[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/09/mmostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد مصطفي [/author]قليل من الفنانين لديهم القدرة على ابهار المتلقي رغم وضعهم في اطار فني سيء او غير مناسب لقيمتهم الفنية، غالبيتهم يندمج في الاطار العام للعمل ويبادلون السوء بالسوء، كان محمود عبد العزيز من القلائل هؤلاء، شكل علامة فارقة في أي عمل شارك فيه، حتى ولو دون المستوى، تَغفر براعته في اداء الدور، المشاركة في العمل نفسه، والذي من الممكن ان يكون فقيرا فنيا، أو ليس بمستوى محمود عبد العزيز.المتتبع لسيرة محمود عبد العزيز الفنية يجد مفارقة تثير التأمل، وهي فترة البدايات، في 1974 وهو العام الذي شهد أول ظهور فني للفتى الوسيم صاحب الملامح الاوروبية والقادم من مدينة الاسكندرية الساحلية، انطلاقة غاية في القوة بمجموعة اعمال على قدر كبير من الكثافة، قدم في 6 سنوات 25 فيلما سينمائيا وهو معدل لم يصل اليه اي فنان من أبناء جيله، تركز دور عبد العزيز في غالبية تلك الافلام في مجموعة ادوار نمطية وضيقة، شاب وسيم ومنطلق ومحب للمغامرة، تتهافت عليه الفتيات، وهي تيمة استهلاكية انتشرت في تلك الفترة الغارقة في براثن انفتاح اقتصادي وسياسي، ظهرت آثاره وتداعياته على خيارات الناس الفنية والثقافية، وهي انعكاس لإنحيازات سياسية في المقام الاول، خلقت انماطا واطرا اجتماعية وسلوكية، وابرزت اخرى كانت تحت جلود المصريين تنتظر لحظة انطلاق، معها تأثرت مناعة المصريين الإجتماعية واصبحوا بلا غطاء، فخارت قدرتهم على الاختيار الجيد، أو التمييز بين الغث والسمين.لم يكن اداء محمود عبد العزيز في تلك الفترة ينبئ بظهور فنان استثنائي، او حتى فنان جيد، 10 سنوات كاملة لم يظهر للمتابعين والمهتمين أن الرجل سيقدم شيئا مختلفا، وهو أمر خالف كل الظنون والتكهنات بعد ذلك، بصورة تشكك في قدرة اي انسان على اتخاذ حكم قاطع في مسائل قد تبدو لنا انها محسومة، نفاجأ بعدها بالصفعات تلو الاخرى نستفيق على آلامها واصواتها الصاخبة، افيقوا، ليس هناك طبع بشري ثابت، الحياة والناس في تقليب مستمر، "الايام دول" كما يقول المصريون.عبد العزيز ظل عشر سنوات فنانا "عاديا"، يتجرع الرتابة في الاداء، حتى فاجأ الجميع بدور هو ليس بالكبير على فنان ظل فتى الشاشة عشر سنوات، كان موعد الجمهور مع حقبة جديدة من الاداء "المبهر" والاستثنائي لمحمود عبد العزيز في فترة التأسيس الثانية، وكأن مسه عفريت التمثيل، والتي دشنها بفيلم "العار"، اجاد كل من كاتب السيناريو محمود أبو زيد والمخرج علي عبد الخالق عملية تصنيعة كشريط سينمائي، شكل علامة في تاريخ السينما المصرية مع صعود جيل جديد من المخرجين والكتاب المتأثرين بحقبة الانفتاح والتي تم تدشينها في السبعينيات، على معاشهم واحلامهم، وفيه يظهر محمود عبد العزيز في قالب جديد، خرج فيه من النمطية التي حُبس فيها طوال عقد كامل، ابدع في دور الطبيب النفسي المضطرب والحائر بسبب الزلزال الذي ضرب عائلته عقب اكتشافه ان أباه المتوفى كان زعيما لعصابة مخدرات، اصيب بالجنون على وقع ضياع كل شيء، غنى وقتها بصوت مازال يتردد في اذان من شاهدوا الشريط في طزاجته الاولى بأسلوبه المميز وضحكته الصافية "الملاحة..الملاحة"، دور صغير، ولكنه ترك أثرا بالغا في ذهنية محبي السينما، ومعه طرح التساؤل، أين كان الفتى ؟!.يلتمس محبو عبد العزيز له العذر في تأخر ظهوره المميز، لاسباب متعلقة بعدم امتلاكه للأدوات المساعدة في دعم اختياراته الخاصة، بجودة الصنعة وحسن الاداء، انطلق بعدها عبد العزيز يبهرنا بأداءات غاية في الروعة والاستثنائية واختيارات غاية في الدقة والتفرد، حتى وان تجاوز الرجل عن مكانته في صدارة "الأفيش"، ومعها نجد له ادوار مهمة وحيويه على صغر مساحتها، من "البريء" وفيه يؤدي دور ضابط خشن وحاد الطباع في اطار مؤسسة تطبعت بذات الطبع، مع ذلك يعيش حالة تناقض تثير الدهشة، فهو المرعب والسيكوباتي نهارا، ورب الاسرة الحنون والمتفهم والحريص على عائلته ليلا، عبقرية عبد العزيز في هذا الدور لا تخطئها عين، الى ان وصلنا لدور "حسين" في الفيلم المؤلم "البحر بيضحك ليه"، وفيه يقوم بدور موظف يُمارس عليه كل انواع "القهر"، في البيت والعمل والشارع، فانتازيا محيرة ومبكية، لا ينفك منها حسين الا بالهروب الى البحر، الى الاسكندرية، حيث التمرد على القيود.في الحقبة تلك والتي امتدت لعقدين من الزمان شارك عبد العزيز في عدد من الاعمال المحورية، شكلت شخصيته الفنية المميزة، ساهم في ذلك أن عبد العزيز القى بثقله على جيل صاعد وقتها من المخرجين والسينمائيين المصريين، رضوان الكاشف وعاطف الطيب وعلي عبد الخالق وخيري بشارة ورأفت الميهي، جيل صاعد بأحلام جديدة وطازة، شاركهم عبد العزيز أحلامهم وطزاجتهم، ظهرت شرائط سينمائية حالمة وطازجة.حتى ولو كان ذلك الاداء "العبقري" في عمل "عادي"، الا اننا نجد بصمة محمود عبد العزيز حاضرة، فأعمال مثل "رأفت الهجان" ،"اعدام ميت" ،"الساحر" ،"ابراهيم الابيض" وغيرها من الممكن ان توضع في ركن الافلام أو الاعمال العادية في قائمة الرجل، الممتدة لما يقرب من مائة فيلم وعمل درامي، الا ان حضور محمود عبد العزيز فيها كان مميزا واستثنائيا، رغم غرق بعض تلك الاعمال في أفخاخ الرتابة والتنميط.لا يستقم الحديث عن محمود عبد العزيز دون ذكر أبرز وأهم عمل شارك فيه وتصدر لبطولته، وارى انه افضل ما اخرجت السينما العربية، عمل متكامل اخراجا وكتابة واداء وملامسة لروح الناس ومعاناتهم وانسانيتهم الضعيفة، كان فيلم "الكيت كات" وهو في الاصل رواية "مالك الحزين" للروائي المصري ابراهيم اصلان، ابدع محمود عبد العزيز في الشريط بصورة مذهلة، الكفيف المطلع على كل خبايا محيطيه، أخذنا "الشيخ حسني" وهو الشخصية التي أداها عبد العزيز في الفيلم في رحلة لا تخل من البهجة والالام، في أعماق الشخصيات الدائرة في فلك "الكيت كات" الحي الشعبي الملاصق للنيل غاص الشيخ حسني، وهو الكفيف العالم ببواطن الامور، من دهسته الايام وجارت عليه، وفي مشهد الفيلم الاهم، يشكو "الشيخ حسني" لجاره وصديق والده "عم مجاهد" ضيق الحال، يبرر للرجل سلوكه "البوهيمي" وتفريطه في تركة والده "البئيسة من الاساس"، ومجاهد في مكانه لا يحرك ساكنا، فقد مات مجاهد، كان يحدث نفسه، ولا احد يستمع، ورغم ذلك "يعافر" الشيخ حسني ويقاوم ويبتهج، لم يمنع نفسه الحياة، ركب "الفيسبا" ودخل السينما وقاد المركب، قاد محيطيه وهو من فقد السيطرة على حياته اصلا، ضحك على الايام، مثلما ضحكت عليه.مات محمود عبد العزيز، وهو ابن جيل يفارقنا واحد تلو الاخر في صمت، اثرى دنيانا بفن جميل وممتع، ومثير للتأمل ومحفز على التساؤلات.. محمد مصطفىمن أسرة تحرير الوطن [email protected]