اعداد ـ علي بن صالح السليمي:
ضمن الخطب والمحاضرات التي يلقيها العلامة الدكتور محمد راتب النابلسي .. نستقرئ معك ـ عزيزي القارئ ـ هذه الخطبة القيّمة والتي تتحدث عن ذكرى مولد النبي المصطفى ـ على صاحبها أفضل الصلاة أزكى التسليم ـ والهدف من احياء هذه الذكرى التي تطل علينا بعد أيام قليلة .. لنستلهم العبر والمواعظ من تلك المواقف في حياة الرسول (عليه الصلاة والسلام) .. وما يجب علينا فعله وتطبيقه ..
يقول الدكتور النابلسي في بداية خطبته: الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً (صلى الله عليه وسلم) رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
معرفة الرسول جزء أساسي من الدين
وقال: أيها الأخوة الكرام .. بعد أيام قليلة تطل علينا ذكرى مولد النبي (عليه الصلاة والسلام)، وبادئ ذي بدء هناك جدل كبير حول إحياء ذكرى مولد النبي (عليه الصلاة والسلام)، والحقيقة التي يقبلها الأطراف جميعاً هو أن الله عز وجل حينما قال:(وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) (هود ـ 120)، فإذا كان قلب سيد الخلق وحبيب الحق يزداد ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه فلأن يمتلئ قلبنا إيماناً بسماع سيرة سيد الأنبياء والمرسلين من باب أولى، وهناك شاهد آخر هو قول الله عز وجل:(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) (المؤمنون ـ 69)، ومعنى ذلك معرفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شمائله، وفضائله، وكمالاته، وأقواله، وأفعاله، وإقراره، وجزء أساسي من الدين، وشاهد ثالث:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (سبأ ـ 46).
العبادات توقيفية لا يضاف عليها
موكداً بقوله: إذاً من خلال هذه الآيات الثلاث يتأكد أن معرفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جزء أساسي من الدين، لأن كلمة الإسلام الأولى لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومعرفة شمائل النبي وأخلاقه وأحاديثه وصفاته وأفعاله وإقراره ـ عليه الصلاة والسلام ـ جزء من الدين، إذاً ما الذي يمنع أن نلتقي في مسجد، أو في بيت، ونتحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ وهذه الأدلة الثلاثة أدلة قرآنية على أن هذا النشاط نشاط دعوي، نشاط تبليغي، نشاط إرشادي، أما إذا قلت لي: الاحتفال بعيد المولد عبادة، نقول لك: لا، العبادات توقيفية، لا يضاف عليها ولا يحذف منها، هو نشاط دعوي، هو جزء من الدعوة إلى الله، نشاط توجيهي، نشاط إرشادي، نشاط تعريفي، ولكن عيد المولد بل الاحتفال بعيد المولد ليس عبادة ولكنه دعوة إلى الله، إشكالية أن تصف هذا الاحتفال بأنه عبادة، فإذا قلت: عبادة، نقول لك: لا، إنه بدعة، فرق واضح جداً، وشيء آخر أوضحه بمثل: أب عظيم، عالم كبير، محقق متفوق، وله ابن جاهل وأمي، لو أمضى هذا الابن كل حياته في مدح أبيه هل يرقى درجة؟ لا ننتفع بقراءة سيرة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا إذا طبقناها، تصور عالماً كبيراً له مئة مؤلف، يحمل أربع شهادات دكتوراه، له مكتب، في أثناء غياب هذا العالم المستخدم عنده أمي، قفز وجلس على كرسيه في غيبته، هذا المستخدم الأمي جلس بمكان هذا العالم الكبير هل يرقى؟ هو يرقى إذا درس، يرقى إذا سار على طريق سيده، إذا نال شهادة ابتدائية يرقى، ثم إعدادية، ثم ثانوية، ثم ليسانس، ثم دبلوم، ثم ماجستير، ثم دكتوراه، يرقى إن سار على نهج سيده، أما أن يجلس مكانه في غيبته فهذا لا يقدم ولا يؤخر، هذه بعض الحقائق التي لا بد منها قبل الحديث عن شمائل النبي ـ عليه الصلاة والسلام، وشيء آخر أنت حينما تقرأ آية كريمة:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال ـ 33) .. فالآية واضحة تماماً في حياة النبي (عليه الصلاة والسلام) لكن ما معنى هذه الآية بعد انتقال النبي (عليه الصلاة والسلام) إلى الرفيق الأعلى؟ قال علماء التفسير: مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعذب أمته من بعده إذا كانت سنته مطبقة فيها:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال ـ 33).
تطبيق منهجه والاقتداء به
وقال: أيها الأخوة .. مرة ثانية جميل جداً أن نمدح النبي (عليه الصلاة والسلام)، لكن الذي ننتفع به هو أن نتبعه، أن نطبق منهجه، أن نقتدي به، أن نقتفي أثره، أن نكون على طريقه، أن نكون على شاكلة أصحابه، هذا الذي يرقى بنا، المديح من دون تطبيق لا يقدم ولا يؤخر، هذه حقيقة، والإنسان قد يذهب إلى العمرة، وقد يزور مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعد مزاحمة طويلة قد يستطيع أن يصلي ركعتين في المكان الذي صلى به النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنا أقول لكم: افعلوها لكن لا تكتفوا بها، وحدها لا تقدم ولا تؤخر، البطولة الاتباع، والدليل:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (آل عمران ـ 31)، وكأن الله عز وجل ربط محبته باتباع سنة نبيه:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال ـ 33) في ضوء الآية السابقة قد تفسر معظم ما يجري في العالم الإسلامي، أمة شردت عن الله تعاني ما تعاني، ولا نهاية لمعاناتها، لأنها أهملت سنة هذا النبي العظيم الذي أرسله الله رحمة للعالمين.
واوضح النابلسي بقوله: إن الحديث عن سنة النبي (عليه الصلاة والسلام) ضروري جداً، لأننا حينما تركنا سنته وقعنا في شر أعمالنا، سمع بكاء طفل صغير في أثناء الصلاة، وهذا الطفل الصغير ينادي أمه ببكائه، فاختصر الصلاة، من عادته (صلى الله عليه وسلم) انه إذا صلى الفجر يقرأ قرآناً مديداً طويلاً، فلما سمع بكاء طفل علم أن هذا الطفل ينادي أمه ببكائه فاختصر الصلاة، ولما رأى دابة تحمل فوق ما تستطيع، رأى جملاً ذرفت عيناه، فاقترب منه ومسح ذفريه وقال:(من صاحب هذا الجمل؟ قال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله، قال له النبي الكريم: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه) (الطبراني عن عبد الله بن جعفر) .. اسمعوا، لو تعثرت بغلة في العراق، يقول سيدنا عمر، لحاسبني الله عنها، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟ فوالله الذي لا إله إلا هو حينما تؤمن إيماناً قطعياً ويقينياً أن الله سيحاسبك، أن الله يعلم وسيحاسب وسيعاقب، وأن:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) (الطلاق ـ 12) .. ألا تسأل معي هذا السؤال لم اختار الله من أسمائه اسمين، القدير والعليم؟ لأنك إذا آمنت أن علم الله يطولك، وأن قدرته تطولك، لا يمكن أن تعصيه، فنحن إذا كان النبي (عليه الصلاة والسلام) فينا، كانت سنته مطبقة في حياتنا، طبقنا منهجه، نحن في مأمن من عذاب الله، فالنبي (عليه الصلاة والسلام) بيّن لنا الحلال والحرام، الخير والشر، ما ينبغي وما لا ينبغي، ما يجوز وما لا يجوز, سنته التفصيلية تقترب من مئات ألوف البنود, تبدأ من فراش الزوجية وتنتهي بالعلاقات الدولية، منهج تفصيلي.
اتباع النبي في كل شئ
أيها الأخوة الكرام، ماذا نتكلم عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ هو سيد الخلق وحبيب الحق، وسيد ولد آدم، أقسم الله بعمره الثمين، فقال:(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).. فجميل جداً أن نحتفل بعيد المولد، وأن نقيم الزينات، وأن نرفع اللافتات، وأن نقدم الحلويات، لكن الأجمل من هذا كله أن نتبع سيد الكائنات، أن يكون بيتك إسلامياً، وعملك إسلامياً، وأنت مطبقاً لهذا الدين العظيم، إذا كان من الممكن أن ننتفع بذكرى ميلاد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ننتفع بها إذا طبقنا سنته التي هي النهج القويم، والصراط المستقيم.
وقال النابلسي استكمالاً لخطبته: أيها الأخوة الكرام، حديث مفصلي، سأل النبي (عليه الصلاة والسلام) أصحابه الكرام:(أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع قال: إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم يُطْرَحُ في النار) ـ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة: (دخلت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فدخلت فيها النار) ـ مُتَّفَقٌ عَلَيْه عن ابن عمر، فما قولك بما فوق الهرة؟ هرة!.
وختم خطبته بقوله: أيها الأخوة الكرام، أنت حينما تعرف الله قد تعد للمليار قبل أن تعصيه، لأن هناك عقاباً وأنت في قبضته، كل مكانتك، وقيمتك، وهيمنتك، وقوتك، وغناك، على ضربات قلبك، فإذا توقفت ضربات القلب، طبعت النعوة، كل هيمنتك، ومكانتك، وقدرتك، والهالة الكبيرة التي حولك، منوطة بسيولة دمك، فإذا تجمدت نقطة من الدم لا ترى بالعين في أحد أوعية الدماغ، إن جاءت بمكان يصاب الإنسان بالشلل، بمكان آخر يصاب بالعمى، وبمكان ثالث يصاب بفقد السمع، وبمكان رابع يصاب بفقد النطق، أنت في قبضة الله، أنا لا أعجب إلا من إنسان يقول: أنا، من أنت؟ أنت لا شيء، أنت بفضل الله شيء، بقوته شيء، بإمداده شيء، بحفظه شيء، برعايته شيء، فلذلك هذا الذي يتوهم أنه قوي، ويفعل ما يريد، وأنه أقوى ممن حوله، وأن حوله لا يملكون له ضراً أو نفعاً، هذا الإنسان الذي نسي الله فزلزل من تحته الأرض، الله هو القوي.
* المصدر:(موقع منتدى الفطرية ـ من خطب الجمعة للعلامة الدكتور النابلسي)