[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/05/amostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.احمد مصطفى [/author]
”منذ السنوات الأخيرة للقرن الماضي وبداية القرن الحالي والاقتصاد العالمي يراهن على موجة تطور جديدة تقودها التكنولوجيا، من الذكاء الصناعي والروبوتات التي تحل محل البشر غلى الطباعة ثلاثية الأبعاد والاستغناء عن كافة الصناعات. يتسق ذلك مع بناء الجيل الجديد الذي لا يقيم وزنا لقيم العمل والجهد، في المعرفة وفي انتاج ما يستهلكه، والأصالة والجودة.”

مع التطورات السريعة والهائلة في مجال التكنولوجيا، والتي يلعب الانترنت دورا في انتشارها على نطاق غير مسبوق، لم تعد الفجوة بين الأجيال كما كانت سابقا بل زادت اتساعا لتصبح هوة يكاد فيها الجيل الجديد ينفصل تماما عن الأجيال السابقة. ومنذ انتقال البشرية من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين اصطلح الإعلام على تسمية الأجيال الجديدة بتعبير "ميلينيالز" Millennials وترجمته الحرفية "أبناء الألفية". هذا الجيل المرتبط بالهاتف الذكي أكثر من الكتاب والصحيفة، والذي يعرف عن ألعاب الفيديو على الانترنت أكثر مما يعرف عن إدارة الأعمال. إنه جيل المبتكرات الإلكترونية (غادجتس) التي يرتديها في معصمه أو على رأسه. جيل يستقي معلوماته عن كل ما حوله، من شارعه وحيه ومدينته إلى بلده وجيرانها والعالم، من البحث في غوغل أو وصولها إليها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يعد مصطلح ميلينيالز تعبيرا إعلاميا فحسب، بل دخل علوم السياسة والاجتماع واصبح موضوعا للأبحاث والدراسات والاستطلاعات ليصبغ العلم بصبغته ويكاد يحول توجه البشرية كلها بعد حين ربما لا يكون بعيدا في الزمن. حتى الطب والسلوك أصبح الآن به دراسات تخص الميلينيالز وأعراض تتعلق بهم نتيجة أسلوب حياتهم واهتماماتهم. لم ينعكس هذا التحول في العلم والإعلام على فهم الأجيال القديمة للجيل الجديد، بل على العكس زاد الهوة بينهما. لكنه بالتأكيد أفاد "البزنس" والأعمال، التي أصبحت تركز على شريحة "الجيل الرقمي" أكثر فأكثر باعتباره عصب الاستهلاك الحالي والقادم. ومع اهتمام البزنس هذا، وتركيز الاقتصاد على انماط استهلاك الميلينيالز تتعمق دائرة "انفصال" الجيل الجديد عما سبقه. ويتجاوز الأمر هنا ما عرف تقليديا بأنه "صراع أجيال"، فهذا ليس صراعا بين جيل يتمسك بقديمه وجيل يسعى للجديد بقدر ما هو جيل جديد مختلف كليا تقريبا "يكسح" الجيل القديم بكل تقاليده وقيمه وممارساته وثقافته عموما.
منذ السنوات الأخيرة للقرن الماضي وبداية القرن الحالي والاقتصاد العالمي يراهن على موجة تطور جديدة تقودها التكنولوجيا، من الذكاء الصناعي والروبوتات التي تحل محل البشر إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد والاستغناء عن كافة الصناعات. يتسق ذلك مع بناء الجيل الجديد الذي لا يقيم وزنا لقيم العمل والجهد، في المعرفة وفي انتاج ما يستهلكه، والأصالة والجودة. ليس معنى هذا أن الجيل السابق متميز في ذلك، ولكنه على الأقل كان يسير على اساس ان تلك معاييره لكن معايير الميلينيالز مختلفة تماما. ولا يعني ذلك حكما قيميا من أي نوع، ولا صح أو خطأ، إذ إن كل ما يتعلق بالبشر والعلوم الإنسانية عموما هو نسبي جدا. إنما القصد هنا هو كيف يمكن لهذه الهوة أن تؤثر في حياة الجميع، وربما الحضارة الانسانية ككل.
ليس من قبيل المبالغة الإشارة إلى "الحضارة"، فهي في النهاية ببساطة مجمل انتاج البشر وما يراكمونه من انجازات في تطويع الحياة على الأرض وما يصاحب ذلك من سلوكيات وقيم ومبادئ. وهذا بالتحديد صلب ما يختلف فيه الميلينيالز عن الأجيال الحاليةوالسابقة، ما يعني أنه لا مغالاة هناك حقا. ربما كان العالم، الذي بدأ فترة انتقالية نحو تغيير كبير في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، يمر فعلا بمرحلة تحول جذري لكن الأهم أن محور هذا التحول هم الميلينيالز. لا أريد ان استبق ما هو بعد توقعات واخلص إلى أن الأجيال السابقة للجيل الجديد أصبحت "بلا جدوى" ـ إذ انها ما زالت تمسك بزمام الأمور إلى حد ما بل وهي التي في محاولتها التكيف مع متطلبات الجيل الرقمي تسهم بشكل كبير في هذا التغيير الهائل. لكن يبقى أن من سيطول عمره ليشهد وصول جيل الميلينيالز إلى أواسط العمر وما بعدها سيجد نفسه فعلا "خارج التاريخ".
ما يميز البشر انهم ليسوا كالكائنات البدائية التي كان لا بد لنوع منها أن ينقرض تماما ليظهر نوع جديد (حتى ما قبل عصر الديناصورات). ولعل تطور الحضارة البشرية في حلقات متشابكة، تتداخل فيها مرحلة مع التي تليها، أوضح دليل على تلك الميزة. إلا أن النقلة الحالية تختلف عن كل سابقاتها من حلقات تطور الحضارة البشرية، ولن يكون في جيل الميلينيالز (والأجيال التي تليه، ويعلم الله كيف ستكون) من يهتم كثيرا بمسألة "التواصل" الحضاري ـ فهذا متروك لويكيبيديا وغوغل وغيرها على الانترنت. وما التراكم لهذا الجيل سوى المخزن على "الكلاود" (السحاب الالكتروني) وليس حتى الأقراص المدمجة أو الأقراص الصلبة. وحين يصبح التراث الإنساني ملفات، ستتسع طاقة التخزين لكل الحضارات السابقة ولن يحتاج الجيل الجديد والأجيال التي تليه لجهد كثير للاطلاع ـ هذا إذا كان في اهتمامهم بالأساس الاطلاع.
وتلك هي النقطة التي يخشى منها على الميلينيالز والأجيال التالية: الاطلاع والتأصيل. فمع تحول حياتنا تدريجيا إلى ما بعد الرقمية (أي الفيرشوال، أو محاكاة الواقع) سننفصل عن الواقع خطوة خطوة حتى ندخل الطور الحضاري الجديد في "شبه واقع" يحاكي ما "كان واقعا" ـ وإذا كان يصعب عليك فهم هذا أو تصوره، فلتبحث عنه في غوغل.