصًل العماني الأدب العربي العماني في الجزر، حتى أن عبارة المناشدة والتحية الصباحية ـ "باريزا3 حوشا" ولعل أصلها : "خبار زا هوشا" (أي: علوم وأخبار الصباح)، وجواب النداء بكلمة "لَبِيكَ" (أي، لَبًيكَ) تكاد تكون هي هي.

أما الثقافة القمرية، فمن السهل ربطها بالثقافة العمانية واعتبارها امتدادا لها ـ إن لم تكن هي هي. فالأسماء، واللباس، والأعراس، والرقصات، والموائد، والعادات، والتقاليد، والحفاوة، والقيم وأمثالها ـ حتى النمط العمراني ونسق البناء ـ تكاد تكون واحدة. ولعله لا توجد دولة في العالم تشارك سلطنة عمان في هذه البصمات العمانية وتحافظ عليها ـ رغم بعدها عنها ـ أكثر من جزر القمر، كما أنه يستحيل أن شعب جزر القمر قد أخذوا هذه المكونات من أي بلد آخر سوى السلطنة إما مباشرة أو عن طريق زنجبار.

وينظر القمري إلى شقيقه العربي ـ والعماني على الأخص ـ وإلى لغته وثقافته ـ نظرة تقدير بالغ واحترام خاص. يكفيك أن أفخر لباس في جزر القمر هو اللباس العماني ـ من عمامة بوسعيدية، وسباعية 4 (ويسميها القمري بـ "سُبيا") والبشت، والجبة (شقيقة البشت) باعبتار أن هذه تعبر عن أصالة الإنسان القمري وتراثه. كذلك مصطلح "حضارة" في جزر القمر يعبر عنه بكلمة "أُستعراب"، والإنسان المتحضر بـ "مٌستعراب". زد إلى ذلك أن العملة القمرية مكتوب عليها رسميا "فرنك قمري" إلا أن القمريين لا ينطقوها إلا "ريال"، مما يدل على عمق تأثير الحضارة العمانية على الأراضي القمرية.
ستحاول هذه الورقة ـ كما يشير عنوانها ـ تسليط الضوء على الآثار العمانية الأدبية واللغوية والثقافية في جزر القمر وملامحها البارزة باستخدام الملاحظة والتحليل والتجارب الشخصية ـ وذلك لقلة المصادرة المتاحة ـ على أن يتم تطويرها في المستقبل بمزيد من التفصيل والتدليل.

المفردات الأدبية القمرية
الشعر القمري

لا يمثل الشعر ظاهرة أدبية في جزر القمر. فمن النادر أن تقرأ أعمالا شعرية في كتابات أهل البلد أو تسمع عن أمسية شعرية في تجمعاته. ورغم شيوع اسم "الشاعر" (أو امبانزي باللغة المحلية) في الأوساط القمرية، إلا أن إنجازات هذا الشاعر لا تنظر إليها على أنها شعر. حتى أن أحد الشعراء البارزين في البلد ـ رغم لصاقته بالموضوع وقربه منه ــ ذهب إلى أن شعراء جزر القمر لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة 5. ومع أن هذا القول قد يكون مبالغا فيه، إلا أنه يؤكد حقيقة الندرة الشعرية في جزر القمر. يدل على ذلك أني أتجاوز الأربعين من عمري ولم أسمع أبيات شعرية قمرية تقرأ كشعر إلا مرة واحدة 6.

غير أن القمريين عرفوا الشعر وأثمروا بعض الجهود الشعرية باللغة القمرية. وهذا ينطبق على الرجال والنساء، بخلاف ما يقال من أن الجنس النسوي القمري لا يقول الشعر. لكن معظم الأعمال الشعرية القمرية لا تقرأ على الناس كأبيات شعرية بحتة، وربما لا يحس مؤلفها بأنه يؤلف شعرا، بل يتخللها أدوات موسيقية فيتحول الشعر إلى أغنية ويغفل السامع أنه يستمع إلى شعر، ولعل هذا هو السبب الذي دفع البعض إلى اعتقاد أن الجزر تخلو من الشعراء والشعر. إن المدقق في كثير من الأغاني القمرية ـ خاصة القديمة منها ـ كأغنية استيلاء الرئيس الراحل علي صالح على عرش الحكم7، والأغنية الشهيرة للحظات الموت وسكراتها8، وبعض الأناشيد الشعبية للرقصة المسمى بـ "جاليكو"9، والأناشيد النسوية المسمى بـ "بورا"، وكذلك القصائد والأناشيد الدينية ـ خاصة الحديثة منها، كأناشيد أبي بكر شماس10، يجد أن معظمها تلتزم بالأوزان والضوابط الشعرية، ويصدق أن تسمى شعرا.

وقد حضرت أنا شخصيا أواخر الثمانينات ـ بقرية فونغا، مسامهول ـ ما يمكن تسميته أمسية شعرية سميت "سواري" (أي، الأمسية ـ باللغة الفرنسية) ، حيث دعي إليها مجموعات موسيقية أو أوركسترايات للتسابق فيمن يقدم أفضل أغنية، وسمعت الناقد والحكم بينها ـ قادما من "سامبيكو" وهي من أشهر الأوركسترايات في الجزر، يعلل ترجيحه لإحدى الجماعات المتنافسة على الأخريات بأن أغانيها كان بها "بويزي" (powezi) ـ بهذا اللفظ، وأن أواخر كلماتها كان بها نون مكسورة" ـ على حد تعبيره. وكان هذا أول مرة أسمع فيها عن مصطلح "البويزي" ـ أي الوزن الشعري. وقد التقيت بالرجل مرة ثانية في مدينته مسامهول ـ لعله سنة 2006م، وذكرته بالقصة، وشكرته على كونه أول من عرفني بالأوزان الشعرية والسجع، فشكرني في المقابل.

وهناك بعض الجهود الشعرية باللغة العربية من أبناء جزر القمر، كالأعمال الشعرية التي شارك بها الشاعر القمري السابق ذكره ـ حسن شولي ـ في مسابقة أقيمت بالعاصمة السنغالية ـ دكار، وفاز بالمركز الثاني.11 كذلك هناك بعض المحاولات المتواضعة في هذا الصدد، كالذي رواه الكاتب سليمان المعمري12. كما أن هناك بعض المحاولات اليائسة لإنشاد الشعر باللغة العربية مخلوطة بألفاظ قمرية، كالتي تقول: "من لبس الجب/ وذهب للشنب، وأكل الينب/ غفر الله الذنب." غير أن الأعمال الشعرية باللغة العربية جد نادرة، ولعل أكثرها شهرة هي القصيدة الشاذلية التي تقول: "طلعت شمس مضية/ بالديار القمرية؛ نورها بين البرية/ قد محا كل ظلام" نظرا إلى القاعدة الكبيرة لأتباع هذه الطريقة في البلاد.

فإذن، الشعر بطريقة أو بأخرى موجود في جزر القمر، وتكثر الأعمال الشعرية فيها باللغة القمرية. وربما مجيء العمانيين إلى جزر القمر حملوا إليها من بين ما حملوا الملكة الشعرية واكتسبها القمريون منهم، إذ لا يعلم في البلاد المجاورة لجزر القمر شعب بارع في الشعر ـ مقارنة بالشعوب العربية التي وفدت إلى جزر القمر ـ وأهمها عمان. إلا أن عدم حماية هذه النبتة بحصار من البيئة الشعرية وقلة سقايتها بماء شعري ينزل عليها بين وقت وآخر أدى إلى احتضار الشعر في جزر القمر وقرب مواته.

النثر القمري
يأخذ النثر في الأدب القمري نصيب الأسد، ومعظم الأدباء القمريين المشهورين هم من هذا القبيل، كالأديب الكبير ـ وربما الأديب الأكبر على الإطلاق ـ امباي ترامبوي. ويطلق على أعمال هؤلاء الأدباء النثريين اسما خاصا هو "شيندوانسي" وهو غالبا ما يقرأ على الناس في المناسبات الاجتماعية ـ خاصة الزواج والأعراس، ويدفع له مال في المقابل، تماما كما كان يدفع للشعراء في العرب.

ولعل أشهر شخصية عربية أدبية دخلت في الأدب القمري، لكن مع شيء من التصحيف ـ هو المسمى في جزر القمر بـ "ابنا صيا" ولعله ابن نواس العربي، حيث يضرب القمري به المثل في الحنكة والذكاء، لكن من باب التحايل.

كما أن هناك اقتباسات قمرية للعبارات العربية ـ وإن لم تكن عمانية الأصل ـ تكاد تكون مطابقة للأصل لفظا ومعنى، كاسم "ألف ليلة"، حيث يستخدمه القمري في لغته للدلالة على الإطالة والاطناب والسرد الممل، وأمثال ذلك. كذلك عبارة "صلا محمد" (أي، صلي على النبي)، ويقصد به تهدئة الإنسان وطلبه بالصبر والتريث. ومثل ذلك عبارة "مسكين" حيث يستخدمها القمري للإشارة إلى الفقير، وأحيانا لإظهار الشفقة والترحم على حالة معينة ـ تماما كما تستخدم في العربية.

الأمثال القمرية
تكثر في جزر القمر الأمثال الشعبية يتناقلها الناس شفهية، ويغلب عليها الجدية والحكمة والواقعية، كالتي تقول: "كير كومبا بي راحا نا وصو مروفو" (وتعني: قليل رديء أفضل من لا شيء)، و "مرو كاهموا راحا يجا لوزا" (أي: لا يمكن أن تعصر قبل أن تبلل) (وتعني: لا يمكن أن تجني قبل أن تزرع)، و "مرو دو سازا فوهانزانيا" (أي، يجب ترك مساحة للتسامح) (وتعني تماما: "أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما").

وبعض الأمثال ظاهرها عربية، كالتي تقول: "حركا حركا كين بركا" (أي، إن العجلة في الأمور نادرا ما يكون التوفيق والبركة حليفها). كما أن بعضها تحولت من الأسماء العربية، كالمثل المأخوذ من اسم حسن وحسين: (إن فعلت "فحسن" وإن لم تفعل "فحسين") (أي، هذه مشكلتك، فافعل ما بدا لك!).

1 يرى السيد زين العابدين محمد كمال عبدالحميد أن العرب حاليا يشكلون ثلث سكان جزر القمر، وقد جاءوا من جنوب شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج العربي ـ خاصة من عمان وحضر موت ...، انظر مقالته على الإنترنت تحت عنوان: "صفحات مطوية من تاريخ جزر القمر".
2 لعل من أهم هذه العوامل، بعد جزر القمر جغرافيا عن بلاد عربية تبقي جسور التواصل القريب وتحافظ على التراث العربي هناك.
3 كلمة "خبر" تنطق في جزر القمر بـ "حابار". ويلاحظ بأن عملية حذف بعض الحروف من الكلمات أمر سائد في جزر القمر ـ خاصة الحروف الصعبة في النطق ـ كالعين والحاء والخاء والقاف. ومن أمثلة ذلك اسم الطاولة "لاتاب" والذي أصله في الفرنسية (la table)، ويقابله حذف بعض الحروف في المسميات العمانية كحرف الألف واللام في النطق (سباعية).
4 هذه الألبسة لا يلبسها إلى طبقة معينة تعتبر من علية القوم، وإذا لبسه غيرهم قد يحكم عليه ـ وأسرته ـ اجتماعيا بالحجر مع غرامة مالية كبيرة. (وقد كدت أتعرض لهذا العقاب والغرامة في عرس شقيقتي حيث لبست بدلة إفرنجية مع هذه الملابس العربية، لكن توسط بعض وجهاء الناس فأنقذوني!)
5 انظر مقالة تحت عنوان: "حسن شولي: الشعراء في جزر القمر لا يتجاوزون العشرة"الصحيفة الثقافية الفكرية (The What) الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
6 كان ذلك عام 2005 أو 2006 في حفل زواج الدكتور عبدالحكيم، أحد أعلام الفقه وأصوله في جزر القمر، بمدينة امبيني، حيث نزلت مع طاقم إدارة لجنة مسلمي أفريقيا بجزر القمر عند ضيافة الدكتور حامد كاريهيلا، وكان من أنشده هو الأستاذ الكبير محيي الدين، من مواليد امبيني أيضا ـ في ذكر مناقب العريس والأصول التي ينحدر منها.
7 العبارات المرددة لهذه الأغنية ـ على سبيل المثال، تقول: "ريوصل سلام سالمين كو يارونغوا قلواب، ريفيتسي أوستعراب دنيان نجيزو عجب / ريفيتسي أوستعراب دنيان نجيزو عجب"؛
8 هذه الأغنية مؤثرة، حتى يقال بأن المفتي السابق للبلد، المرحوم بإذن الله، الشيخ سيد محمد، كان معجبا بها؛ ومن الأمثلة على أبياتها ما تقول:
"نغو فورزو يمهونو ناوليفوا هيصان / ونو دو ملاو روح فو وليو تعبان".
9 "جاليكو" هي امتداد للرقصة العربية التقليدية، خاصة الموجودة في السلطنة، حيث لا يلبس فيها عموما إلا الزي العماني ـ من دشداشة، وطاقية وإزار، وسيف (أو عصا إذا لم يتوفر السيف)؛ كما لا يخلو منه العنصر النسوي (بخلاف ما يسمى بـ "المجلس" حيث لا تشارك النساء في الرقص. كما يستخم فيها الطبول الموجودة حاليا في السلطنة، وتؤدى الرقصة في صفوف ـ تماما كما في السلطنة. وهذه بعض أمثلة لصيغة أناشيدها: "كارجا شنغايا نزا ريجليا/ زيون زينيا بيا هريموي دنيا؛ متسي ريتسشي نزا رجليا/ ينو دي مكات فويا بدلها
10 هذا منشد بارع معروف بهذه الصفة، غير أن أناشيده في الحقيقة هي أشعار باللغة القمرية. ومثال على ذلك، نشيده في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: "نا صيفيوا ينبيا / موان واك هاشميا ؛ هدايا را قصوديوا / موانغزا أور ينييا؛ سنغزا هسا هزالوا / ينبي الكايرييا؛ كاربود ري روالوا / يموين داهو هنجيا"
11 انظر مقالة تحت عنوان: "حسن شولي: الشعراء في جزر القمر لا يتجاوزون العشرة"الصحيفة الثقافية الفكرية (The What) ـ مرجع سابق.
12 نص الشعر يقول: في الأراضي القمرية/ جزر القوم النقية؛ كم بدت شمس زهية / في البروج العلوية .... انظر على الإنترنت مقالة بعنوان: "يوميات عماني في جزر القمر.