الشاعر المصري الدكتور محمد عبد الباسط زيدان، له قصيدة جميلة لا تزال مخطوطة لم تُنشر في أيّ من مجموعاته الشعرية حتى الآن، ويطب لي أن أقرأ هذه القصيدة قراءة جمالية انطباعية لأنها تستحق ذلك، وهي قصيدة: (أقوال جديدة في مدح عمان )، التي يزاوج فيها الشاعر بين الوجود العماني كوطنٍ جميل، وبين رؤيا الشاعر عن هذا الوجود وانعكاسه على الذات.يقول الشاعر:أيَّتُها البلادُ التى مداهااتساعُ المدى وريحُها مقامُ الفاتحين أنتِ يا قوتة الأرضوضوءُ المكانِيا عُمانُ وأنتِ النَّدى...الشاعر هنا يستخدم أسلوبين من أساليب النداء، أولهما باستخدام (أيّتها)، حيث دخلت (أيّ) وهي أَيّ: حرف استفهام عما يعقل وما لا يعقل كما جاء في كُتب معاني الحروف، وقد دخل الضمير والهاء عليها كما قالوا أَيتها المرأَة وأَيّها الرجل، وقد أشار الزجّاج إلى ذلك بقوله: أَيّ اسم مبهم مبني على الضم من أَيها الرجل لأَنه منادى مفرد، والرجل صفة لأَيّ لازمة، تقول يا أَيها الرجل أَقبل، ولا يجوز يا الرجل " – لسان العرب، مادة أيا -.والأسلوب الثاني باستخدام (يا)، وقد كرر الشاعر استخدام أداة النداء خمس مرات في كامل النصّ، ثلاث مرات في المقطع الأول، ومرة في المقطع الثالث، ومرة في المقطع الرابع، ولهذا التكرار مبرراته البيانية في كون النصّ نصّاً ندائياً وهو ما يتناسب وتوجيه الخطاب من الشاعر إلى المُخاطب وهي عمان، لأن النص عبارة عن نداء وجدانيّ يفسّر مكانة هذا الوطن العظيم وانطباع الآخرين عن هذه العظمة وهذه المكانة.ومن لطيف ما وظّفه الشاعر في هذا المقطع هو التقارب الصوتي بين أداة النداء (يا) ومقطع من كلمة (يا قوتة) حيث التشابه الظاهري بين ياء النداء وياء ياقوتة، وهي التفاتة ذكية للدّمج الصوتي الموسيقي في جسد النص.وفي مُجمل هذه الصورة البيانية يتّضح نداء الشاعر لهذا الوطن الجميل، ذات المدى الواسع، والرائحة التي تذكرنا بعصور الفاتحين في العهود الإسلامية السابقة، كما يشبهها بطريقة التشبيه البليغ بياقوتة الأرض، وكلنا نعلم أن الياقوت من الأحجار الكريمة وكأن الشاعر يقول أن هذا الوطن الجميل هو بمثابة الياقوتة لكلّ الكرة الأرضية، ولكن ليس مجرّد ياقوتة وإنما هي أيضاً ذلك الضوء المنبعث من هذه الياقوتة إشارة إلى انطلاقاتها الحضارية منذ عهد النهضة حتى يومنا هذا، ويشير الشاعر إلى عطاءات هذه الحضارة عندما شبهها تشبيهاً بليغاً آخر بقوله: (أنتِ النّدى)، والنّدى من معانيه العطاء والكرم.وقد كرّر الشاعر ضمير (أنتِ) في كامل النصّ سبع مرات، حيث جاءت مرتين في المقطع الأول، ومرتين في المقطع الثاني، ومرة في المقطع الثالث، ومرة في المقطع الرابع، ولم ترد في المقطع الخامس، ومرة واحدة في المقطع الأخير، وهذا التكرار له مبرراته المعنوية، وقد تطرّق علماء اللغة إلى أن أصل (أنت) – كما جاء في القاموس المحيط، مادة (أنْ)..هو " أنْ المَفْتُوحَةُ تكونُ اسْماً وحَرْفاً، والاسمُ نَوْعانِ: ضَميرُ مُتَكَلِّم في قَوْلِ بَعْضِهِم: أنْ فَعَلْتُ، بسكونِ النونِ، والأكْثَرونَ على فَتْحِها وَصْلاً، والإِتْيانِ بالألِفِ وقْفاً، وضَميرُ مُخَاطَبٍ في قَوْلِكَ: أنْتَ أنْتِ أنْتُمَا أنْتُمْ أنْتُنَّ...أنَّ الضَّميرَ هو أن، والتاءُ حَرْفُ خِطابٍ "، والشاعر هنا في الصورة المعنوية لتكرار (أنتِ) في النص يخاطب عُمان استتباعاً لأسلوبَي النِّداء السابقين في المقطع.ثم يبدأ الشاعر محمد عبد الباسط زيدان بالإطناب الإيجابي، وكأنه يريد أن يشرح ويُضيف ولكنّها إضافات موفقة ليجذب إليها المتلقي:بلادٌ عِزُّها عزُّ سلطانها عزُّ وديانها والجبال / البحارْ الرياحُ / النفوسْ...أنتِ ياقوتة الماء وسرُّ الزمان وأنتِ على شطك الصولجانُ شدَا...يؤكّد الشاعر على أن هذه البلاد اكتسبت عزّتها الحقيقية من عزّة سلطانها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ، باعتباره مؤسس هذه النهضة الشاملة وراعيها الأوّل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اكتسبت هذه البلاد عزّتها أيضاَ من عزّ وديانها وجبالها وبحارها ورياحها ونفوسها، حيث استخدم الشاعر طريقة المزج بين المادي والمعنوي، وهو أسلوب يفيد المتلقي بتعميق الرؤية إلى الحد الممكن والمطابق للواقع، فجلالة السلطان قابوس "حفظه الله" رجل بمعنى الكلمة حيث احتفظ بكل عوامل العزة والمنعة لهذا الوطن الكريم والمعطاء، فانعكست هذه العزة والمنعة على كلّ شيء في هذا الوطن، حيث المكان بكل معانيه وجزئياته، وقد أشار إليها الشاعر ومثّل لها بالوديان والجبال والبحار والرياح، ثم الإنسان التي أشار إليها بلفظة (النفوس) وجاء بها بصيغة الجمع إشارة إلى الشعب العماني الأبي.ويُلاحظ في النص من مقطعه الأول والثاني توظيف الشاعر للفظة (البلاد) في المقطع الأول لأنه نادها بـ (أيّتها)، وفي المقطع الثاني وظف اللفظة بصيغة (بلادٌ) كأنه هنا يريد أن يبدأ بتعريفها للآخر المتلقي والسامع لهذا النص، وقد كرر الشاعر لفظة (بلاد) بالتعريف وبدونها سبع مرات، وصرّح باسم عمان في مجمل النص مرتين.وبعد هذا الجزء من المقطع الشعري، يُعرج الشاعر إلى تشبيه بليغ آخر حيث يقول: (أنتِ ياقوتة الماء، وسر الزمان، وأنت على شطّك الصولجان شدا)، وهي جمل مختزلة للكثير من المعاني التي لها مصاديق واقعية في التاريخ العماني، ولم يشر إليها الشاعر بطريقة مباشرة أو تقريرية، وإنما أشار إليها بطريقة الشعراء، فياقوتة الماء معنى رمزي يشير إلى الحياة، وياقوتة هنا مجرد مبتدأ يُضافة إلى كلمة (الماء) الذي يشير إلينا في أجلى معانيه بالحياة كما جاء في القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }.أما قوله: (وسر الزمان)، حيث يجعل من التاريخ العماني العظيم سرٌّ من أسرار هذا الزمان، بقرينة استخدامه للفظة الماء التي ترمز للحياة من جهة، ومن جهة أخرى توظيفه لعامل الزمان، الذي قرنه بعامل المكان وهو ما جاء في المقطع الأخير: (وأنت على شطك الصولجان شدا) إشارة إلى انتصارات العمانيين على الأعداء الغزاة للعديد من المواقع العمانية عبر التاريخ القديم.بلادٌ تهيمُ فى دربها التواريخ منْ ضميرها الغيب...يضىءُ الأراضين...أنتِ ماثلة فى عيونِ الحضارات كلَّما تسردينَ حروفَ الورىينامُ الردَى...الشاعر في هذا المقطع يُكمل ما انتهى إليه في المقطع السابق، حيث يؤكد على أن عُمان (بلادٌ تهيم في دربها التواريخ)، وهنا يستخدم الشاعر لفظة (تهيم) وفي معنى هذه الكلمة إشارة إلى أن ثمة مجد ما يجذب التواريخ إليها، وهنا في استخدام صيغة الجمع إشارة لطيفة إلى أن هذا المجد ليس في زمن واحد بل في عدة أزمنة سابقة.أما قول الشاعر: (من ضميرها الغيب...يُضيء الأراضين) فهي إشارة إلى الوعي والبصيرة التي شكّلت هذا الضمير الجمعي لهذا الوطن العماني الذي أضاء لكل الأراضين من حوله، حيث استخدم الشاعر لفظة ( الأراضين ) وأراد الجمع لمفردة ( أرض ) حتى لا تذهب دلالاتها للأرض بأجمعها وإنما أراد التعبير عن البلدان الأخرى فجاء بلفظة (الأراضين) لتناسبها مع الصورة البيانية المُرادة، ولا يزال الشاعر يعرّف هذه البلاد حيث يعيد استخدام الضمير (أنتِ ) وهو الضمير الخامس في جميع المقاطع السابق، وهو ما يتناسب والإطناب الشعري الإيجابي، وجاء هذا الضمير الخامس ليؤكّد أن هذه البلاد الكريمة ماثلة في عيون الحضارات، وهذا هو عين الصدق والصواب، لأن العالم اليوم ينظر إلى عُمان نظرة إعجاب وانذهال لما حققته على مختلف الصّعد، والشاعر يضيف بلفظة (كلما) ليذكر مثالاً واحداً من أمثلة هذا المجد الذي تنظر إليه عيون الحضارات الأخرى، فيقول: (كلما تسردين حروف الورى..ينام الردى)، أي كلما تحدثتِ يا عُمان بلغة شعبك المتسامح ينام الردى أي الموت، إشارة إلى أن كل ما تتحدث به هذه البلاد الرائعة هو باعث على الحياة.يا عمانُ منْ بلادٍ يشدها النيلُ من أطرافها إليكِ أزرعُ حِنطتى قامَتِى الصحراءُ، والنيلُ صنوان أنتِ لهُ المدُّ وهو فى دربكِ الطهور ندَى...يدمج الشاعر محمد عبد الباسط زيدان في هذا المطقع انعكاس ذاته كأديب وشاعر مبدع على عمان، وماذا تعني له عمان بالضبط، حيث يواصل أسلوب النداء بـ ( يا عمان )، ثم يُضيف: ( من بلادٍ يشدّها النيل من أطرافها ) إشارة إلى كون الشاعر من مصر، ومن هذه البلاد التي يشدّها النيل من أطرافها إشارة إلى قطع هذا النهر العظيم من طرفها الأعلى إلى طرفها السفلي، ثم يستمر الشاعر في توجيه الخطاب لِعمان فيقول: (إليك أزرعُ حنطتي) إشارة إلى أمل التواصل بين ذات الشاعر وذات الوطن/عمان، والدكتور الشاعر محمد عبدالباسط زيدان في هذا المقطع يوازن بين أمل التواصل الذي أشار إليه بزرع الحنطة، وبين كونه أحد الشعراء الكبار في مصر بدلالة استخدامه كلمة: ( قامتي الصحراء ) والصحراء في مصر واسعة، حيث وظّف هذا الاستخدام اللغوي لهذه الإشارة اللطيفة في حديثه عن ذاته، كما إنه يعود ليدمج صورة الصحراء التي أشارت إلى شهرته كأديب وشاعر بالنيل الذي يرمز إلى العطاء، وهي إشارة إلى غزير إنتاجه الأدبي والنقدي والإبداعي بشكل عام، إلا أنه يوجه الخطاب مرة أخرى لعمان الجميلة بقوله: ( أنتِ له المدّ )، حيث يستخدم الشاعر الأسلوب العربي الأصيل في مخاطبة الآخرين بأن كلّ الخير الذي يعيشه هو من الطرف الآخر من باب الإحترام والتقدير، ثم يختم الشاعر هذا المقطع بقوله: ( وهو في دربك الطهور ندى ) أي إنه يحمل ذاتاً معطاءه تماماً كالماء الطهور الذي هو رمز من رموز العطاء أيضاً.يا بلاداً ضوع الله فيها الأمان وأسرجَ الدَّهرُ منْ نورها شِدَّةَ الحرف كلما نظرتُ إليكِ أحنُّ إلى طرفكِ اللؤلؤى المَدى...يواصل الشاعر أسلوب النداء في انسيابية جميلة لا يملّ منها المتلقي، كما يستخدم أسلوب العطف في السطر الثاني من هذا المقطع، وهو يغني عن تكرار أداة النداء ( يا ) مع المنادى (بلاداً )، وفي هذا المقطع إشارة إلى الوجود الثقافي والفكري والعلمي في هذه البلاد، وذلك بقرينة استخدام الشاعر لفظة ( الحرف ) الذي أسرجه الدهرُ من نور هذه البلاد، ويعود الشاعر للتعقيب بـ ( كلما ) ويعود إلى ذاته بكلمة ( نظرتُ ) وضمير المتكلم، حيث يحنّ الشاعر إلى طرفها اللؤلؤي كناية عن التفاعل الوجداني بين ذات الشاعر عندما استخدم لفظة (أحنُّ ) وبين هذا ( الطرف اللؤلؤي ) إشارة إلى ما برز من بريق ثقافتها وفكرها وعلومها بدلالة استخدامه للفظة الحرف في السطر الثالث من هذا المقطع.ثم يختم الشاعر محمد عبد الباسط زيدان قصيدته الرائعة بهذا المقطع الذي جمع بين الإخبار والدعاء، فهو يقول: ( هدَى الله ) حيث تحتمل هذه الجملة الدلالة على الدعاء، وتحتمل أيضاً الإخبار بأن الذي هداها إلى كل هذا المجد هو الله عزّ وجل، ويعقب الشاعر بأن هذه البلاد المتسعة المدى، نورها يستحم بروح المكان ويرقى هذا النور إلى سُدّة العرش كناية عن المكانة الرفيعة لهذه البلاد من بين بلدان الأرض، ويعود الشاعر لتوظيف كلمة ( ياقوتة) إلا أنه هنا يقرنها بالدهر، ويعيد تطرقه إلى الأبطال السابقين الذين صنعوا عمان سابقاً ولا زالت عمان شامخة بأبطالها المعاصرين الذي لا يزال نورهم يشعّ على خدها الجميل.هدَى اللهُ البلادَ التىمَداهَا إتساعُ المَدَى نُورُها، يستحِمُّ بروح المَكَان ويرقى إلى سُدَّةِ العرش أنتِ ياقوتة الدَّهر الفاتحون على خدّك الجميلنُورُهم بَدَا عقيل بن ناجي المسكين [email protected]