النصيحة لعـامة المسلـمـين إرشـادهـم لما فـيه خـيري الـدنيا والآخـرة ويـرشـدوهـم لـما فـيه سـعـادة الـدارين الحـق والعـدل يجـب أن يكـونا مطـلـب القـاضي في الحـكـم، والله يطـلب مـن رسـوله الحـكـم بالعــدل بين الناس قـاطـبة

ناصر بن محمد الزيدي:
الحمـد لله والصـلاة والسلام عـلى سـيـد خـلـق الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وعـلى مـن تبعهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد:
والنصيحة لأئـمة المسلـمين طـاعـتهـم إذا أمـروا بما أمـر الله به، ونهـوا عـما نهى الله عـنه، وأن يـقـفـوا مـعهـم في كل مـوقـف فـيه عـز الإسـلام والمسلمـين، ولأن الله تعـالى قال أطـيعـوا ولاة أمـوركـم أن أطـاعـوا الله ورسـوله، وذلك ما تشـير إليه الآيـة الكـريمة قال تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء ـ 59)، وأن يـقـومـوا بالنصح إذا طـلبـوا النصح، وإذا طـلـبـوا مـنهـم المشـورة أن يخـصـوهـم بالـمشـورة ويمحصـوهـم النـصـح، لأن المستشـار مـؤتـمـن، وأن يكـونـوا محـل الثـقـة الـتي بـوأهـم إياهـا ولي الأمـر، وأن يـكـونـوا رســل خـير مـع العـامة، حـتى يـؤدوا النصيحة عـلى أحـسن وجـوهها.
تقـوية الـروابـط الأخـوية
والنصيحة لعـامة المسلـمـين، هـو إرشـادهـم لما فـيه خـيري الـدنيا والآخـرة، وأن يحـببـوا إليهـم فـعـل الخـير، ويـرشـدوهـم لـما فـيه سـعـادة الـدارين، والتناصح لـما فـيه تقـوية الـروابـط الأخـوية، بين أفـراد المجـتمع حـتى يـكـونـوا إخـوة متحابـين مـتعـاونين، مـتراحـمـين متـعـا ضـدين لا متعـا نـدين متـشاكـسـين.
وقال أحـد العـلـماء: قـرأت في بعـض الكـتـب ان المحـب لله عـز وجـل ولـرسـوله وأئمـة المسلـمين وعـامتهـم، هـو الـذي يسـعى لـما فـيه الخـير والصـلاح، وهـو الـذي يـكـون أمـيراً مـؤمـراً عـلى الأمـراء يـوم القـيامة، وزمـرته أول زمـرة، ومجـلسه أقـرب المجـالـس إلى الـذين أنعـم الله عـلـيهـم مـن النبيـين والصـديقـين والشهـداء والصالحين، وحسن أولـئـك رفـيقـاً، يا لها مـن نعـمة ما أعـظـمها لـمـن رزقها، جـعـلنا الله مـن الـمـرزوقـين.
وقـال الحـسن البصـري: قال بعـض أصحـاب رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلـم)، والـذي نفـسي بـيـده إن شـئم لأقـسم لـكـم بالله، أن أحـب عـباد الله إلى الله الـذين يحـببـون الله إلى عـباده ويحـبـبـون عـباد الله إلى الله، ويسـعــون في الأرض بالنـصيحة بين الناس.
العــدل في الأقــوال والأفـعـال
إن العــدل مـن الأمـور الـتي تجـعــل المجـتـمـع يعـيـش في سـعـادة وهـناء، وما قامت السمـوات والأرض وما فـيـهـما وبـمن فـيهـما إلا بالعــدل، والعـدل مـطـلـوب مـن كل واحـد مـنا، العــدل في الأقــوال والأفـعـال، قال الله تعـالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعـام ـ 152)، وقال الله تعـالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( آل عـمـران ـ 18).
والعـدل هـو القـصـد في الأمـور، وهـو الانصاف والمـساواة بـين الناس وتجـري الـمـساواة والمماثلة بـين الخـصـمـين بعـدم تـرجـيح أحـد الخـصـمـين عـلى صاحـبه إلا بالبينـة والحجـة الـواضـحـة، فالحـق والعـدل يجـب أن يكـونا مطـلـب القـاضي في الحـكـم فالحـق أحـق أن يـتـبـع.
وقـد روي عـن رسـول الله (صلى الله عـليه وســلم) أنه قـال:(بالعـدل قامـت السمـوات والأرض) والعــدل ضـد الجـور.
والله سـبحـانه وتعـالى هـو الـذي يقـوم بتحـقـيـق العـدل في الـدين وفي الكـون، فـيأمـر بعـلـم ويقـضي بحـكـمة، وشـريعـة الله تحـقـق العــدالة بين مـطالب الجـسـم والـروح، وهـو الـذي يأمـر بالعــدل والتـوسـط دون إفـراط أو تـفـريـط.
والعــدل مـطـلب أساسي مـن مـطـالب الله لـعـباده، والله أمـر رسـوله بالعــدل في الحـكـم قال الله تعـالى:(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشـورى ـ 15)، فالله يطـلب مـن رسـوله الحـكـم بالعــدل بين الناس قـاطـبة، وأمـره أن يحـكـم بالعـدل بـين المسلمـين وغـير المـسلـمين بقـوله تعـالى:(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الـمائـدة ـ 42)، فـهـم وإن كانـوا غـير مسلمين، فـيجـب أن يـكـون حـكمه بينهـم بالـدل لأن العـدل هـو منشـود كل الناس، وهـل بعـد الحـق إلا الضـلالة.

التسوية بين الخصمين
والقـرآن الكـريم يأمـر بالعـدل في الحـكـم والفـصـل في القـضايا والخـصومات بين الناس، وقال أحـد العـلـماء: إن القـاضي ينبغي له أن يسـوي بين الخـصـمـين في خـمـسة أشـياء، في الـدخـول عـليه، والجـلـوس بين يـديـه، والاقـبال عـليهـما، والاسـتـماع لـكل منهـما، والحـكـم عـليهـما، وينبغـي أن لا يـلقـن أحـدهـما حـجـته عـلى خـصـمه، ولا يـلـقـن شـاهـدا شـهـادته، ولا يـلـقـن الـمـدعي الـدعـوى، ولا يـلـقى الـمـدعى عـليه الانـكار .. الخ، ويـرى الإمام الغـزالي أن قـوة العـدل الحـقـيقي هي ضـبـط الشـهـوة والغـضــب، وإخـضاعـهـما تحـت إشـارة العـقـل والشـرع، ويـرى أن العـدل حالة للنـفـس، وقـوة بها تسـوس الغـضـب والشهـوة، وتحـملهـما عـلى مقـتـضى الحـكمة وتضـبطـهـما في الاسـترسال والانقـباض عـلى حـسب مقـتـضاهـا، وإن تحـيـق العــدل ليـس بالأمـر الهـين، لأن العـدل من المعـاني الـدقـيقـة التي يـصـعـب إدراكها إلا من ذوي الـقـلـوب البصـيرة، الـذين يـزنـون الأمـور بميـزان دقـيـق لـيكـون وسـطاً بـين الافـراط والـتـفـريـط، ولأنه من الصـعــب الاحـاطـة بجـزئياته لا سـيما الجـزئيات المتعـلقـة بـوجـد انـات النـفـس كالحـب والبغـض، وما يـترتــب عـليهـما من أعـمال كـيـف لا ورسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) أعـدل الناس، ويـدعـو إلـيه ويـبـذل في سـبيـل ذلك قـصارى جهـده، مـن أجـل تحـقـيـق العـدل بين الناس، وقـد ضـرب لنا المـثـل بالعــدل بيـن زوجـاته (صلى الله عـليه وسـلم) ومـع ذلك كان يـناجي ربه عـز وجـل بـقـوله:(اللهـم هـذا قـسمي فـيما أملـك فاغـفـر ما تمـلك ولا أمـلك)، والـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) يـقـصـد بـذلك، مـيـل القـلـب الـذي لا يستـطـيع أن يـعــدل المـرء فـيه أو يتحـكـم، لأن الإنـسـان لا يسـتـطـيـع أن يتـحـكـم في حـبه وبغـضـه، ويـدلنا عـلى ذلك دعـاء الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم):(اللهـم يا مقـلـب الـقـلـوب ثـبت قـلبي عـلى ديـنـك) وجـاء في الحـديـث:(القـلـوب بـين إصـبعـين من أصابـع الـرحـمن يقـلـبهـما كـيـف يـشاء) .. وهـذا الحـديـث يـذكـرنا بـقـوله تعـالى، حـيـث قال ـ جـلّ قـائـلاً عـلـيـماً:(وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفـال 62 ـ 63)، ويـرى الإمام الـرازي في العــدل بأن مـن واجـب العـلماء مـع العـوام بأن لا يحـملـوهـم عـلى التعـصـب الباطـل، بـل يـرشـدوهـم إلى الأعـمال التي تـنـفـعـهـم في دنياهـم وأخـراهـم، وهـذا يـتـطـلب مـن العـلـماء أن يتعـرضـوا إلى الحـاجـات الــعـقـلـية والنفـسية والـدينية، التي يتحـاج إليها هـؤلاء العــوام، ليسـتـقـيـم أمـرهـم ويـعـتـدل حـالهـم، فـيقـدمـوا إليهـم ما ينـفـعـهـم من النصائح، لـتكـون لهـم مـنارا في أمـور دنـياهـم وأخـراهـم.
.. وللحـديث بقـية.