تقدم لنا بعض التجارب الفنية من حين لآخر رؤى جديدة في كيفية تشكّل الوضعيات الجمالية لما هو ماثل أمامنا ولا نراه بالضرورة، ويمكن اعتبار هذه الرؤى تحديات جمالية للبديهيات والمتوارث والأفكار المسلم بها في عالم الفن. فإن ينصت الفنان لصمت الذوات ويحوّله إلى معطى جمالي يمكن أن يوفر إمكانية الدخول إلى لعبة التواتر الدلالي الذي ينتج الكثافة الجمالية والتعبيرية والثراء الرمزي للأثر الفني. حيث يقدم لنا الفنان مجدي الكفراوي تجربته وفق هذا المنطلق، هو يرسم صمت شخوصه الذي يحسن الاستماع إليه والوعي به، يهندس فضاء لوحاته وفق منطق هندسي صارم البناء الجمالي ويلعب على قدرات اللون وفيضه الدلالي فيتدرج من التشخيص نحو التجريد بنضوج بالغ. وأسلحته خلال هذه اللعبة الجمالية هي الظلّ والضوء من خلال قدرات اللون وحسن التحكّم في الفضاء والعناصر المؤثثة له، وقوة التركيبات التي يبدعها بتآلف بهيج بين الشخصيات والأشكال الهندسية والغنائية.الظلّ-اللعبة:يتلاعب الفنان مجدي الكفراوي بالظلال لعبا جميلا، بحيث يصبح في أعماله أكثر من مجرد عامل لإبراز العمق نحو حضور طاغي المفعول، فهو يساهم في تقسيم فضاء اللوحة بحيث يتموقع أين يجب ولا يجب أن يكون، فحضر بتقنية عالية من خلال درجات اللّون حيث يعتم الجوانب التي يريدها الفنان لصالح إضاءة جانب الأخر. من خلال وجوه شخوصه كما في بقية عناصر بناء اللوحة من معمار وأشكال هندسية ونباتية...إذا الظلال هنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلتزم بدورها الكلاسيكي وتلتزم الحياد بل هي العنصر الأبرز في صياغة اللعبة الجمالية.الظلّ في أعمال الفنان مجدي الكفراوي هو الوجه الإيجابي للإختراق، هو يخترق المنطق الكلاسيكي لحضوره في اللوحة ومع هذا هو مقنن التواجد وفق نسق الفنان الخاص، هو تأكيد على لعب الفنان خارج المعنى المتداول. بحيث يفكك تنظيمه ويعيد تركيبه من جديد وفق تصور جمالي يولّد بدوره نظاما جديدا. هذا النظام الجديد يخلق إيقاعا بصريا مختلفا وقراءات متعددة وفق هذا النسيج الوافر له.ينتهك الفنان من خلال لعبته الجمالية هذه صمت الظلال ودوره الأزلي واستنطاقه وتحريره على كامل مساحة الفضاء التصويري بحيث يصبح اللون الواحد قوة هلامية تذهب به إلى أقصى درجات التعبير والرمزية.التفكيك- العين الثالثة:وسط هذا الكم الهائل من التجريد حولنا وبداخلنا، كما وسط هذا الكم الذي يدّعي التجريد، تخاطبنا لوحات الفنان مجدي الكفراوي ببنائها الصارم وتفاصيلها الدقيقة التي تحتفي بالإنسان في مختلف حالاته النفسية، وله مع الصمت حوارات بصرية. حيث تنطق لوحاته بصمت وجد في الفضاء التصويري للفنان فسحته، فيفكك من خلالها ملامح شخوصه وخاصة الأنثوية وما يدور في خلدها من حوارات صامتة يتسلل الفنان إلى أدق تفاصيلها ويتم من خلال الخط واللون إستدعاء المسكوت عنه من هواجس.المتأمل بعينين اثنتين أعمال الفنان مجدي الكفراوي ستتميز نظرته بالقصور لأن أعماله تتطلب عينا ثالثة ترى علاقة كامل أجزاء التركيبة بالشخص الماثل بداخلها. عين إضافية تتفحص ذلك الجانب المخفي الخاضع لنسق الحلم، هذا الحلم الصامت الذي ينطق هنا بلغة لها قواعدها الخاصة، تمكننا عند تعلمها الولوج إلى فحوى النص الخفي. هذه العين الثالثة هي بصدد إختراق ذلك الصمت المرسوم والذي لم يكن أبدا حاضرا قبل لحظة وجود اللوحة سوى في ذهن الفنان، والذي يعاد تكوين مدلوله الحاضر بكثير من الحذق والشغف. هكذا يقع إنتاج المعنى الجمالي الضاهر على سطح اللوحات والمخفي بين ثناياها والذي لا يحيل على أي واقع لكنه يحاكي العمق لا يمكن رؤيته سوى بتلك العين الثالثة، فالمدرك لا يدرك أبدا كمعطى موجود، إنه لا يقدم نفسه للقراءة بل أنه سيسحبك إليه لتشاهد تجليه أمام نفسه.تذكرنا أعمال الفنان في جانب منها بما جاء به التكعيبيون وتلك الأبعاد المختلفة والمتنوعة للشيء الواحد، فهو يرسم الإنسان من مختلف جوانبه ويحتفي به في مختلف وجوهه ويتحاور مع صمته باللون والشكل بطريقة رسم خاصة تحافظ على البعد التشخيصي كما تقتحم عوالم التجريد بالتدريج.هو لا يحاكي قواعد الرسم المكتسبة كما هو لا يدخل المتلقي في تلك الدوامة التي لا طائل من ورائها بحيث يسمح له بالتيه أمام أعماله ولكنه يمده بالمقابل ببعض المفاتيح، مفاتيح للقراءة والتي من خلال ما تقدمه له من دلالات يحاول فك رموز هذه التعويذات الجمالية. وكأنه بصدد حفلة للحواس التي تنتشي وتحاول التفاعل من خلال تلك العين الثالثة التي تسعى إلى ربط العلاقات وفهم الرمزيات. هو لا يستعرض تقنياته في الرسم لأن ذلك ليس هدفه ولا يمكنه من إعادة إنتاج المرسوم عندما يمحى من الداخل. لكنه في المقابل يقدم طرحا جماليا يقوض المعتاد في رسم البورتريهات والجسم البشري اللذان يقحمهما ضمن منظومة جمالية متكاملة، تذكرنا بما جاءت به المنمنمات وقطع الموزاييك التي تشدّ المتلقي إليها من خلال ما يوجد بها من حوارات بصرية وفكرية ولكنها تتفوق عليهم في عدم تقديم المادة بطريقة مباشرة بل تسحب القارئ نحو الداخل شيئا فشيئا نحو وحدة المعنى الذي هو إختزال الصمت، كما التسلل اللانهائي للحلم من خلال ترجمتهما إلى لغة المفاهيم الجمالية التي تنفلت من لعبة التشتت إلى وحدة الوحدة كنتيجة جمالية لتسكع الفنان بين أرواح شخوصه وإنصاته إلى صمت الذات.البعد الروحي في الأثر:هذا الجانب الروحي في الأثر الفني نابع من إنصات الفنان إلى صمت الذوات، والإنصات إلى كلام الصمت ليس في حاجة إلى دال أو جسم أو مادة... هو فقط بحاجة إلى الوعي بالذات، فهمها، هو العيش داخل أثير وسط روحي خالص. لذلك تتجلى حالات الغضب، الحزن، التأمل، التحدي، التشظي...على ملامح شخصياته بالطريقة التي يراها بعين عقله وروحه والتي تحتل المرأة الدور الرئيسي بما هي حسب رأيه الكائن الأكثر إجادة للكلام كما الصمت. من خلالها ومن خلال بقية شخوصه يعكس الفنان وعيه بها وبما يسكنها، تلك الهواجس اليومية التي لم تجد مساحة للتجلي في الواقع فتصمت، ويأتي هنا دور الفنان ليستمع إلى ذلك الصمت ويلتقطه ويبدأ بتشكيله وفق مكتسباته التقنية والأهم وفق منطقه الفكري والروحي الخالص.اللون: الواحد-المتعدد:يعتمد الفنان مجدي الكفراوي في إبداع لوحاته على عدة عناصر أهمها اللون ولكل لون منطقه الخاص وجمالياته اللامحدودة، هو من الفنانين الذي يعطون للّون قيمة كبيرة ورئيسية في بناء الأثر الفني، كما لإمكانياته الخصبة الدور المهيمن في شحن التعبيرات والدلالات الرمزية. فأعتمد على تقنية اللون الواحد كما مزج الألوان بدراية كبيرة في أثاره الفنية.*اللون-الواحد:في العديد من الأعمال يلجأ الفنان إلى إعتماد قدرات اللون الواحد خاصة ذلك الأزرق المجيد والأسر لما له من رمزيات تخاطب الروح قبل البصر، يخترق من خلاله حدود عقولنا ليؤثث فراغا محكم البناء، يلعب بدرجاته إما نحو الأبيض أو الأسود فتفيض الظلال والأنوار بالدلالة وتلبس الشخصيات عظمة اللون وكبريائه وتعكس نوره وعمقه.يقف اللون الواحد بمختلف تدرجاته في أعمال الفنان متأهبا لإمتصاص تلك الطاقة الرهيبة لمشاعر الشخصيات ويعكس ذلك التحدي الذي بداخلها، فيبوح بجماليات الحزن الذي بدوره يفضح خصوبة اللون وبهائه. كما تحضر جماليات اللون الواحد وطاقاته التعبيرية والرمزية حتى داخل اللوحات التي ينوع فيها الألوان حيث لا يمزج بين الألوان لمجرد المزج بل هو يبرز طاقة كل لون على حدى وهذا ما يشحن طاقة الألوان المجتمعة في عمل واحد أكثر فأكثر.يتقمص اللون الواحد بمختلف أبعاده شخصية أبطال اللوحات كما يتحلّون هم بالمقابل بفيض تعبيراته اللامحدودة. هذا اللعب باللون الواحد تحدي واضح وصريح لقدراته وتجلي أوضح لقدرات الفنان التقنية والأهم قدراته التخيلية للا محدودية قدرات اللون الواحد.*اللون-المتعدد:إلى جانب اللوحات أحادية اللون يمزج الفنان في بقية أعماله الألوان كما سبق وذكرنا مع إعطاء اللون نفس القيمة التي يعطيها إياه في أعماله ذات اللون الواحد، حيث يقدمها بدرجة عالية من التحكم وحسن التدبير والدراية بمنطق كل لون وتماشيه مع غيره من الألوان المستعملة، بحيث لا مجال لحضور إعتباطي وغير محكم للون في أعماله، أو لسيطرة لون على حساب أخر فيحتل كل لون الجزء المخصص له في اللوحة بحيث يقع الإشتغال عليه كما يجب لإستخراج كل طاقاته الجمالية والتعبيرية والرمزية، وإمكانياته في التفاعل مع غيره من الألوان ومدى ملائمته للشكل والفكرة، وكيفية إنغماسه في اللعبة الأم، لعبة الضوء والظلّ التي إكتسحت كامل فضاء اللوحات تقريبا.منسوجات لونية يقدمها لنا الفنان وفق بناء هندسي وغنائي محكم التكوين ومتعدد الدلالة والرمزية، تختلف اللمسات من عمل لأخر في إستعراض بهيج لطاقات الفنان وقدراته التقنية في إخضاع اللون والتحكم به وهذا ما تبوح به ملامح الشخصيات والمشاهد التي يتلاعب بتفاصيلها الدقيقة ويقسمها بدورها إلى عدة أجزاء وكأنها قطع بازل كل قطعة في مكانها الصحيح.خطوات ثابتة نحو التجريد:يقول بابلو بيكاسو " أتقن القواعد كمحترف، حتى تتمكن من كسرها كفنان" وهذا القول بالتحديد ينطبق على الفنان مجدي الكفراوي الذي يمر من خلال أعماله سواء كانت الملونة أو السوداء والبيضاء بخطوات ثابتة نحو التجريد، خطوات فنان يجيد قواعد الرسم وله حسن دراية كبير في تقسيم الفضاء والتوازن في بناء التراكيب كما حسن توزيع الألوان واللعب بدرجاتها المختلفة...وهذا ما جعله يكتسب كل مقومات العمل التجريدي. الذي بدأ بالتسلل بنضج كبير لأعماله التشخيصية نوعا ما والتي أخذت في الخروج من ذلك البعد تدريجيا نحو إختزال المشاهد وتبسيطها في أشكال هندسية.فجاءت أعماله التجريدية كما أعماله الأخرى محتفية بقدرات اللون والجسد ولكن بأسلوب مختلف، حيث تحرر اللون أكثر من بين قضبان الشكل المحدد وشهدنا مزجا للألوان من خلال التداخل فيما بينها، وهذا لم يكن موجود في أعماله السابقة، كما غابت تلك الصرامة البنائية تدريجيا ليحتل الوجه أغلب المساحة تارة، من خلال التركيز على لمسات ولطخات بسيطة ودقيقة في أن لتبيان خطوطه الرئيسية بدون نسب. وطورا ليحتل الجسد أحد أركان الفضاء التصويري إما بصفة فردية أو جماعية. في حين تؤثث مساحاته اللونية ذات الأشكال الهندسية الغير المحكمة البناء كامل الفضاء واللعب على الهيكل البشري دون تفاصيله الدقيقة كما كان يحدث في أعماله الأخرى.أعمال الفنان مجدي الكفراوي إحتفاء بقدرات الصمت الذي تعج به الحياة من حولنا، صمت يتحوّل إلى صخب جمالي مركز البناء والتركيب ومعتمد على قدرات اللون والشكل، يمرّ من التشخيص الجزئي نحو التجريد بنضج الفنان الذي يكتب و يرسم ويقرأ وهذا ما يجعلنا في تشوّق لما ستفضي إليه أعماله القادمة .دلال صماري باحثة وتشكيلية تونسية