ناصر بن محمد الزيدي:الحمـد لله والصـلاة والسلام عـلى سـيـد خـلـق الله، وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه، وعـلى مـن تبعهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد: فإن الله أكـرم الإنسان عـن سـائـر مخـلـوقاته بالعـقـل الـذي هـو مـناط التكـلـيف، ولـكـن بما يعـرف العـقـل: بمـاذا يعـرف عـقـل الـرجـل: قـيـل لبعـض الحـكـماء: بـم يـعـرف عـقـل الـرجـل؟ فـقال: بقـلة ســقـطه في الـكـلام، وكـثرة إصابته فـيه، فـقـيـل له فإن كان غـائباً؟ قال: بإحـدى ثـلاث: إما بـرسـوله أو بـكتابه أو بهـديته، فـكل ذلك يـدل عـلى صـاحـبه. قال الأصـمعـي: وقـف أعـرابي أمام الـروضة الشـريفة، فـقال: اللهـم هـذا حـبيـبك وأنا عـبـدك، والشـيطـان عـدوك، فإن غـفـرت لي فـسـر حـبيـبك، وفـاز عـبـدك وغـضـب عـدوك، وأنـت أكـرم مـن أن تغـضـب حـبـيـبك، وتـرضي عــدوك، وتهـلك عـبـدك.قـال بعـض أصحـاب رسـول الله (صـلى الله عـليه وسـلم)، لسـيـدنا عـمـر بن الخـطـاب ـ رضي الله عـنه: إن الناس خـافـوا شـدتـك وبطـشـك، فـبـكـى ـ رضي الله عـنه ـ وقال: لـو يـعـلـم الناس ما في قـلبي مـن الـرحـمة، لأخـذوا عـباءتي هـذه ولـكـن هـذا الأمـر لا يناسـبه إلا كـما تـرى.الله سـبحانه وتعـالى يـقـول:(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا..) (الـنـور 30 ـ 31).هـذه العـين سـمـيت كـريمـة الإنسان، لأن الله كـرمه بها، لـماذا خـلـقهـا الله له؟ هـل خـلقهـا الله له لـيرى بها العـورات؟ أو لـيرى بها الـمـوبقـات؟ أو لـيرى بها المحـرمات؟، أو لـيرى بها النساء الـكاسـيات العـاريات؟، أم لـيرى بهـا آيات الله الـدالة عـلى عـظـمته سـبحـانه وتعـالى، ويـتـدبـرها حـق الـتـدبـر.فالعـين التي تغـض عـن محـارم الله، والعـين التي تحـرس في سـبـيـل الله، والعــين التي ينهـمـر مـنها الـدمـوع مـن خـشـية الله، هـذه عـين شـريفة طاهـرة مقـدسة، فإذا كانـت تـلك العـين بـذلك الـمـسـتـوى، فالله كـفـيـل أن يـمـتـع بـهـا صاحـبها، ولـذلك جـاء الـدعـاء في الحـديـث الـنبـوي الشـريف:(ومـتعـنا اللهـم بأسـماعـنا وأبصـارنا وقـوتـنا ما أحـييـتـنا).يعـني: أي عـين تغـض عـن محـارم الله، وتبـصـر آيات الله، وتسـبح الله، وتكـبره وتحمده، هـذه العـين الـمـرجـو مـن الله أن يحـفـظـها لصاحـبـها إلى نهاية الحـياة الـدنيـا الفانية.قال بعـضهـم: لا تجـعــل الله أهـون الناظـرين إلـيـك، فالإنسان يكـون أحـياناً أمـام شـخـص فـيحـسن نفـسه، يلبـس أحـسن ثـيابه ويتـعـطـر بأفـضـل عـطـره، وإذا دخـل بيـته يـرتبه لأنه يـسـتحـيـي مـنه، فـلـماذا يجـعـل الله أهـو الناظـرين إليه ويـقـارف المعـاصي وهـو يـعـلـم أن الله يـراه ومطـلـع عـلى جـميـع خـفاياه.ولـما إذا ذهـب إلى بيـت مـن بـيـوت الله لـيـؤدي الصـلاة مـع الجـماعـة، يـذهـب باخـس ثـيابه، بـل بعـضهـم يـذهـب إلى المسـجـد بـثياب الـرياضـة، وآخـر يـذهـب بثـياب الـنـوم، فـهـل هـذا يـدل عـلى الإيمـان ، فـهـو بتصـرفـه ذلك جـعــل الله أهـون الناظـرين إلـيه، ولـو تفـكـر وتـدبـر تعــم الله عـلـيه لما تصـرف ذلك التـصـرف.حـبال الكـذب قـصار:ويحـكى أن رجـلا كان يـدعي أن كل حـديـث يـسـمعـه ، يـعـرضه عـلى رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلـم) في اللـيـل، ويـرى النبي (صـلى الله عـليه وسـلم) في المـنـام لـيـلاً ويسأله هـل قـلـت هـذا الحـديـث أو لـم تقـله؟.يـقـول الـرسـول: نعـم أو لا، فـسـمـع به رجـل ذكي فأراد أن يظهـر كـذبه وافـتراءه عـلى رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم)، إذ كان يأخـذ الحـديـث ويـراجــع في اللـيـل الكـتـب، ويـقـول لـك هـذا الحـديـث صحـيح أو مـوضـوع، ويـدعي أن النبي (صلى الله عـليه وسـلم) هـو الـذي أخـبره بـذلك كـذباً وافـتـراء عـلى رسـول الله (صـلى الله عـلـيه وسـلـم).فـجـاءه أحـدهـم بحـديـث ضـعـيـف وعـرضـه عـليه، وقال: أجـبني غـداً، بـما يـقـول الـرسـول في هـذا الحـديـث أصـدر عـنه ولـم يـصـدر؟ أخـذ الـرجـل الحـديـث وراجـع الكـتـب، فـرأى أنه ضـعـيـف قال: والله أخـبرني أنه ضـعـيـف، والنبي إن سـئـل يقـول لك قـلـته أو لـم أقـله: أما أن يـقـول لك أنه ضـعـيـف فـهـذا تـزويـر عـلى رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم)، فـبهـذه الطـريقـة كـشـف هـذا الكـذاب.ويـروى أن الإمام أبا حـنيـفـة ـ رحـمه الله ـ رأى طـفـلاً صـغـيراً أمام حـفـرة فـخـشي أن يـقـع الـطـفـل فـيها، فـقال: احـذر يا غـلام أن تسـقـط فـيها، وكان هـذا الـطـفـل مـن الفـطـنة والـذكاء بمـكان، قـال: بـل أنـت يا إمام إياك أن تسـقـط لأني إن سـقـطـت، سـقـطـت وحـدي، وأنـت إن سـقـطـت سـقـط الـعـالم مـعـك.وقال بعـضـهـم: مـن أخـفى عـن غـير الله، ما لا يخـفـيه عـن الله، فـقـد اسـتهان بنظـر الله إلـيه ، ويـقال إن إحـدى ثـمـرات الإيـمان، أن تـشـعـر أن الله مـعــك، وهـو ناظـر إلـيـك ومـطـلـع عـلى جـميع أسـرارك.وقال أحـد العــلـماء: أوحى الله تعـالى إلى نبي مـن أنبيـائه، قـل لـقـومـك ما بالـكـم تسـترون الـذنـوب مـن خـلـقـي وتظهـرونها لي، إن كـنـتـم تـرون أني لا أراكـم فالخـلل في إيـمانـكـم، لأنـكـم مشـركـون بي، وإن كـنـتـم تـرون أني أراكـم فـلم تجـعـلـوني أهـــون الناظـرين إلـيـكـم.وقال بعـض السـلـف يـقـول أتـراك تـرحـم مـن لـم يقـر عـينيه بمـعـصـيتـك، حتى عـلـم أنه لاعــين تـراه غــيرك، وقال بعـضهـم: ابن آدم: إن كـنـت حـيـث ركـبـت المعـصية لـم تـصـف لـك مـن عـيني ناظـرة إلـيـك، فــلـما خـلـوت بالله وحـده صـفـت لك معـصـية، ولـم تستحـيي مـنه حـياء مـن بعـض خـلـقـه، ما أنـت إلا أحـد رجـلـين: إن كـنـت ظـنـنـت أنه لا يـراك فـقـد كـفـرت، وإن كـنـت عـلـمـت أنه يـراك فـلـم يـمـنعـك مـنه ما مـنعـك مـن أضـعـف خـلـقـه إليه، لقـد اجـتـرأت عـلى الله.سُـئل رجـل كـبير فـقـالـوا له: هـل مـن هـو أكـبر مـنـك؟ ، فـقال: نعـم، والأكــبر هـناك مـن هـو أكـبر مـنه؟، أكـبر وأكـبر وهـكـذا ، والله هـو أكـبر مـن الجـمـيـع، وأنا مـع الله.فالأكـبر، هـناك مـن هـو أكـبر مـنه، فإن كـنـت عـالـماً، فـهـناك مـن هـو أعـلـم مـنـك، وإن كـنت قـويا فـهـناك مـن هـو أقـوى مـنـك، وإن كـنـت غـنيا فـهـناك مـن هـو أغـنى مـنـك، وإن كـنـت ظـالـما فهـنـاك مـن هـو أظـلـم منـك، أما الكـبـير الـذي لـيـس فـوقـه أحـد، فـهـو الله وحــده المتـفـرد بالقـدرة والعـلـم والغــنى، فإذا كـنـت مـع الله فأنـت أقـوى الناس، وأغـنى الناس، وأعـلـم الناس.والـدين أساس صلة بالله، التجـاء إلى الله، وغـير الـمـؤمـن يلـتجـأ إلى مخـلـوق مـثـله، يعـني إما أن تكـون عـبـداً لله، وإما أن تـكـون عـبـداً لعـبـد الله، فالله سـبحانه وتعالى يـفـعـل ما يشـاء، ويحـكـم مـا يـريـد، وما دام يـفـعـل ما يشاء ويـحـكـم ما يـريـد ولا معـقـب لحـكـمه ولا راد لـقـضائه، إذن: هـو المقـصـود وهــو القـوي وهـو الـغـني، وهـو القـهار والـفـعـال لـما يـريـد... وللحـديث بقـية.