ـ كانت له مواقف مشهودة في عقد الصلح مع المشركين والوفاء بالعهد مع أصحابه ـ حين توفيت زوجته خديجة تركت حزناً عميقاً في نفسه (صلى الله عليه وسلم)، وظل وفيًا لها يصل أقرباءها ويكرم صديقاتهاناصر عبدالفتاح:انطلق موكب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من المدينة المنورة قاصداً مكة .. وفي الطريق التقى الحبيب برجال من قبيلة خزاعة عند الحديبية فأخبرهم أنه جاء زائراً للبيت ولم يأت لحرب.اشتد غضب أهل مكة وقالوا: وإن كان لا يريد قتالاً فوالله لا يدخلها علينا عنوة (غصباً) أبداً ولا تحدث بذلك عنا العرب.وأرسلت قريش رسلاً لمحمد كي يرجع عن مكة فأرسل إليهم عثمان بن عفان وأخبرهم بأنه جاء زائراً وليس محارباً.ـ عقد صلحاحتجزت قريش عثمان وأشيع بأنه قتل فاشتد غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) .. خاف المشركون فأرسلوا سهيل بن عمرو وقالوا له: ائت محمداً فصالحه على أن يرجع عنا عامه هذا.وحين طلب المشركون عقد صلح مع النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا على بن أبي طالب ليكتب بنود الصلح الآتية: وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أن من أتى محمداً من قريش بإذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرده إليه .. وإنه لا إرسال (سرقة خفية) ولا إغلال (خيانة)، وإنه من أحب من غير قريش أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل عقد قريش وعهدهم دخل فيه.وبينما هم يكتبون بقية بنود هذا الصلح إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، فارّاً بدينه.فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما اقاضيك عليه أن ترده إليَّ. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم):(إنا لم نقض الكتاب بعد).فقال سهيل: إذا لا أصالحك على شيء أبداً. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم):(فأجزه لي).قال سهيل: ما أنا بمجيزه لك. قال النبي (صلى الله عليه وسلم):(بلى فافعل).قال سهيل: ما أنا بفاعل. فجعل ابو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين .. أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني وقد جئت مسلماً؟!. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(يا أبا جندل .. اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، فلا نغدر بهم).وبعد أيام هرب أبو بصير وهو رجل من ثقيف حليف لقريش، فذهب الى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فرده النبي (صلى الله عليه وسلم) تنفيذاً للمعاهدة التي عقدها مع المشركين. ـ الوفاء بالعهد أما عن وفائه بالعهد فقد روي أن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أراد أن يهاجر مع أبيه إلى المدينة فقبض عليهما المشركون وقالوا لهما: انكما تريدان محمداً.فقالا: ما نريد إلا المدينة.أخذ المشركون عليهما العهود والمواثيق حتى لا يقاتلا مع النبي، وأعطى حذيفة ووالده على ذلك عهد الله وميثاقه ثم هاجرا.وجاءت غزوة بدر فأرادا أن يشاركا فيها، وأخبرا النبي (صلى الله عليه وسلم) بما أعطياه للمشركين من عهد وميثاق فرفض أن يسمح لهما بالمشاركة في المعركة حتى لا يخلفا وعدهما مع المشركين وقال لهما:(انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).أما عن وفائه وإخلاصه فقد جيئ يوم حنين بالشيماء بنت الحارث فقالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وقال:(إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أعطيك وترجعي إلى قومك، فقالت: بل تعطيني وتردني إلى قومي).ـ حزن عميقوحين توفيت زوجتة خديجة بنت خويلد تركت حزناً عميقاً في نفس النبي (صلى الله عليه وسلم)، وعرف العام الذي توفيت فيه بعام الحزن، وظل الحبيب (صلى الله عليه وسلم) وفيًا لخديجة، يصل أقرباءها ويكرم صديقاتها، ويفرح إذا رأى أحدًا من أهلها، ويذكرها دائمًا بالخير.وكان يقول عنها:(.. والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمَنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء). وذات يوم قدمت حليمة على رسول الله في مكة، وقد تزوج السيدة خديجة ـ رضي الله عنها ـ فشكت جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خديجة فيها فأعطتها أربعين شاة وبعيراً، وانصرفت إلى أهلها.وحين وفدت السيدة حليمة السعدية عليه كي تعلن إسلامها اشتد فرحه وبسط رداءه لها كي تجلس عليه وبالغ في إكرامها. ولم ينس النبي (صلى الله عليه وسلم) حاضنته أم أيمن التي قامت برعايته حتى كبر وترعرع، وحين تزوج السيدة خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ أعتق أم أيمن إكراماً لها ووفاءً لإخلاصها.. لم تفارق أم أيمن النبي (صلى الله عليه وسلم) وفاءً لحسن معاملته وإكرامه لها.كان الحبيب يقول عنها:(هي أمي بعد أمي).وكان يفرح حين يراها ويقول:(هذه بقية أهل بيتي).وبعد أن توفي زوجها (أبو أيمن) قال الرسول (صلى الله عليه وسلم):(من سره أن يتزوج من إمرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن).تزوج زيد بن حارثة من أم أيمن فأنجبت له أسامة بن زيد، ونعم الجميع برعاية النبي (صلى الله عليه وسلم) وحبه.ـ سنة مجدبةومن وفاء الحبيب لعمه أبي طالب الذي كفله بعد وفاة جده أنه أصابت مكة أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة، وكان أبو طالب ـ رضي الله عنه ـ ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشاً من الضائقة والجوع والفقر، فعند ذلك دعا رسول الله عمّه العباس وطلب منه أن يتكفّل كل واحد منهما واحداً من أبناء أبي طالب، وكان العباس ذا مال فوافقه العباس على ذلك، فأخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب، وأخذ العباس جعفراً وتكفّل أمره، وتولّى شؤونه.أما عن رحمته (صلى الله عليه وسلم) فقد روي أنه دخل رجل عليه فوجده يقبل حفيده الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فتعجب الرجل، وقال: والله يا رسول الله إن لي عشرة من الأبناء ما قبلت أحدا منهم أبداً، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(من لا يرحم لا يرحم).وروي أنه قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه، على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: يا رسول الله، إن دوسا عصت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، قال:(اللهم اهد دوسا وأت بهم).وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أنهم قالوا: يا رسول الله! .. أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال:(اللهم اهد ثقيفاً).ـ من معجزاته (عليه الصلاة والسلام)ومن المعجزات العظيمة التي دلت على رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالجماد أنه كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما اتخذ المنبر تحول إلى المنبر فحن الجذع (صدر عنه صوت كالأنين) حتى أتاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاحتضنه فسكن فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة).ومن رحمته بالضعفاء والخدم أنه كان يهتم بأمرهم، وقد أوصى أمته بحسن معاملة الخدم فقال:(هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم). صدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم).