[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
”.. حتى نتعرف بشكل أكثر دقة ووضوحا ولو بشكل موجز حول مفهوم مبدأ الانعزالية وبالتالي شكل الدول التي يمكن ان توصف سياساتها بالسياسات الانعزالية, وماذا قصد بهذا المفهوم من الناحية السياسية, فإنه لا بد من العودة ولو قليلا إلى بعض الجذور التاريخية التي تطور معها هذا المفهوم. حيث لاحظنا ومن خلال تتبع اصول هذا المبدأ انه برز بشكل واضح في القرن 19م – 1801/ 1900م.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما وضع مؤسس وباني نهضة الدولة العمانية الحديثة, حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه – أسس ومبادئ السياسة الخارجية العمانية كما اشرت إلى ذلك في دراسة لي تحت عنوان: المبادئ المؤسسة للسياسة الخارجية العمانية في الخطابات السلطانية في الفترة من1970م - 1975م فيما اطلقت عليها بمرحلة التخلص من اطواق العزلة السياسية أو الأحادية التي عاشتها سلطنة عمان اختياريا في جانب التأثير السياسي فقط وليس عزلة العلاقات الدبلوماسية أو الدولية نتيجة الظروف السياسية والتدخلات الخارجية التي مرت بها في تلك الفترة والتي اشار إليها صاحب الجلالة – حفظه الله – بنفسه في العديد من خطاباته. كخطابه بمناسبة العيد الوطني الاول بتاريخ 23/7/1971م بقوله : الكل يعلم ان العزلة التي فرضت على عمان حالت دون أي اعتبار لمعالم سياسة خارجية, وقد بذلنا الجهد لفك أطواق العزلة, يضاف إلى ذلك التوجه الوطني المستقل والداخلي لجهود السياسة العمانية التي اراد لها صاحب الجلالة - حفظه الله- منذ بداية بناء وتأسيس الدولة العمانية الحديثة ان تتفرغ لبناء الداخل بعيدا عن أي ارباكات خارجية للطموح والسلام.
وفضلت حينها ان اصف تلك الفترة بالانعزالية الطوعية أو الأحادية العمانية في جانب التأثير السياسي فقط, وليس عزلة العلاقات الدولية أو الدبلوماسية, كون الانعزالية مبدأ تحكمه المواقف والظروف, ويتناقض مع مفهوم الانعزال أو العزلة السياسية السلبية, فهذه الاخيرة هي : (نقيض التفاعلات الدولية وهي بالتأكيد خلاف الوضع الطبيعي لأي كيان سياسي فضلا عن أية دولة, ولطالما قيست قوة الدول بقدرتها على التأثير في مجمل العلاقات الدولية) سواء كان ذلك التأثير عبر سياسات ناعمة أو صلبة. وقد جاء هذا الوصف بكل وضوح في خطاب صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله- بمناسبة العيد الوطني الثاني بتاريخ 18 / 11 / 1972م بقوله حفظه الله: كان لزاما علينا ان نبتدئ من الاساس ومن واقعنا. وهذا الأساس هو الشعب العماني, وقد سلكنا مختارين اصعب السبل لنخرج به من عزلته. كما ان قاموس أكسفورد للغة الانجليزية كانت إشارته الأولى واضحة للمفهوم في العام 1901م , حيث اشار إلى العزلة السياسية بقوله: "الانعزالي الشخص الذي يفضل العزلة أو يدافع عنها". وهو ما لا يمكن بحال من الأحوال ان توصف به التوجهات والمبادئ والأسس التي قامت عليها السياسة الخارجية العمانية من خلال ما نطلق عليه بمصطلح توسم الأمة أو توسيم الأمة العمانية في واجهتها السياسية والتي وضعها عاهل البلاد – حفظه الله – في الخطابات السلطانية التأسيسية.
كما ان المبادئ الخمسة التأسيسية التي قامت عليها القيم والركائز الأخلاقية ومبادئ السياسية العمانية في جانب العقيدة المؤسسة للسياسية العمانية الخارجية كما سبق وأشرنا, تؤكد ذلك بكل صراحة ووضوح. حتى ان الالتزام بالخط الذي تسير عليه دول العالم الثالث وهو خط الحياد, والذي يعد من ابرز مبادئ السياسة الخارجية العمانية كما اشار إليه المبدأ الخامس منها, واكده النظام الأساسي للدولة في المبادئ السياسية. وكذلك قانون تنظيم وزارة الخارجية, وكما جاء على لسان صاحب الجلالة: بأن الالتزام بذلك الخط, أي,عدم الانحياز لا يعني الانقياد التام للمفهوم من خلال نزع الشخصية الوطنية العمانية وخصوصيتها ومصالحها السياسية وأهدافها الجيوسياسية. حيث أكد قائلا حيال هذا المفهوم: ان عمان حضرت مؤتمر عدم الانحياز وساهمت فيه, وعمان تحبذ الحياد وعدم الارتماء في أحضان المعسكرين – المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الاميركية وأوربا والمعسكر الشرقي الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي والصين – ولكن وهي النقطة التي فصلت بين الانقياد لهذا المفهوم واستقلال الشخصية السياسية العمانية, ولكن كما قال صاحب الجلالة أعيد كلمة قلتها قبل قليل بان: لكل واحد أصدقاء.
وحتى نتعرف بشكل اكثر دقة ووضوحا ولو بشكل موجز حول مفهوم مبدأ الانعزالية وبالتالي شكل الدول التي يمكن ان توصف سياساتها بالسياسات الانعزالية, وماذا قصد بهذا المفهوم من الناحية السياسية, فإنه لا بد من العودة ولو قليلا إلى بعض الجذور التاريخية التي تطور معها هذا المفهوم. حيث لاحظنا ومن خلال تتبع اصول هذا المبدأ انه برز بشكل واضح في القرن 19م – 1801/ 1900م مع الدعاية التي اثارها بحارة مثل الكابتن الفريد ثاير ماهان, وهو ضابط ومؤرخ وجيوستراتيجي في البحرية الأميركية، والذي اراد ان يلصق بنقاده المعادين للكولونيالية Colonialism والتي تعني الاستعمار والسيطرة والهيمنة والسعي للحروب والصراعات, ويرادفها في العصر الحديث مفهوم الامبريالية Imperialism , باعتبارها صفة تقول انهم افظاظ من الطراز القديم, وعلى هذا اعلنت صحيفة واشنطن بوست في وقت الحرب الاسبانية – الاميركية ان: سياسة العزلة قد ماتت والتي قصد بها في وقتها ما اطلق عليه واشتهر قبل ذلك بمبدأ الحياد الرجولي, حيث ان مبدأ الانعزالية لم يذكر حتى تسعينيات القرن التاسع عشر, وان الكلمة نفسها دخلت الاستخدام العام فقط في ثلاثينيات القرن العشرين, بالرغم من ان انعزاليي ثلاثينيات هذا القرن لا يستخدمون هذا اللفظ " انعزالي "ويفضلون ان يسموا انفسهم بالحياديين او القوميين.
وقد اشار إلى مبدأ الحياد الرجولي أو الأحادية الرئيس الاميركي جورج واشنطن اثناء حرب الاستقلال الاميركية بقوله: ان موقفنا المنعزل والمتباعد يدعونا ويمكننا من ان نتبع منهجا آخر, لماذا نضيع مزايا هذا الوضع الخاص جدا؟ لماذا نهجر ما لدينا لنقف على ارض غيرنا؟ لماذا نشبك مصيرنا بأي جزء من اوروبا, ونربك سلامنا وازدهارنا بمكايدات الطموح والتنافس والمصلحة والدعابة, او الهوى الاوروبي. وقد عبرت رسالة او وثيقة الوداع له عن هذه القيم والمبادئ بكل وضوح خصوصا في النقطة الاولى والتي قال فيها انه: يجب ان تكون السياسة الخارجية الدرع الذي لا غنى عنه للجمهورية, ولكن الحماقة والتحيز والتحزب والطموح المتعجل يمكن ان تحول السياسة الخارجية إلى خطر على الاستقلال والحرية.
وسار على ذلك النهج عدد من كبار القادة السياسيين المؤسسين الاميركيين والبريطانيين من امثال رئيس الوزراء البريطاني روبرت والبول والرئيس الاميركي بنجامين فرانكلين. فالأحادية او الانعزالية لا تعني ابدا ان الولايات المتحدة يجب ان او سوف تعزل نفسها او تتبع سياسة محاكاة النعامة تجاه الاقطار الأجنبية, انها تعني ببساطة كما اكد كل من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الاميركية من امثال هاملتون وجيفرسون ان مسيرة الولايات المتحدة الواضحة كانت ان تتجنب الاحلاف المربكة الدائمة, وان تبقى محايدة في حروب اوروبا الا عندما تكون حريتنا في خطر, وكذلك سياسة بريطانيا التي استغلت مزايا كونها جزيرة منعزلة, لتغذي توازن القوى في القارة الاوروبية, بينما تتجنب الحروب على الارض قدر الإمكان, وتعمد على بحريتها وتسيطر على تجارة العالم, وهو ما عبر صاحب الجلالة السلطان ـ حفظه الله ـ كما اشرنا سلفا بقوله: ان الالتزام بذلك الخط , أي ,عدم الانحياز لا يعني الانقياد التام للمفهوم من خلال نزع الشخصية الوطنية العمانية وخصوصيتها ومصالحها السياسية وأهدافها الجيوسياسية.
ويفسر والتر.أ. مكدوجال في كتابه ارض الميعاد – اميركا في مواجهة العالم منذ العام 1776م في هذا السياق اسباب مبدأ الحياد الرجولي أو الاحادية الاميركية حينها بقوله: ان الحياد هو الطرق الوحيد الأخلاقي والبراجماتي النفعي للأمة الجديدة, فعقد الاحلاف لا يمكن الا ان يأتي بالفساد في الداخل والخطر من الخارج, بينما الحياد يحمي الحرية والنمو القومي, فهل كانت هذه الخيارات السياسية سهلة دائما بحيث يستطيع المرء ان يكون ناجحا عندما يفعل الشيء الصحيح؟ وقد عبر المفوض السويدي في لندن في العام 1748م لجون ادامز الذي كان يسير على نفس النهج بقوله, سيدي: انني اعده امرا مسلما به انك سوف يكون لديك الإحساس الكافي لترانا في اوروبا يقطع كل منا رقبة الآخر, بينما تراقبنا بهدوء فلسفي.
لذا يمكن القول: ان العزلة أو الانعزالية التي تطرق إليها باني ومؤسس الدولة العمانية الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه - والتي سعى إلى فك اطواقها وتحطيم قيودها منذ سبعينيات القرن الماضي لإخراج الامة والشعب العماني منها هي عزلة التأثير السياسي الطوعي الذي عاشته عمان في الفترة التي سبقت توليه مقاليد الحكم, وليس انعزالية العلاقات الدولية. بالتالي فإن السياسة الخارجية العمانية منذ العام 1970م لم تعزل نفسها سلبيا او تتبنى موقف الانعزالية او الحياد السلبي عن العالم لا في علاقاتها ولا في مواقفها السياسية تجاه مختلف القضايا الدولية, بل هي في غالب ذلك تسير وفق منهج احادي مستقل. ثابت الاستراتيجيات القيمية والتقاليد السياسية, هو اقرب ما يكون إلى مكون من المواقف التقليدية التاريخية الملائمة لتوجهات ومبادئ وقيم الامة العمانية الحضارية والشعب العماني الأصيل, كالحياد الرجولي والانعزالية الايجابية , مع التأكيد على تكتيكية الحركة والتغيير الذي تتطلبه العلاقات الدولية والمصالح الجيوسياسية الوطنية، بحيث اننا وبكل تأكيد لا يمكن ان نعزل انفسنا عن الاستثناءات والتناقضات التي لا يمكن ان تخلو منها سياسات وتوجهات الدول قديما وحديثا, ولكن دائما ما تبقى الثوابت الاخلاقية والقيم السياسية الوطنية هي الثابت التي تتحرك بناء عليه السياسة الخارجية العمانية في علاقاتها ومواقفها الخارجية مع الدول والسياسات والتوجهات العالمية, وان وصف سياساتها ومواقفها الراهنة تجاه العيد من القضايا الاقليمية والدولية بالانعزالية السلبية او العزلة السياسية اشبه ما تكون بالدعاية التافهة التي اثارها بحارة مثل الكابتن الفريد ثاير ماهان الذي اراد ان يلصقها بنقاده المعادين للكولونيالية او الامبريالية او الاستعمارية التوسعية الذين رفضوا الدخول في موجة الحروب والصراعات الاوروبية في وقتها وارباك انفسهم بتحالفات عسكرية وسياسية فضفاضة لا تخدم مصالحهم الجيوسياسية او تتوافق والثوابت والتقاليد التاريخية لسياساتهم الخارجية.

هذا المقال جزء من دراسة للكاتب

محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية [email protected] تويتر - MSHD999@