تقدم لنا الكتابة الشعرية اليوم في صورتها الحداثية عمقا فلسفيا تتجلى فيه صورة التماهي المطلق بين الشعر والفلسفة بحيث يصعب على القارئ والمتلقي أن يميز بينهما إذا ما تجاهلنا البنية الشكلية للنص، لهذا يطرح الفيلسوف الألماني غادامير سؤاله العميق وهو "من ذا الذي يريد أن يفصل بين الشعر والفلسفة؟"، يبدو السؤال مشكلا في دائرته الفضائية وقد لا نستطيع الإجابة عنه إلا بالعودة إلى التطور الشعري الزمني من النمط القديم التقليدي إلى عصر الحداثة الكتابية، في السياق العربي بدءا من الشعر الجاهلي ومرورا بالشعر الإسلامي لاحقا لا يكاد شاعر يخلو من هاجس فلسفي عميق أحيانا وبديهي آخر وربما ينطبق هذا التعميم على شعراء اليونان في ملاحمهم الوطنية مثل هوميروس وفرجيل.
يبرز في الشعر العربي القديم شاعر غلبت فلسفته على قوته الشعرية وتجلت عظمته الشاعرية في جرأته على طرح الأسئلة الوجودية الكبرى وتحليقه في سمائها بمهارة وجدانية عميقة وهو الشاعر الكبير أبو العلاء المعري الملقب برهين المحبسين، لقد استطاع هذا الشاعر أن يكتب فلسفته في قوالب شعرية بديعة جدا بوصفه شاعرا للفلاسفة وفيلسوفا للشعراء، تحكي قصائد المعري نظرة عميقة من الدهشة والشعور بالغرابة أو النزعة العدمية في التعاطي مع التساؤلات التي تغيب الإجابة عنها، المعري هو الشاعر الذي يكتب الحيرة الوجودية كما يكتب الشعور بالغياب والعدم، وإذا كان أفلاطون قد جعل من الدهشة منبعا للفلسفة فهي عند المعري فلسفة شعرية مدهشة.
توالى شعراء العصور الإسلامية في كتابة الفلسفة بقوالب شعرية بديعة كالمتنبي وابن عربي والحلاج والنفري مرورا بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي وعمر الخيام، وبالرغم من حملات النبذ والإقصاء لأسباب سياسية وأحيانا دينية أو متعلقة بالكتابة الخارجة عن السياق المألوف إلا أن التاريخ حفظ لنا أجمل المقطوعات الشعرية التي امتزجت بالتصوف والفلسفة.
يطرح الفيلسوف الألماني هيجل فكرة العلاقة بين الشعري والفلسفي في كتابه دروس في الاستطيقا فقوة الشعر حسب هيجل لا بد أن تتعمق بالأفكار الفلسفية والأسئلة الكونية الكبرى وهو بهذا يمجد الشاعر الألماني شيلر، يقول "إن شيلر لم يقتصر في اعتباراته الاستطيقية على إنعام النظر في الفن ومشاغله من دون الاشتغال على العلاقة بالفلسفة الحقيقية بل ألف بين اهتمامه بالجميل الفني والمبادئ الفلسفية. ويلحظ المرء في الكثير من قصائده نية الخوض في الأفكار المجردة وحتى الاهتمام بالمفهوم الفلسفي"، يقرر هيجل من خلال هذا الوصف أن الشعر العميق وجدانيا لا بد له من الدخول في دائرة الفلسفة والفكرة العميقة من حيث المبدأ.
إن الشعر أو الأثر الفني الخالي من المبادئ والأفكار هو حسب هيجل جمال ساذج وبالرغم من الانتقادات التي وجهت لشيلر بسبب الخلط بين الفلسفة والشعر إلا أن هيجل يصف هذا الخلط بالذنب المشرف، يقول "ذلك الذنب الذي تورط فيه إنما شرف تلك النفس الجميلة والوجدان العميق ولم يجلب للعلم والمعرفة غير الفائدة"، في سياق آخر يصف هيجل الفن الحقيقي هو ذلك الذي يرتبط بعمق الروح فلسفيا ودينيا، يقول "بيد أن الفن الجميل لا يكون فنا حقيقيا إلا في حريته هذه ومن ثم فهو لا يقوم إلى مهمته العليا بإطلاق إلا إذا تنزل ضمن الدائرة المشتركة مع الدين والفلسفة فلا يكون إلا كيفية وضربا للتعبير والوعي بالإلهي وبالمشاغل الأعمق للإنسان وبالحقائق الشاملة للروح"
نستطيع القول إذن إن الحداثة الشعرية بوصفها غرائبية غامضة اقترنت كثيرا بقوة الفلسفة وبالتوجه الفلسفي في فهم ألغاز العالم أو على الأقل في طرح التساؤلات الفلسفية بطريقة شاعرية تستدعي الدهشة والذهول، تتمازج الفلسفة مع الشعر والشعر مع الفلسفة في الكتابات الحديثة لكتاب فلاسفة وشعراء في ذات الوقت مثل جبران خليل جبران وفرانسوا بيسوا وسيوران، ولعل أشد تجليات هذا التماهي الجميل في الكتابة يبرز بقوة في شخصية الفيلسوف الألماني نيتشه بوصفه من أكثر الكتاب إثارة للجدل بجرأة نظرياته وتناقضاته الحسية والفلسفية في كثير من الأحيان، كان نيتشه قد وصف عباراته الفلسفية في كتابه مولد التراجيديا بأنها ظاهرة فنية أو جمالية وهو بهذا يثبت مملكة الجميل الفني في كتاباته الفلسفية، لا يمكن وصف المؤلفات التي تركها نيتشه للعالم ضمن قالب معين فكتبه هي نمط جديد ومزيج بين الفن والفلسفة وتتجلى هذه الظاهرة في كتب مثل هكذا تكلم زارا وإنساني مفرط في إنسانيته، كتب نيتشه الشعر وكتب في معناه النقدي من منظور مملكة الجميل الفني الفلسفي والقارئ لديوان نيتشه سيدرك حجم العمق الوجداني والفوضى الروحية التي عانى منها نيتشه والتي أوصلته لمرحلة من الجنون العدمي أو اللامعنى الثقيل.

عزان المعولي
شاعر وكاتب في فلسفة الجماليات